تبدو المراحل التاريخية المابعدية فى نهايات عصور وأزمنة، وبدايات تشكل أخرى جديدة، مثل الانتقال من الحداثة إلى مابعدها - أو التى يطلق عليها هابرماس وفق تحليله الفلسفى الحداثة الفائقة - ثم إلى مابعد بعدها. أو الانتقال من الثورات الصناعية الأولى إلى الثانية والثالثة والرابعة ... إلخ، فى ظل المابعديات تتقوض عوالم وفلسفات ونظريات ومفاهيم وأفكار وأنساق وترتيبات وآليات، ويتبقى بعض منها مستمرًا فى ظل هذا الانتقال والتحول إلى الجديد، ونظرياته، ومفاهيمه، وسياساته، وآلياته والمستمد من الحداثة، وما بعدها إلى ما بعد بعدها، وهو ما قد يعسر من عمليات التحول الكيفى الجديد، وهو ما يؤدى إلى ارتباكات فكرية، والاضطراب والغموض وذلك لما يلى على سبيل المثال: 1- استخدام بعض الفلاسفة والمفكرين والباحثين لمنظوماتهم، ورؤاهم النظرية ومناهجهم التى اعتادوا عليها، ومارسوها فى تحليلاتهم، ومقارباتهم النقدية، فى محاولة فهم الظواهر والتغيرات الجديدة، ومن ثم يقسرون الواقع الفعلى الجديد فى أسر هذه الهندسة النظرية والمفاهيمية التى تجاوزها واقع الحياة. 2- ثمة ميلُ سوسيو - نفسى لدى بعض المفكرين والمثقفين والكتاب إلى الدفاع عن إنتاجهم النظرى أو الفكرى أو الفلسفى خلال مسيراتهم التنظيرية أو التأويلية أو التحليلية، وإثبات سلامة توجهاتهم، ومن ثم تطبيقها على الواقع الجديد وتحولاته. هذه النزعة إلى إعادة الرؤى القديمة، وإثبات مطابقتها للمتغير والجديد والمتحول، هى آلية دفاعية عن العقل والذات المفكرة، وصوابية ما سبق أن اهتدت إليه من منظورات ورؤى وكتابات أيًا كان الحقل الذى اشتغل عليه الفيلسوف، أو المثقف أو الباحث. هذه النزعة تبدو وكأن بها بعضا من المطلق الديني، ومن ثم تبدو بها إيمانية ما أيًا كانت مستوياتها ودرجتها، لأنها هجرت النزعة النسبية للحقيقة المتغيرة، بحسب طرائق ومناهج الرؤية لهذه الحقيقة المادية، والرمزية. من هنا لجأ بعضهم ذالكاتب المسرحى الأمريكى من أصول صربية ستيف تيسش فى مجلة «The Nation» 1992- إلى إطلاق مصطلح ما بعد الحقيقة، الذى يعرفه قاموس أكسفورد كصفة زمتعلقة أو دالة على الظروف التى تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا فى صياغة الرأى العام مقارنة بالاحتكام إلى العواطف والقناعات الشخصية». من هنا تعود الشعبوية ورموزها إلى الظهور مجددًا للتأثير فى مسارات السياسة والرموز، والمشاعر الجمعية، والسلوك الجماهيري، والكتل التى تحركها بعض الشعارات القومية والهويات المتخيلة فى عالم غادرته القوميات إلى ما بعدها، ومن الهويات المتعددة المصادر والمكونات والرموز إلى ما بعدها. من ثم تبدو عدم الكفاءة التحليلية والنقدية والتفسيرية للمنظورات النظرية والمناهج الفلسفية والسوسيولوجية والسياسية والقانونية ... إلخ، لفهم ظواهر النكوص إلى بعض المفاهيم والمتخيلات الجماعية الماقبلية - ما قبل الحداثة وما بعدها وما بُعد بعدها - وما قبل العولمة، وما بعدها. من هنا تنتج هذه الحالة غموضها وتشوشها وسيولتها فى الرؤى الكلية والمنظورات الفرعية، وفى القيم والهويات المتصدعة، أو المشروخة، والرموز التى غادرتها معانيها، ولا تزال بها بعض منها ... إلخ. 3- نزوع الأجيال الفكرية والسياسية، والبيروقراطية إلى رؤية العالم المتغير وتحولاته وفق الرؤى والمفاهيم التى سبق أن شكلتهم، وتعلموها وتدربوا عليها ومارسوها، ومن ثم يحاولون فرضها على الجديد والمتحول، وإلى نسيان الواقع الموضوعى المتغير إلى ما يمكن أن نطلق عليه ما بعد الواقع الموضوعي، أى رؤيته بعيدًا عن حقائقه المادية والرمزية، والشعورية، وتغيراته فى السلوك الاجتماعى والسياسى وفى المكونات الثقافية وعناصرها ومصادرها وتغيراتها النسبية البطيئة، لكنها تتسارع فى ظل الثورة الرقمية، وبدايات التحول إلى الكائن الرقمى كمركز للعالم. من هنا تبدو التناقضات واسعة بين الواقع الموضوعى ومتغيراته وتحولاته، وبين ما قبل وما بعد الواقع الموضوعي. خذ على سبيل المثال مصطلح الربيع العربي، المستعار من مصطلح الربيع الأوروبى فى القرن التاسع عشر، على الرغم من التباينات بين الثورات الأوروبية، وبين الانتفاضات الجماهيرية الثورية الكبري، والاختلافات فى السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. استعارات ومجازات تبدو أنيقة وغاوية ولكنها مضللة. من هنا تبدو الفجوات بين تفكير النخبة السياسية الحاكمة ومحمولاته ما قبل 25 يناير وما بعده واستصحابها مجددًا ومعها سياسات لم تحقق نجاحًا يذكر، ومحاولة تطبيقها، مع تغافل طبيعة ما جرى وأسبابه وفواعله، وسياقاته، والفجوات الجيلية فى الأفكار ورؤى العالم، والقيم، والرموز. ثمة تصورات خاطئة ومنها أن استخدام عنف أجهزة الدولة، يؤدى إلى الاستقرار السياسى والاجتماعي، بينما يفاقم من التباينات الجيلية بين الحكم والأفكار الجديدة والواقع الموضوعى المتغير، وبين حقائقه النسبية، وبين ما بعدها. خذ المنظومات الدينية التأويلية الموروثة والمنتزعة من سياقاتها وظروفها وأسئلتها وواقعها، ويراد تطبيقها على الواقع الموضوعى المتغير رغم التحولات النوعية التاريخية الكبرى التى تمت عبر الزمن. ما بعد الحقيقة، وما قبل الواقع الموضوعي، وما بعده، يزيد من غموض وتعقد الظواهر ويؤدى إلى مقاربات قديمة لم تعد فى غالبها صالحًا لإمدادنا بفهم جديد ولغة جديدة مواكبة لما يحدث حولنا وبنا، ويزيد من تفاقم مشكلاتنا وطرائق التعامل معها، استقصاءً لأسبابها وتطوراتها، والقوانين التى تُسيرها. من ثم سنظل أسرى رؤانا الماقبلية، وسيولة واضطراب المراحل المابعدية المتغيرة ومنها ما بعد الحقيقة وما بعد الواقع. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح