يعانى الفكر والسياسة فى الإقليم العربى المضطرب، والمفكك والهش تحولات خطيرة تمس تماسك الإقليم فى حدوده الدنيا، ومن تراجع للفكرة العربية الجامعة، وتآكل الموحدات الكبرى حول العروبة، والإسلام، بعد الصراع الكبير الذى تم بين دعاة كليهما كنتاج لأزمة العقل الإسلامى والعربي، وعدم قدرته على إنتاج صياغات نظرية وتاريخية وتأويلية لإشكالياته الكبرى، ودورانه اليائس حول الثنائيات الضدية حول الأصالة والمعاصرة، والقديم والمحدث، والموروث والوافد والحلال والحرام، والإيمان والكفر، وبساطة الأسئلة والإشكاليات المصوغة حول هذه الثنائيات التى انتجت معها إجابات بسيطة وعامة وغامضة تجاوب على كل شيء ولا تجاوب على شيء، فى مجموعات من الخطابات الشعارية التى بدا غالبها أجوف، ويرمى إلى التعبئة الأيديولوجية، والدينية والسياسية، وذلك دونما إبداعات أو اجتهادات تحاول رصد وتحليل إشكاليات اللحظة التاريخية المابعدية ذ ما بعد بعد الحداثة وما بعد العولمة وما قبلهما - وأسئلتها، ورصد أبنية الواقع الموضوعى فى الإقليم العربي، أو على مستوى الأقاليم الفرعية، والعالم ما بعد بعد الحديث. ثمة ركود فكرى يتجلى من بين عديد المقاربات المقدمة من عديد المفكرين والمثقفين العرب الكبار الذين يعيدون إنتاج المقاربات والأفكار والأسئلة والإشكاليات القديمة، بالنظر إلى هيمنة أسئلة وأفكار البداهة على هذه المقاربات التى تبدو سطحية وتستدعى منظومة من الإجابات الجاهزة التى ثبت طابعها اللاتاريخى ومحمولاتها الأيديولوجية المسبقة. ثمة غياب لثقافة الأسئلة الإشكالية غير التقليدية التى تحاول تحريك أنماط التفكير السائدة فى ركودها وكسلها الذهنى الممتد. أحد أبرز آيات هذا الجمود هو أنساق اللغة والمفردات والتعبيرات والتضمينات التى لا تزال تنتمى إلى عقود مضت، وكانت صنوا للتفكير السائد وقتذاك، وانفصال غالبها عن تحولات عصرنا الهادر بالتغيير السريع والمكثف، كونياً وإقليمياً ووطنياً. الأخطر هو سيادة الغلو والتشدد والتزمت والنزعة النصوصية الأصولية فى التفسيرات والوضعية البشرية للنصوص المقدسة والسنوية، وذلك دونما اجتهادات ورؤى وتفسيرات جديدة تستصحب معها مشاكل المسلم المعاصر وأزماته الوجودية والسوسيو - نفسية، والمجتمع وتحولاته الاجتماعية والاقتصادية، والعالم المتغير، وتحاول صياغة الأسئلة والإشكاليات والتعقيدات الجديدة فى الحياة الراهنة. آن أخطر مظاهر الجمود فى الفكر الدينى الإسلامى المصرى والعربى عموماً والاستثناءات محدودة. إن أخطر أدوات تفكيك الإقليم العربى المضطرب وانهيار بعض الدول الوطنية يتمثل فى إذكاء نيران الخلافات المذهبية الموروثة، وظهور أدلجه وتوظيف سياسى للمذهبية فى الصراعات بين دول الإقليم العربي، ودول الجوار الجغرافى غير العربي. هذه المذهبية السياسية لم تعد جزءاً من صراعات الإقليم العربى والشرق أوسطي، وإنما باتت من دخائل وأسباب ومظاهر الصراعات المذهبية والسياسية الداخلية، وإحدى أدوات التمييز الدينى داخل الإسلام والدولة والمجتمع، على نحو يؤثر على مبادئ المساواة وحقوق المواطنة والحرية الدينية وهى أمور تؤدى إلى إضعاف التكامل الوطني، لأن التمييز المذهبى المسيس، يؤدى إلى تمييزات دينية أخرى إزاء المواطنين المختلفين عن ديانة أكثرية المواطنين. إن خطورة المذهبية المسيسة - السنة فى مواجهة الشيعة وبالعكس - أنها تؤدى إلى تدخل بعض الدول فى الشئون الداخلية والدينية لدول أخرى وتوظيف المذهبية السياسية، فى التأثير على توجهاتها الدينية، وعلى مواقفها السياسية، وذلك لأنها توظف المذهبية السنية أو الشيعية وموروثات الخلافات التاريخية وخطابات القدح والهجاء العنيفة المتبادلة والمتصارعة، فى تأجيج الخلافات المذهبية، وفى التعبئة الدينية المذهبية للجمهور إزاء اتباع المذهب الآخر، بحيث يتحولون إلى قوة ضغط غلابة على نخبة الحكم فى بلادهم. تحول بعض رجال الدين إلى أداة فى هذا الصراع المذهبى البغيض. مصر مجتمع أكثر تعقيداً من بعض دول المنطقة، وهناك تجانس حول إسلام واحد سنى ولكنه فوق المذهبية، وفق نمط من التدين والإيمان الاعتدالى غالبُ فى الحياة الروحية والإيمانية للمصريين المسلمين، وهناك تقاليد تاريخية مصرية فوق مذهبية، ونزعة للتقارب المذهبى رادها أستاذنا الإمام الأكبر محمود شلتوت مع الشيخ القمي، والشيخ محمد عبد الله دراز، ولابد من استعادتها كأحد مكونات القوة الناعمة الداعمة لسياستنا فى الإقليم مجدداً وهذا الاتجاه لا يعنى الانخلاع من الانتماء السنى الحنفى قط. الإسلام العقيدة والقيم الفضلى والثقافة فوق المذاهب جميعها، ومن هنا تبدأ مصر وتتحرك ضمن رؤية متكاملة فى الإقليم كله. إن تحرير الإسلام المصرى من الغلو والتطرف التأويلى الذى يستعاد ويطرح فى الصراعات المذهبية فى الإقليم، هو من الأهمية بمكان، كى تستطيع بلادنا، أن تتجاوز الأيديولوجيات العنيفة ذات السند والتأويل الدينى الوضعى التى أساءت إلى الإسلام العظيم وإلى روحه السمحاء وقيمه الفضلى فى المساواة والعدالة والأخوة الإنسانية، وصون الحقوق وحريات الناس من الانتهاك. البداية هو رفض التسييس المذهبى كجزء من الحروب المذهبية التى أدت إلى تفكك وانهيار الدول وهشاشة المجتمعات العربية والإقليم الضائع بين ذئاب الإقليم غير العربى الذين يتواطأون على أنقاض الانهيارات المدوية لبعض الدول وتفكك مجتمعاتها المتفسخة. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح