يجمع بين أم كلثوم و داليدا أكثر مما قد يتبادر للذهن فور سماع اسميهما معا، ربما كان الأهم هو الحيوية والذوبان والاندماج مع كلمات الأغنية واللحن و عشق الغناء وبذل الجهد المتواصل للوصول للقمة وللحفاظ عليها، والاهتمام الفائق بفعل الجديد وعدم الاكتفاء بما "ثبت" نجاحه مع الجمهور وبكل ذلك تشابهت كثيرًا أم كلثوم و داليدا . ويقال أن أم كلثوم قالت إنها ستعتزل الغناء إذا وجدت مقعدًا "واحدًا" خاليا بأي حفلة لها، ولم يحدث. وعرف عن داليدا حرصها على الاحتفاظ بتألقها وتوهجها على المسرح، وكانت تبذل الجهد الشاق للحفاظ على لياقتها البدنية ولأداء رقصاتها التعبيرية المصاحبة لأغانيها. عانت كل منهما ظروفا قاسية بالطفولة؛ ف أم كلثوم نشأت في أسرة فقيرة وغنت وهي طفلة وتعبت كثيرا حتى تعلمت الغناء وتجولت بمعظم أنحاء مصر وعندما كبرت تعلمت قراءة النوتة الموسيقية وأجادت التعامل مع الموسيقى وكانت أول مطربة تفعل ذلك، ولم تكتف باجادة الغناء. أما داليدا فكابدت طفولة صعبة، حيث التنمر ومضايقات الأطفال لها لمشكلة ببصرها أثرت عليها نفسيا كثيرا وتألمت من قسوة والدها وعنفه مع أمها خاصة بعد تعرضه لاعتقال إثر اتهام ظالم وتمنت موته للخلاص من العذاب؛ وترك ذلك جرحًا نفسيًا داخلها استمر معها طوال حياتها. ولكنها تمكنت من صنع مكانة عالمية لها بعد مغادرتها مصر وهي شابة واستطاعت نشر مفرداتها الغنائية الجديدة، وتمكنت من النجاح بفضل صدق أحاسيسها واندماجها عند الغناء وفازت بتجاوب رائع من الجمهور بأنحاء العالم.. تتشابه داليدا مع أم كلثوم بالحرص على العلاقة الجيدة بإخوتها وبمشاركتهم الحياة وذلك ذكاء يحسب لهما، فالاستعانة بالأسرة بالعمل ومنحهم أدوارا به فائدة للطرفين؛ فسيؤمن للأهل الدخل الجيد والحياة الطيبة، ويمنح النجم الأمان "والشبع" العائلي والدعم الصادق. أما أوجه الخلاف؛ فأهمها أن أم كلثوم تنبهت مبكرا "لأهمية" تطوير نفسها وألا تصبح "مجرد" مطربة فاهتمت بتثقيف نفسها وتعلمت لغات أجنبية ودرست التاريخ، وأحاطت نفسها بأهم مثقفي عصرها، وحرصت على تعلم ما يصقل شخصيتها "ويوسع" اهتماماتها بالحياة، ويضاعف من خبراتها، فدعم ذلك ثقتها بنفسها وساعدها على حسن اختيار كلمات أغانيها وعلى الفوز بتعامل جيد مع أهم الملحنين، وعرف عنها الدقة البالغة بالغناء؛ حتى إنها بعد تسجيلها لقصيدة على أسطوانة تنبهت لخطأ بنطق كلمة "واحدة" فأعادت تسجيلها وتحملت نفقتها لتبدو بأفضل صورة وبلا أي أخطاء. أما داليدا "فاكتفت" بالتعامل مع الفنانين؛ ولم تحاول تطوير شخصيتها، وكلنا نحتاج لذلك دوما، وإن لم نطور من أنفسنا فحتما سنتراجع. حصرت داليدا نفسها "بدوامات" البحث عن الحب وجعلت ذلك قضيتها في الحياة، بالإضافة للتميز في الغناء، وتسبب ذلك في ايذائها كثيرًا؛ فقد تعرضت لتجارب عاطفية أسعدتها في بداية العلاقة، ثم ألحقت بها أضرارًا نفسية قاسية، وكانت تندفع عاطفيًا ربما "للهرب" من الجراح النفسية السابقة، "وأملًا" في علاجها وإقناع نفسها بأن الحياة يمكن أن تصبح وردية، وهو أمر غير واقعي، فلابد من تنوع الألوان بالحياة، ولا مفر من التماسك عند الأزمات، مع ضرورة مراجعة أنفسنا لمعرفة دورنا في صنعها، حتى ولو بالتسرع وسوء الاختيار فيمن "نسمح" لهم بالاقتراب منا عاطفيًا أو إنسانيًا. وعلى الوجه الآخر ف أم كلثوم تعرضت أيضًا لخسائر عاطفية وإنسانية، شأن أي إنسان، فلا أحد محصن ضدهما مهما بلغت "يقظته" أو كبرت إرادته لتجنب ما يضره. ولكن أم كلثوم استطاعت تجاوز ذلك لوعيها بأهمية المسارعة بالنهوض، ولأن العمر لن ينتظر المستسلمين "ولتعدد" اهتماماتها بالحياة؛ ولأنها صنعت لنفسها دوائر أوسع من دائرة المطربة أو الأنثى فقط؛ فقد اهتمت بمواكبة الأحداث الوطنية بمصر مبكرًا، فسعت للغناء للضباط المشاركين في حرب 48 لدعمهم، كما كان لها دور وطني عند حرب 56 بالغناء ولرفع الحالة المعنوية وتعافت سريعًا بعد صدمتها لهزيمة 1967، وسارعت بإقامة حفلات في مختلف أنحاء العالم لجمع الأموال لدعم مصر. واهتمت أم كلثوم بفعل الخير، وشكلت جمعية خيرية باسمها، ولكن هناك روايات كثيرة عن تعمد إحدى الشخصيات المشهورة منع ظهور جمعية أم كلثوم الخيرية للنور آنذاك، ولكن ظهرت الجمعية للنور بعد وفاة أم كلثوم بنحو 21 عامًا تقريبًا. تجاهلت داليدا أن الجمهور يعشق صوتها وأداءها الممتلئ بالصدق والتوهج، وركزت على جمالها ورشاقتها، وتسببت في إيذاء نفسها نفسيًا وصحيًا، فقد اضطربت في أواخر أعوام حياتها؛ خوفًا من كبر السن، وكانت تتناول الطعام ثم تتعمد القئ خوفا من زيادة الوزن، وهو ما فعلته الأميرة ديانا أيضًا، ونجت أم كلثوم منه فقد تيقنت أنها صنعت لنفسها "مكانة" متميزة لم تصل إليها مطربة من قبل وأن الجمهور يأتيها وسيأتي إليها دومًا ليستمتع بغنائها، وأنها غير مطالبة ببذل ما يفوق طاقتها لإرضاء الجمهور، ولا ندعو لزيادة الوزن بالطبع، ولكن نرفض الهوس بالشكل والسعي "المحموم" لإرضاء الناس وأن نكون أسرى للصور التي "يريدون" رؤيتنا بها، فذلك يتسبب في تراجع تقدير الذات ؛ وهو مفتاح جودة الحياة وتناقصه يؤذي نفسيًا ويضعف الطاقات ويلقي ظلالا سيئة على الصحة الجسدية، وقد يؤدي للاكتئاب وللنظرة السيئة للنفس ولتراجع الجدوى من الحياة عند التقدم في العمر؛ وكأننا سلعة انتهت صلاحيتها، فيعيش الإنسان حياة غير سعيدة أو يضطر للانتحار كما فعلت داليدا ..