الهوية القومية تمثل أحد مكونات الآلة المفهومية والاصطلاحية الحداثية المرتبطة بالتطور التاريخى للرأسمالية الأوروبية، وتمددها، وتوحيدها للأسواق، ومن ثم للمجتمعات الأوروبية حول الدولة الأمة، التى ساهمت فى تشكيلها بقوة الحركات القومية. عززت الهوية القومية القيم السياسية الليبرالية والنظام الديمقراطى فى عديد أشكاله نموذج الدولة اليعقوبية الفرنسية، ووستمنستر البريطانى- ومبدأ «رجل واحد صوت واحد»، وتشكل التعددية السياسية والحزبية، والأهم الثقافة السياسية الديمقراطية فى أطر التعليم وأنظمته، والمنظومات القانونية الوضعية، وهندساتها الحديثة التى كرست دولة القانون والحق. ساعدت وحدة اللغة السائدة فى كل دولة وفرضها على جميع المواطنين، فى عملية التوحيد الهوياتى التاريخية. المخيال القومى وذاكراته فى بناء الهوية، لم يعتمد على التكوين المغلق والأحادى للهوية، فى مجتمعات ترتكز تاريخياً على التراث الثقافى اليهودى المسيحى فقط، وإنما على مصادر متعددة، وتتسم بالدينامية والتفاعلات بين هذه المكونات تاريخياً، ومن ثم لم تتمحور حول المكون الدينى، لأن تطور النماذج العلمانية الأوروبية- الفرنسية والبريطانية والإيطالية والألمانية- اتسم بعضها بالخصوصيات القومية لكل دولة، وميراثها الثقافى والحضارى. تطورت الأنظمة السياسية الأوروبية ونماذجها مع التطورات التقنية وثوراتها المتعددة، وتراكمات الخبرات السياسية والاجتماعية، وتطور المجتمعات المدنية، خاصة فى ظل انفصال الوضع عما وراءه. مفهوم الهوية القومية لم يؤد إلى إزاحة روافدها المتعددة، ولا الهويات الأخرى ولا إقصائها واستبعادها، وإنما شكلت مصادر حركية وحيوية لها . مع وصول الحداثة الغربية إلى مأزقها التاريخى، ومعها مفاهيم الحقيقة والعقل والسرديات الكبرى، بدأت المجتمعات الأوروبية فى التحول إلى مجتمع الاستعراض، والإنسان الاستهلاكى، وتحول كل ما هو حقيقى إلى تمثيل واستعراض، فى ظل ثورة الاستهلاك للسلع والخدمات مع الثورة الصناعية الثالثة. أدى هذا التحول إلى الشرط ما بعد الحديث وفق ليوتار-، وإلى عالم النسبيات، وإلى بروز هويات متجاورة حول النوع الاجتماعى ذكر وأنثى-، والمهنة... إلخ. أدى التحول إلى ما بعد الحداثة، والأجيال الشابة الجديدة فى أوروبا وغيرها من دول شمال العالم الأكثر تطوراً، إلى طرح عديد الإشكاليات على مفاهيم مثل القومية والأمة والسيادة فى ظل تغيرات العولمة، ووحدة الأسواق. تتآكل هذه المفاهيم نسبياً لصالح ديانة السوق النيو ليبرالية، وانعكاساتها الاجتماعية القاسية على الطبقات العاملة، والوسطى على نحو ما يحدث فى فرنسا ودول أوروبية أخرى، حيث ترتفع معدلات البطالة، وتزايد أسعار السلع والخدمات أدت أيضا الرقمنة إلى بدء تحولات نحو مفاهيم جديدة للعمل، ومكانه ونوعيته، على نحو يؤدى إلى خروج ملايين من العمال عن دائرة العمل لأن أعمالهم وخبراتهم السابقة تغيرت، ولم تعد قائمة ولا تحتاجها الشركات الكبرى، وتقوم بها الأناسِى الآلية Robots، من مثيل التسويق والتوزيع الآلى، والعامل الآلى، والتصنيع الآلى المرقمن، وهو اتجاه سيتزايد سنويا مع ثورتى الرقمنة والذكاء الصناعى، والتطوير المتزايد للإنسان الآلى وأدواره فى الإنتاج والتسويق والتوزيع.. الخ بل وربما فى تطويره الذاتى، وفى الإدارة الرقمية . لا شك فى أن هذا التحول إلى عالم الروبوتات سيمتد إلى مجالات كثيرة ولن يقتصر فقط على حلول الإنسان الآلى محل الإنسان الطبيعى فى الإنتاج والوظائف الخدمية، وفى تحول التعليم إلى الرقمنة، وتأثيرات ذلك على الفنون، والآداب والسينما والمسرح والغناء والموسيقى..الخ، وهو ما بدأ مع فيروس كورونا، وفى أثنائه، وسيتزايد ما بعد صدمة الفيروس المتحول. ان الحديث فلسفياً، وسوسيولوجيا حول ما بعد الإنسان، يدور حول التداخل بين الإنسان، والروبوتات، وتدخل الذكاء الصناعى، فى التكوينات الجينية للإنسان لرفع معدلات الذكاء، وفى التغيير الجينى من أجل مواجهة الأمراض، وإدخال بعض الشرائح الذكية/ الرقمية فى العقل والجسد الإنسانى ستسهم فى إحداث تغييرات فى الطبيعة الإنسانية، لاسيما أن فيروس كورونا المتحول أحدث انكشافا فى الحياة الإنسانية، وألقى بظلال من الشكوك حول مقولات الإنسان مركز الكون فى علاقته بالطبيعة، وبروز مشكلات البيئة التى تزداد مخاطرها على أنماط الحياة فى عالمنا. هذه التغيرات، لا شك أنها ستلقى بظلالها على مفهوم الهوية الوطنية، وستؤدى إلى سرعة وكثافة عمليات التشظى فى تكوين المجتمعات والدول، وفى الذاكرات الجماعية، وتخييلات الهوية الكلية، والهويات الأخرى، بل وعلى هوية الفرد ذاته، أى على مستويات الإدراك والوعى الجمعى والوعى الفردى ومن ثم بناء الهويات ذاتها، وربما على مفهوم الهوية الذى قد يغدو مفهوما تاريخيا وحداثيا، سينتهى، وتحل محله مفاهيم أخرى، ومسميات واصطلاحات جديدة تماماً تكون قادرة على وصف وتحليل الوضعية والشرط الإنسانى المتغير وما بعد الإنسانى، إذا استمرت أوضاع التطور فى اللغة والمصطلحات المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة، وتحل بديلا عن مصطلحات وفلسفات ما بعد الحداثة وما بعدها، ناهيك عن الحداثة ذاتها التى تم التشكيك فيها، وفى ظل حقائقها ومسلماتها، وتنظيمها الاجتماعى والسياسى، وسردياتها الكبرى التى انهارت. لا شك فى أن أثر ثورتى الرقمنة والذكاء الصناعى، وعالم الفيروسات الغامضة والمتحولة، ستساهم فى إحداث تحولات فى النظم السياسية، والحزبية ومدى فعالياتها فى تمثيل أنماط جديدة من المصالح للقوى الجديدة التى ستظهر من خلال التحول إلى عالم الإنسان، والإنسان الآلى والذكاء الصناعى. هذه التغييرات التى يحدث بعضها الآن، ستتحول فى قادم من السنوات والعقود إلى عالم مختلف تماما لم تشهده الحضارات الإنسانية كلها، ولا التاريخ الإنسانى. من ثم تطرح أسئلة على دعاة الهوية الدينية المغلقة من منظرى الجماعات الدينية السياسية، أو الهويات العرقية، أو حول النوع الإنسانى ذكرا وأنثى- أسئلة صادمة، لأن موضوع الهوية كمفهوم وتنظيرات أحادية وتاريخية، سيكون قد طوى ضمن ما سيطوى فى العالم الجديد الذى تتخلق بعض من ملامحه فى حاضرنا. عالم يبدو مخيفا، يحملُ مستقبلاً غامضاً للشرط الإنسانى، ووجوده، وتاريخه.