قد لا تكون البشرية قد ابتليت بشئ فى تاريخها أشد تدميراً لوجودها، وأعمق تشويهاً لجمالها، وأكثر إرباكاً لحركتها من فكرة النظام system، تلك الفكرة التى تحولت إلى إجراءات وقواعد وأنماط حركة ومؤسسات، وصارت تتحكم فى كل شئ فى حياة الإنسان، بل إنها حولت الإنسان ذا الإرادة الحرة المختارة حتى مع خالقه، حولته إلى جماد أو حيوان من الأنواع الأدنى قدرة وذكاء، فصار الإنسان فاقداً للإرادة، غير قادر على الاختيار، يتحرك فى قطيع يتحكم فيه مجموعة من البشر، تقل هذه المجموعة وتتضاءل حتى تصل إلى بضع عشرات حين يصل النظام إلى قمة هرمه الدولي. استمرت البشرية لآلاف السنين قائمة على التعدد والتنوع اللامتناهى الذى يجعل من كل إنسان عالماً بذاته، يختلف عن غيره بنفس قدر اختلاف رمزه الوراثى وبصمة أصابعه، وظل هذا التنوع والتعدد سائداً فى جميع المجتمعات، وتعود معها الإنسان أن يحترم الاختلاف فى اللون وفى اللسان وفى المظهر وفى العادات والتقاليد والأديانة.الخ. جاءت الحداثة الأوروبية بنظرتها الاستعلائية ونزعتها التحكمية، ورغبتها فى السيطرة على الكون بكل مكوناته من الطبيعة إلى سلوك البشر، وانعكس ذلك فى كل منتجات الحداثة الفكرية والثقافية والفنية والقانونية والعلمية، وظهر معنى جديد للعلم يقوم على مبادئ ثلاثة هى: التعميم والإطلاق والتنبؤ، كل ذلك من أجل التحكم فى الكون والطبيعة، أو فى السلوك البشري. هنا تحولت رؤية الإنسان للعالم من التعدد والتنوع والاختلاف، إلى النمطية والواحدية، والحركية الخطية المتقدمة المتصاعدة، ومن ثم لم يعد هناك تنوع أو تعدد، وإنما هو خط واحد يصطف عليه البشر طبقاً لمدى قربهم من النقطة التى وصل إليها أكثرهم نضجا وتطوراً وتقدما فى أوروبا، والباقون يسيرون خلفها، سعياً للوصول إلى ما وصلت إليه الحداثة الأوروبية، فالبشر جميعاً ليسوا مختلفين عن أوروبا، بل متخلفون عنها. لذلك كان يحلو لعلماء الأنثروبولوجيا أن يعرفوا القبائل التى أطلقوا عليها «بدائية» ولهذا المفهوم دلالة تؤكد تلك النظرة الواحدية الاستعلائية، بأنهم «أجدادنا المعاصرون» لأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا أن لهم نمط حياة مختلفا، أو طريق تطور مختلفا أو حركة تاريخية مختلفة، لأن العقل الحداثى يؤمن أن للبشرية طريق واحد مهدته لهم أوروبا، وسارت فيه قبلهم، وما على البشر إلا أن يسيروا خلفها، ويقتفوا أثارها، ويقلدوها فى كل شئ، وإلا سيظلون خاملين راكدين متوقفين عن الحركة، أو متخلفين فى سرعة الحركة. وقد ترسخ هذا الفهم فى عقول أبناء العالم غير الغربى فأصبحوا ينظرون لأنفسهم ومجتمعاتهم بنفس المنظار الحداثي، فتصبح غاية مجتمعاتهم «اللحاق بركب الحضارة» وكأن الحضارة قافلة تسير فى طريق واحد وحيد، ولابد من أن نجرى فى نفس الطريق للحاق بالركب، وكأنه لا توجد طرق أخري، ولا دروب مختلفة، ولا غايات ومقاصد متنوعة. وأصبح مثقفو العالم غير الغربى يعتقدون أن تغيير مجتمعاتهم، وإخراجها من حالة الركود التى تعيشها يتطلب أن تتبع نفس الروزنامة الأوروبية من عصر النهضة والأنوار إلى الحداثة، وأنها هى «وصفة» علاجية وضعها الطبيب الأوروبى وعلى الجميع أن يتبعها وإلا لن يتقدم، ولن يخرج من حالة الركود والفساد التى يعيشها، فكما قامت أوروبا بثورة بروتستانتية، لابد أن نقوم بمثلها، وكما أخرجت الدين من المجال العام؛ لابد أن نفعل ذلك، وكما إعتمدت العلمانية المفرطة، فلاسبيل لنا غيرها، وكما أطلقت أوروبا المردة الثلاثة الكامنة فى الإنسان: القوة «نيتشة» والاقتصاد «ماركس» والجنس «فرويد» فلا سبيل أمامنا نحن أبناء العالم غير الغربى إلا أن نتوزع على هؤلاء الثلاثة، ونرى الوجود البشرى من خلال مقارباتهم. لقد نجحت الحداثة من خلال وسائلها المتعددة فى صناعة العالم طبقا لمعاييرها، وعلى مقاسها، فكريا وعلميا وفنيا وجماليا وسياسيا، واستخدمت لتحقيق هذه الغاية كل الوسائل: سواء التغيير بالقوة من خلال آليات الاستعمار والاستيطان، والحروب الديموغرافية، أو من خلال آليات تغيير الأفكار من خلال الثقافة والسينما والفنون، أو من خلال الآليات العلمية من خلال إبداع علوم خاصة لتغيير العالم غير الغربى من الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا إلى التنمية بكل تمظهراتها ونسخها المتعددة التى آخرها التنمية المستدامة، من خلال كل ذلك تم إعادة صناعة العالم على المقاس الأوروبى التاريخى والمعاصر. وهنا تشكلت القيم العالمية، وصنعت المعايير العالمية، وتم تخليق الرموز العالمية، فكانت فكرة العولمة حقيقة وصل إليها العالم فى خمسينيات القرن الماضى حضاريا، وتحققت سياسيا بعد انتهاء المنافس الداخلى الشيوعية. إذا نظرنا إلى مجمل القيم والمعايير والرموز والمناسبات التى تأخذ صفة العالمية نجد أنها نابعة من خصوصية ثقافية واحدة، وهى الخصوصية الأوروبية وامتداداتها فى أمريكا الشمالية وأستراليا، بحيث تحققت الصيغة الفريدة وهى «تخصيص العالمية، وعولمة الخصوصية». جميع الاتفاقيات والمعاهدات التى تأخذ صفة العالمية وتشكل القانون الدولى العام أو الإنساني، جميعها نشأت لمعالجة مشكلات أوروبية بين أطراف أوروبية، وجميع المواثيق التى تحدد ما هو إنسانى من حقوق الإنسان إلى حقوق الطفل، إلى أى نوع من الحقوق هى تعبر عن القيم الأوروبية التى احتكرت مفهوم الإنسانية. كذلك فإن المنظمات العالمية الكبرى من عصبة الأمم، إلى أصغر منظمات حقوق الإنسان والعمل الخيرى أنشأتها أطراف غربية لتعكس القيم الغربية. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف