مازلنا نتصفح معًا ديوان: من نور الخيال .. ل فؤاد حداد ، بعد أن اغترفنا في المقالة السابقة من نبع قصيدتيه الأوليين، وتداوينا بجمالهما من هَمّ الزمان والأدران. نتوقف الآن عند القصيدة السادسة التى تحمل عنوان الكنز، وهى بحق من كنوز الشعر، وفيها نفس المنحى العام للديوان وهو استنهاض همة الأمة بعد صدمة 67 القاسية، عن طريق تذكير الشعب بصفاته الجميلة المتوارثة عبر السنين. ويشيع في القصيدة كلها ذلك الحنان العذب للصباح المبكر في القاهرة الشعبية التاريخية وفي قلب الشاعر: »من الكافورة تنقل العصفورة/ على الغيطان للسنبلة المضفورة/../ فرْط الحنان الفجر قال يا كريم/ جت في الودان كل الذنوب مغفورة». ثم يتغزل العاشق في محبوبته بشمسها وأرضها وناسها الندية: النور مِقسِّم أحسن التقسيم/ معنى المعانى ونزهة الأنظار/ والشرق جاور فرن عم ابراهيم/ طلع الرغيف والشمس والأزهار/ أصل المعايش أصلها بالنهار/ نادى المنادى ع الرُّطَب والخضار/ بِحِسّ أزيَن من اسامي الحريم». ثم ينتقل حداد إلى بيت القصيد، كاشفًا عن الكنز الذى يضمه المصرى بين ضلوعه، حتى وإن سها عنه أحيانًا: وف ألف ليلة يطلعوا ألف رحلة/ مع الخيال وبيسألوا الكنز فين/ ما بيعرفوش الكنز بين الإيدين/ قولة ح توحشنى وقولة ح تحلا». ولكن الشاعر لا يغفل عن الوجه المؤلم للحياة والتاريخ، ويريد أن ينبهنا حتى وهو يهدهدنا أن أمامنا معركة لابد أن نخوضها وندفع فيها ضريبة الدم: والكدب أخضر في الزمان القديم/ كل التاريخ مكتوب بحِبر أليم/ وعشان نقول أمثال ونضربها/ لابد من مقتول يجربها». وإذا كانت المعركة حتمية، فإن حداد يلفتنا لما ينطوى عليه المقاتل المصرى من نبل وفروسية: المصرى هو الشاعر القايل/ الناس بتاكل بعض.. مش واكل» وقرب نهاية ذلك المقطع من القصيدة يعود حداد للتذكير برسالته، والتبشير بالنصر في خاتمة حرب الاستنزاف المجيدة التى خاضتها مصر، وبالنصر النهائي عمومًا للإنسان الإنسان: قول للنفوس اللي بِتطلب حكيم/ إذا القمر بعتر عليها ضياه/ من غير ما أفهم حاجة في التنجيم/ من غير ما اكون فلكى في عِلم الهيئة/ شافت عيونى في الليالى الرايقة/ بخت اللى باتوا كلهم مظاليم». وفي قصيدة نور الهلال، يتناول حداد، في استعراضه للتاريخ البطولى للبلد وأهلها، ثورة القاهرة الأولى على المحتلين الفرنسيين أثناء حملتهم على مصر، قائلا: »يا شعب طالع من بولاق للحسين/ أسمر يا أطيب لون وأطيب عين/../ أما اللى جالك من بلاد الغرب/ وان كان صناعته الحرب/ وان كان نابليون والا كان بونابرته/ حتعجِّزُه الشمس اللى فوق الراس/ النور ما يتحوَّطش بالحراس/ حيعجِّزُه شيء في قلوب الناس/ شيء في بلاد الله ما هوش ع الخارطة/ ومايتملكشى بالدهب و الرصاص».ونختم بقصيدة سيد درويش من نفس الديوان، التي استهلها فؤاد حداد بسؤال: ليه يا عرب تستبدل القفطان/عرب التفت على مهلُه واتبسِّم/ يا سِنِّتُه نوارة الأوطان».. ومن هذه الفاتحة الرقيقة العميقة التى تلخص التحول الجذري لمصر منذ بداية العشرينيات لمجتمع عصرى، تتصاعد نبرة القصيدة في سخونتها حين يحكى درويش حكاية تطوره الفنى قائلًا: كان ياما كان من مبدأ الذاكرة/ الشمس طالعة وصوتى مش سامعاه/ حرمت أغنى لها وانا في الدرا/ فتحت شباكى وقلبي معاه/ وجبت ريح البحر للقاهرة/ وطلقت حنجرة الفتاة والشابّ/ورفعت فنى إلى مقام الشعب».. وعلى لسان سيد درويش يصوِّر حداد الثورة الفنية التى أحدثها ذلك الموسيقى الفذ، وتحويله الطرب إلى غناء طوائف الشعب على خشبة المسرح: الحدادين نافخين معايا الكور/ والخبازين قايدين معايا الفرن/ أخبز لكل الناس عشا وفطور/ والفلاحين ماليين معايا الجرن/ داقّين في قلبى السبع والعصفور»... ونواصل بإذن الله في السطور القادمة. * نقلًا عن صحيفة الأهرام