الغذاء والدواء ضرورتان فى حياة المواطن الذى يستطيع فى الغذاء أن يتناول أقل القليل فقط ولكن ماذا عن الدواء؟! هل تتابع هيئة الدواء الزيادات التى حدثت فى علاجات أمراض مزمنة وخطيرة كالأورام والسكر والضغط هل تخضع هذه الزيادات لرقابة وسيطرة تمكن المواطن من الحصول عليها مهما تواضعت ظروفه وفى إطار الحدود الضيقة التى يغطيها التأمين الصحى وحتى يأذن الله ويغطى جميع المواطنين، ولماذا يتوالى اختفاء بعض الأدوية التى كانت تنتجها شركات وطنية وخاصة وكانت تتميز بالجودة وانخفاض الاسعار؟! مازلنا فى ديسمبر ... شهر النصر الذى حققت فيه المقاومة الباسلة لأبناء بورسعيد انتصارها على القوات الجوية والبحرية والبرية لثلاثة جيوش وحيث اعتدت ان تكون مقالاتى فى شهر النصر تحية واحتراما ووفاء لأبطاله وإحياء لذكرى بطولاتهم وكيف حولت المقاومة المعتدين إلى فئران مذعورة تخشى ان يخرج لها من وراء كل حائط أو يهبط من فوق الاشجار أو يخرج من داخل ما تبقى سليما من انقاض بيوتها بعد ما اسقطته مئات الغارات عليهم من نابالم أو من وسط ركام واكوام ما هدم وسقط من أحياء بالكامل أفراد من المقاومة. تابعت فى سعادة عيون ووجوه شباب جامعى تمتلئ بالوهج والفخر وهم يستمعون لما أعيده على مسامعهم من تفاصيل وبطولات معركة 1956، وتكاد عيونهم تنطق بعتاب ولوم ... لماذا تركتونا لا نعرف تاريخ بلادنا حق المعرفة، ويندفعون الى تساؤلات غاية فى الذكاء لفتنى من بينها سؤال عن أسرار التكوين الوطنى لأبناء القناة وعلى رأسهم أبناء بورسعيد ومقاومتهم ببنادق متواضعة وزعت عليهم قبل المعركة والانتصار على قوات وأسلحة اكبر دولتين من دول الاستعمار القديم، بالإضافة إلى جيش العدو الصهيونى؟ سألونى عن سر ما يبدو لهم ان فى عروق ابناء المدينة تجرى دماء ساخنة مليئة بالكرامة والغضب؟! على الفور قلت .. لا توجد أسرار ... إنها الخصائص والصفات التى تتكون لدى الشعوب التى ابتليت بالاستعمار وعانت من جرائمه وما كان يرتكبه من محاولات استذلال وتعال على أبنائها، وما أعطاه الإنجليز لأنفسهم أثناء احتلالهم لمصر والشركة الفرنسية أثناء احتلالها قناة السويس من امتيازات ومحاكم وقضاء خاص بهم ترفع العقوبات عن جرائمهم وتحكم بأقسى العقوبات على أبناء المدينة، الذين فرض عليهم أن يحاكموا أمامها عندما يكون الطرف الثانى أجنبيا، والفروق فى الدخول والرواتب لنفس الوظائف وفروق المستويات المعيشية وفقر وتواضع الاحياء التى يسكنها أهل المدينة واغلبها عشش خشبية فى عزب فقيرة، وعزلتهم فى حى للعرب بعيدا عن حى الافرنج الذى يسكنه الأجانب، وأيضا ما سمعه أبناء المدينة عما تعرض له أجدادهم من سخرة أسقطت ما يتجاوز 120 ألفا من المصريين فى حفر قناة السويس ورغم ما كابدوه فى حفرها ودفعهم 90% من نفقات هذا الحفر سرعان ما استولت عليها الشركة الفرنسية، وحولتها إلى دولة مستقلة واستولت على إيراداتها لأكثر من مائة عام، بالإضافة إلى صلف وغرور الضباط والجنود الانجليز الذين سيطروا على مفاصل الحياة فى مصر كلها حتى استقر بهم المقام فى منطقة القناة التى انتهز ابناؤها كل مناسبة لإعلان مشاعرهم الوطنية وكراهيتهم للاستعمار ورموزه حتى بصناعة دمى ضخمة من القش على هيئة قوادهم والمعتمد البريطانى، وكانت أهم احتفالات شم النسيم فى مدينة تعشق الفرحة والبهجة حرق هذه الدمى فى فجر شم النسيم وكأنهم يتأهبون لما سيفعلونه عام 1956 .. تراكمت هذه المشاعر الوطنية