فى شهر مايو الماضى، أطلت سفيرة فلسطين السابقة فى باريس السيدة ليلى شهيد، على شاشة فرانس 24، وقدمت رواية فريدة وجديدة عن الأسباب التى دفعت الشاعر محمود درويش لمغادرة موسكو بعد انتهاء منحته الدراسية والسفر إلى مصر فى فبراير 1971 بدلا من العودة إلى الأراضى المحتلة، وقالت شهيد فى المقابلة: « جمال عبدالناصر التقى محمود درويش شخصيا خلال زيارته السرية ل موسكو وقدم له دعوة للإقامة فى مصر». فى ذكرى مرور 12 عاما على رحيل محمود درويش تحقق « الأهرام العربي » فى الواقعة وتتساءل: هل قابل جمال عبدالناصر محمود درويش فى موسكو فى لقاء أحيط بالسرية التامة؟ ومتى حدث ذلك بالضبط؟ وكانت «الأهرام العربى» قد كشفت الستار قبل عامين عما أحيط بتجربة درويش فى مصر، وذلك فى العدد (1111 ) ونشرت أوراقا ووثائق لأول مرة تحت عنوان: « محمود درويش فى مصر أنا ابن النيل وهذا الاسم يكفيني». فى المقابلة التليفزيونية اعتمدت شهيد فيما روته على رواية مباشرة من محمود درويش أسر لها بها ذات مساء وقال لها: «سألنى عبدالناصر فى المقابلة ماذا تفعل هنا فى الثلج» فقلت: «بسبب أوراقى الإسرائيلية لا أستطيع الذهاب إلى أى بلد عربي؟ لكن رئيس مصر بحسب رواية ليلى شهيد «أرسل له جوازا دبلوماسيا مصريا وهكذا تيسر له الانتقال إلى القاهرة بترتيبات استثنائية». وتضيف: «أعطى عبدالناصر الأوامر بأن يعامل درويش الذى لم يكن تجاوز عامه الثلاثين مثل أكبر المثقفين» ولولا هذه الالتفاتة التى قدمها عبدالناصر حسب قولها ما تمكن درويش من التواصل مع العالم العربى ومواصلة رحلة الخروج من إسرائيل». لا توجد لدينا شواهد لنختبر صحة واقعة اللقاء الذى جمع جمال عبدالناصر و محمود درويش فى موسكو ، إلا أن ما يمكن تأكيده أن عبدالناصر زار موسكو أكثر من مرة خلال الفترة التى كان درويش يدرس فيها هناك، فمنذ ديسمبر 1969 أصيب عبدالناصر بأزمة قلبية وكان يعانى جلطة فى القلب تضاعف تأثيرها بسبب إصابته المزمنة بمرض السكر الذى اشتد عليه بعد نكسة يونيو، ولذلك أخذ يتردد على الاتحاد السوفيتى للعلاج وللاستشفاء فى «سخالطوبا والقوقاز» وهى مناطق مشهورة بالمياه المعدنية التى تبث شعاعا يساعد على تحسين الدورة الدموية. كانت الزيارة تشمل إلى جانب الاستشفاء بطبيعة الحال أمور الدولة من مباحثات عسكرية وسياسية، مرتبطة بالوضع فى الشرق الأوسط فى ظل «حرب الاستنزاف» حيث زاد اعتماد مصر على المساعدات الروسية فى مجال التسليح. ومع قيام الجانب الإسرائيلى بالتصعيد وضرب منشآت مصرية مثل مدرسة بحر البقر ومصانع أبو زعبل أصبح الشرق الأوسط منطقة للتوتر، وزاد من ذلك أن الرئيس الأمريكى نيكسون الذى تولى رئاسة الولاياتالمتحدة عام 1968، اتسمت سياساته فى المنطقة بالسلبية واعتمد على الأدوار التى يؤديها هنرى كيسنجر مستشاره للأمن القومى، الذى كان مقتنعا بسياسة «عدم تحريك الموقف». الأرجح أن اللقاء الذى تقول ليلى شهيد إنه جمع جمال عبدالناصر و محمود درويش فى موسكو ، قد تم فى الزيارة الأخيرة التى قام بها عبدالناصر إلى الاتحاد السوفيتى فى يوليو 1970 أى قبل وفاته بشهرين فقط وبعد 4 شهور من استقرار درويش فى المدينة التى وصلها فى مارس. ووفقا لرواية فيصل حورانى لى، كان الشاعر معين بسيسو هو من صنع لدرويش مجاله العربى فى موسكو ، وأتاح له فرصة اللقاء مع العديد من الشخصيات الثقافية العربية التى كانت تتردد على الاتحاد السوفيتى لاعتبارات حزبية كعادة تلك الأيام، ومن بين هؤلاء الكاتبان اللبنانيان حسين مروة ومحمد دكروب والروائى والمترجم العراقى غائب طعمة فرمان والشاعر السودانى جيلى عبد الرحمن، وكذلك سهيل إدريس صاحب مجلة» الآداب» اللبنانية. عبر بسيسو تعرف درويش على سفير مصر فى موسكو الدكتور مراد غالب الذى كان يرتبط بصداقة قديمة مع بسيسو، ويؤكد حورانى أن «غالب» هو الذى رتب مع السلطات المصرية فكرة انتقال محمود درويش للعيش فى مصر بعد أن لمس فى حواراتهما معا «عدم رغبته فى العودة إلى إسرائيل». يشير حورانى كذلك إلى أن غالب بحكم منصبه هو الذى كان بإمكانه تدبير هذا الأمر، بل والاتصال مباشرة ب جمال عبدالناصر لاتخاذ إجراءات فاعلة. كانت معنويات عبدالناصر خلال تلك الزيارة عالية جدا، حيث أسقطت الصواريخ المصرية فى يوم واحد فقط سبع طائرات إسرائيلية وصرخت من تآكل سلاح طيرانها ما دفع الولاياتالمتحدة للتقدم بمبادرة روجرز الثانية، وقد تلقى هذا الطلب فى حديقة المصحة العلاجية التى كان يستشفى بها فى موسكو كما يشير غالب فى مذكراته. وربما فى هذا اللقاء أيضا تعرف درويش لأول مرة على محمد حسنين هيكل الذى سيلعب فيما بعد دورا مهما فى تجربته المصرية، حيث كان من بين من رافقوا جمال عبدالناصر فى تلك الزيارة وروى الكثير من وقائعها فى كتابه: «زيارة جديدة للتاريخ» لكنه لم يأت على ذكر اللقاء الذى قالت شهيد إن درويش أسر لها به وظل طوال حياته محتفظا به ك"سر كبير". والواضح أن السفير المصرى فى موسكو مراد غالب هو من دبر لهذا اللقاء، ومن اللافت أنه فى المذكرات التى كتبها لم يشر إلى تلك الواقعة أبدا رغم إشارته إلى محمود درويش مرتين، الأولى بصفة الصديق، الذى علق على أداء مصر خلال حرب الاستنزاف، والثانية خلال تعليق قدمه درويش على أهم حدث فى حياة مراد غالب حين فقد منصبه فى عضوية اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، وكانت أعلى تنظيم سياسى فى مصر، والدكتور مراد غالب (1922 -2007) شخصية فريدة فى تاريخ العمل الدبلوماسى المصرى. وخلال فترة عمله سفيرا لمصر موسكو فى الفترة من 1962 حتى 1972 وصلت العلاقات المصرية مع الاتحاد السوفيتى إلى أقصى درجات التعاون ولعب دوراً كبيراً بعلاقاته وصداقاته فى توطيد العلاقة وإنشائها وتقويتها حتى لُقب بمهندس العلاقات السوفيتية ووصفه هيكل ب «رجل لديه القدرة على فتح الأبواب المغلقة». فى تلك السنوات تمكنت مصر من الحصول على دعم فنى لبناء السد العالى بمساعدة الخبراء السوفييت، وعقب نكسة يونيو نالت مصر دعما عسكريا سوفيتيا، ساعدها على تسليح قوات الدفاع الجوى بصواريخ لإسقاط الطائرات التى تأتى على ارتفاعات منخفضة، وكذلك إرسال هذه الصواريخ بأطقم سوفيتية للتصدى للطيران الإسرائيلى المنخفض، وكانت هذه أول مرة يرسل فيها الاتحاد السوفيتى قوة عسكرية بهذا الحجم إلى بلد أجنبى، وخلال إبريل 1970 كان عدد الخبراء السوفيت فى مصر عشرة آلاف خبير. ظل وجود هؤلاء الخبراء عنوانا مؤثرا فى معادلة السياسية الخارجية والداخلية لمصر إلى أن اتخذ السادات قراره بطرد هؤلاء الخبراء فى العام 1972، بأمل أن تسرع أمريكا إلى مساعدته فى حل قضية الاحتلال الإسرائيلى للأراضى المصرية على الأقل، ولكن قوى الضغط فى الولاياتالمتحدة رأت أن السادات أصبح معزولا وبلا ظهير سياسى وسيقبل بأى شروط للتسوية تفرض عليه. وفى تلك الأجواء لم يتخلص السادات فقط من الخبراء السوفيت بل تخلص أيضا من أنصارهم فى مصر، وفى اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى الذى أعلن فيه طرد السوفيت أعلن أيضا إقالة مراد غالب من عضوية اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى، أعلى تنظيم سياسى فى مصر آنذاك، وقال محمود درويش لغالب بعدها ساخرا: «هكذا طرد الرئيس السادات آخر الخبراء السوفييت». تكشف هذه العبارة التى يوردها غالب فى مذكراته التى نشرها مركز الأهرام للترجمة والنشر بتحرير عاطف الغمرى عن العلاقة الوطيدة بالشاعر، ما يدعم فرضية الصداقة التى جمعت بينهما خلال وجودهما فى موسكو ، وشجعت غالب أن يقترح على جمال عبدالناصر فكرة اللقاء مع محمود درويش الذى انتهى بقرار اتخذه عبدالناصر بسفر محمود درويش إلى القاهرة بدلا من عودته إلى الأراضى المحتلة وترك مهمة ترتيب التفاصيل لغالب وبعض أجهزة الدولة. كان غالب كما تكشف مذكراته من السفراء الذين يعتنون بإقامة روابط مع الشعراء والأدباء، فهو يشير إلى صلات وثيقة جمعته بالشعراء والأدباء السوفييت «كانوا يتكلمون عن الحرية ولكن فى حذر وكانوا يعرفون بعضهم معرفة تامة، فكثيرا ما يغيرون موضوع الحديث إذا وصل من يعتقدون أنه من أجهزة المراقبة ويحذروننى منه». يذكر أسماء عديدة لمن التقى بهم وعلى رأسهم الشاعر يفجينى يفتوشنكو(1932-2007 ) الذى رتب له زيارة لمصر، وتم استقباله فيها بحفاوة بالغة يقول غالب: «كان من أصدقائى ويأتى لزياراتى كثيرا فى بيتي». وظل يفتوشنكو من بين أصدقاء محمود درويش المقربين، وربما يكون قد التقى به فى موسكو لأول مرة، ومن الطبيعى أن بيتا لسفير بهذه المواصفات لابد أن يكون مغريا كذلك للشعراء والمثقفين العرب المقيمين فى المدينة ومن بينهم معين بسيسو الذى يبدو أنه أقام صلة الوصل بين مراد غالب و محمود درويش . مات جمال عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970 وقبل موته بأيام كان الشرق الأوسط كله ملتهبا، خاضت المقاومة الفلسطينية حربا مع قوات الملك حسين فيما عرف ب أحداث «أيلول الأسود» ودعا عبدالناصر لقمة عربية للنظر فى هذا الملف. وعلى جبهة الحرب جرت مناوشات بين مصر وإسرائيل رغم إعلان عبدالناصر قبول مبادرة روجرز الأمريكية بهدف تحريك حائط الصواريخ على جبهة الحرب مع إسرائيل حتى تتمكن القوات المسلحة المصرية من عبور قناة السويس، ولهذا توترت العلاقة بين عبدالناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية واتهموه بالتواطؤ وبيع القضية. وطوال سبتمبر 1970 تدفقت الأخبار كاشفة عن حجم المخاطر التى تواجه المنطقة، ومنها خبر عن تفجير طائرة فى مطار القاهرة بواسطة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهى من طراز بوينج بان أمريكا، وخبر آخر عن تحويل مسار طائرتين سويسريتين إلى مطار صغير قرب الزرقا فى الأردن، وبعدها تم احتجاز الركاب وفى 9 سبتمبر حولت طائرة بريطانية إلى مطار الزرقا أيضا، وبلغ عدد الرهائن 600، وطالب الفلسطينيون بعدة مطالب، أهمها الإفراج عن ليلى خالد، وتكهرب الجو عالميا، وأصبح الملك حسين فى موقف حرج وبدا كأنه غير مسيطر واضطر للتحرك وقبل وفاة عبدالناصر ب12 يوما أعلن الأحكام العرفية وعين رئيس الأركان محمود داوود رئيسا للحكومة، وبدأت معركة تصفية المقاومة الفلسطينية من الأردن. وبرغم هذه الأجواء نجح مؤتمر القمة العربية فى القاهرة يوم 27 سبتمبر فى إصدار قرار وقف إطلاق النار بين الجانبين، وهكذا أوقف عبدالناصر الحرب بين الفلسطينيين والملك حسين قبل موته بليلة واحدة. فى تلك الليلة كان محمود درويش لا يزال مبعوثا للدراسة فى موسكو وكانت أم كلثوم هناك تستعد لإحياء حفل غنائى ومعها مجموعة من الصحفيين، وتظهر الصحف صورا كثيرا لأم كلثوم وهى تبكى بكاء حارا ليلة موت «جمال» لكن الصحف لا تعرف شيئا عن الكيفية التى قضى بها درويش تلك الليلة الفارقة. لم يكن موت عبدالناصر حدثا عاديا للجميع بمن فى ذلك أعداؤه الذين كانوا يحترمونه أيضا، وعلينا أن نتخيل أثر هذا الخبر على شاعر فلسطينى شاب التقى به فى موسكو وتلقى وعدا بأنه سيكون ضيفه فى القاهرة وأنه لن يعود مجددا إلى إسرائيل. كتب درويش فى رسائله إلى سميح القاسم أنه تلقى نبأ موت عبدالناصر وهو فى موسكو ، وتولى إبلاغه لرفيقه ومعلمه إميل توما حين كان يراجع رسالته للدكتوراه عن الوحدة العربية وكان درويش بتعبيره يدرس كتاب «رأس المال» لكارل ماركس صفحة صفحة بافتتان وقد كتب: «كنت أول من أبلغ توما نبأ وفاة عبدالناصر فقال: هذا ليس معقولا، سيأتى السادات وبعدها قضينا أكثر من مساء طويل نستمع إلى التريو لتشايكوفسكي». درويش فى المؤتمر ليلي شهيد مراد غالب