لتضع داخل أبناء القناة وفى مقدمتهم البورسعيدية، صلابة المقاومة، وشموخا واعتزازا بالكرامة واستعدادا لحماية أرضهم بالحياة وكسر أنف من يريد كسر إراداتهم واستقلالهم. ما من أحداث وطنيه مهمة مرت بمصر فى تاريخها الحديث إلا وكان البورسعيدية فى مقدمة من أشعلوها ويقفون فى صفوفها، وكان أروع مثال فى ثورة 1919 التى يعتبر بعض المؤرخين ان ابناء بورسعيد كانوا شركاء أساسيين فى إشعالها، فقد كانت بورسعيد أول مدينة مصرية تؤيد سعد زغلول ورفاقه فى رفضهم إعلان انجلترا فرض حمايتها على مصر بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بدلا من الوفاء بما وعدوا به مصر من اعلان استقلالها جزاء ما قدمت لجيوشهم من عون وتسهيلات أثناء الحرب، ثم رفضهم سفر الوفد المصرى المكون من سعد ورفاقه لعرض القضية المصرية، وقام الانجليز بنفيهم إلى مالطة عن طريق بورسعيد ونقلوا سعد ورفاقه إليها تحت حراسه قويه خوفا من شعب بورسعيد الذى ثار للقبض عليهم ونفيهم، وشهدت المدينة مظاهرات فى محاولة للوصول إلى مقر احتجاز الوفد المصرى لإطلاق سراحهم وكان سعد زغلول قد زار بورسعيد وألقي خطابا حماسيا على الآلاف من أبنائها فى منزل الشيخ إبراهيم عطاالله الذى أصبح ملتقى لأبناء المدينة وأطلقوا عليه «بيت الأمة» وجمعوا فيه تفويضاتهم ليتولى سعد ورفاقه تمثيل الشعب المصرى والدفاع عن القضية المصرية إلى ان كان يوم الغضب العظيم وخرجت مظاهرة من الآلاف فى الجمعة 21 مارس 1919. واذا كان الاستعمار وجرائمه فى مقدمة أسرار عبقرية المقاومة فهناك أيضا بيئتهم البحرية وسكنهم البحر بأمواجه الهادرة فى عروقهم وما جعلهم يمتلكون من الجسارة لتحدى تقلباته والانتصار على أخطاره، واتصال عميق بالسماء وما ترزق شبكات الصيادين به وصراعهم فى البحر لشدها بما تأتى أو لا تأتى به، ورحلات صيدهم فى أعالى البحار والتى قد يعودون أو لا يعودون منها لذلك أصبحت المرأة فى بورسعيد لا تقل صلابه وقوه عن الرجل. هذه بعض أسرار عبقرية المقاومة ومعجزاتها التى يتجاوز بعضها القدرات البشرية العادية، هذه العبقرية والمدهشات التى ربما تجعل البعض من أجيالنا الجديدة يظن بها بعض المبالغات إذا افترضنا حسن النوايا والوطنية، وما ترد عليه الشواهد الحية لأبطالنا الذين مد الله فى أعمارهم ومؤرخين ثقاة محترمين وكتب لمؤلفين أجانب عن وقائع المعركة ومن رحلوا من أبطالها، ويظل الجبابرة من أبناء بورسعيد جزءا أصيلا من الشخصية المصرية وما يحكيه تاريخها الطويل والعميق أنها إذا تعرضت لقهر وتمييز وافتقاد العدالة والتفرقة والاستعلاء عليها والإقصاء فى بلدها من مستعمرين أو كارهين وطغاة وفسدة وفاسدين ... مهما يطل صمتها واحتمالها يظل انفجارها مؤجلا إلى أوان مناسب لإطلاقها، وأقرب مثال يحضرنى الآن ما فعلوه فى 25 يناير 2011 ثم 30 يونيو2013 عندما خرجوا يستردون ثورتهم ويسقطون من أرادوا أن يجددوا جرائم الاستعمار والاستعلاء والتمييز والترهيب . ستظل العدالة واحترام الحريات المسئولة والاختلاف فى الرأى على أرضيه وطنيه وتطبيق القوانين على الكبار قبل الصغار وسد الثغرات التى يتسرب منها المفسدون حياة وإنقاذا للأمناء والمحبين والعارفين بقدر الأخطار التى تهدد بلدهم وإيمان المسئولين بما يؤكده الرئيس دائما أن صمام الإنقاذ والأمان والحماية والقوة شعب كانت مقاومة وانتصار بورسعيد فى مثل هذه الايام من ديسمبر 1956 عنوان له. نقلًا عن صحيفة "الأهرام"