حوار بين عبدالناصر وفوزى حول تحريك حائط الصواريخ لماذا قبل الرئيس جمال عبدالناصر مبادرة «روجرز» الأمريكية في يوليو عام 1970، أي قبل وفاته بشهرين؟.. ومن أدار المفاوضات مع الولاياتالمتحدة لتنفيذ هذه المبادرة؟.. ولماذا رفض السادات بصفته نائبا للرئيس - هذه المبادرة؟.. وما حقيقة الخلاف الذي حدث بين عبدالناصر والسادات بسبب هذه المبادرة؟.. وهل صحيح أن السادات أصيب بنوبة قلبية بعد المواجهة الساخنة التي حدثت بينه وبين عبدالناصر واعتكف بقريته ميت أبوالكوم.. وكيف تم الصلح بينه وبين عبدالناصر؟ في هذا الجزء من مذكرات الدكتور مراد غالب وزير الدولة للشئون الخارجية ووزير الإعلام الأسبق، يكشف كثيرا من الأسرار ويجيب عن التساؤلات السابقة. يقول مراد غالب: أثرت هزيمة 1967 تأثيرا شديدا علي الرئيس جمال عبدالناصر واعتلت صحته، خصوصا الآلام المبرحة التي كان يشكو منها في ساقيه، والضعف الشديد في الدورة الدموية في الأطراف والتهاب الأعصاب. وفي سبتمبر 1969 أصيب بأزمة قلبية، وكان صائب سلام رئيس وزراء لبنان في القاهرة ينتظر مقابلة الرئيس عبدالناصر، الذي لم تكن حالته تسمح له بمقابلته، فتعللت رئاسة الجمهورية بأسباب أخري، يتعذر معها إتمام المقابلة.. والحقيقة أنه كان يعاني في تلك الأيام من جلطة في القلب، علاوة علي مرض السكر الخبيث الذي اشتد عليه أيضا. ومن المعروف أن هذا المرض يدمر الأنسجة، وقد تفاقمت حالته، ومع أنه استطاع الخروج من نوبة المرض، إلا أن الآلام ظلت تلازمه، ولم تتوقف شكواه منها، وأخذ يتردد علي الاتحاد السوفيتي للاستشفاء في تسخالطوبو بالقوقاز، وهي مشهورة بالمياه المعدنية التي تبث إشعاعا يساعد علي تحسين الدورة الدموية، وتخفيف الآلام وفعلا لاحظنا أنه كان يشعر بارتياح بعد هذه الجلسات، لكنه لم يكف وهو في شدة المرض عن مطالبته السوفييت بسلاح الردع، الذي كان يعتبره مهما للرد علي أية ضربة إسرائيلية في العمق. ونظرا لأنه ظل مهموما بسلاح الردع وهو مريض، فقد كان السوفييت يرسلون إليه وهو يتلقي العلاج للاستشفاء الكثيرين من الخبراء الفنيين والعسكريين والمهندسين ليناقشوه في هذا الموضوع. وكان يؤكد إيمانه بأنه من الممكن أن نحارب إسرائيل ونتفوق وننتصر عليها في أي حرب شاملة.. وكان يقول إن الإسرائيليين ليس معروفا عنهم الشجاعة وأن تفوقهم لا يظهر إلا إذا كان لديهم تفوق كبير في السلاح.. وضمن رحلة علاجه أدخله السوفييت في آخر زيارة له عام 1970 المصحة وأدخلوه غرفة مخصصة لرواد الفضاء بها أوكسجين تحت ضغط عال، وأجروا كشفا شاملا خصوصا علي القلب.. ثم جاءني البروفيسور شازوف وهو الطبيب الخاص بالكرملين ووزير الصحة فيما بعد وأسر لي بصفتي زميلا طبيبا، بأنه سوف يطلعني شخصيا علي حقيقة الحالة الصحية للرئيس، مشترطا ألا أردد هذا الكلام لأي شخص.. وقال: كنا نأمل أن تتسع الدورة الدموية في القلب لكي تعوض انسداد الشرايين، لكن للأسف لم يحدث هذا، وأنا أبلغك بذلك لتعرف الحالة، ولكي تنقلها بشكل غير مباشر - دون ذكر الأسباب للناس المحيطين بالرئيس حتي يريحوه. ويعملوا علي أن يجنبوه التوتر والإثارة، وهذا شيء مهم جدا لحالته، أما عمره لا أحد يستطيع أن يقرر أي شيء بخصوصه، لكن المؤكد أن ما وجدناه لديه يمثل علامة خطيرة.. بعد أن عرفت هذه الحقيقة المؤلمة لم أستطع أن أبوح بها لأي إنسان ولا حتي للرئيس عبدالناصر، وإن كنت أعتقد أنه كان يعلم بهذا، لذلك لم يكن خبر موته مفاجأة لي. حملات هجوم شرسة ولسوء الحظ أنه عاد إلي القاهرة، وحضر اجتماع المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي الذي أعلن فيه قبوله «مبادرة روجرز»، وتعرض للكثير من حملات الهجوم البشع والرخيص في كثير من الدول العربية التي استخدمت فيها أساليب ساخرة ومهينة، خاصة أنه كانت لديه حساسية واضحة لرجل الشارع، ونظرته إليه، وثقته به، مما أثر علي صحته كثيرا. كانت زيارة عبدالناصر الدورية للاتحاد السوفيتي للاستشفاء تشمل إلي جانب المباحثات العسكرية، إجراء مباحثات مهمة حول الحل السياسي.. ورغم استعراضه للجهود الدبلوماسية، فإنه كان يدرك مايحدث من تلاعب أمريكي وتأييدها الأعمي لإسرائيل.. كانت إسرائيل لاتكف عن إظهار تمسكها باحتلال الأرض، وكانت الولاياتالمتحدة تواصل تسليحها الذي بلغ مداه بتصعيد الطيران الإسرائيلي مهاجمة مراكز للقوات المسلحة المصرية، ومراكز صناعية، ومنشآت تعليمية (مثل مدرسة بحر البقر ومركز الصناعات المعدنية في أبو زعبل).. وكان الرئيس نيكسون قد أصبح رئيسا للولايات المتحدة في عام 1968، واتسمت سياسته في الشرق الأوسط بالسلبية، وكان مستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر مقتنعا بسياسة «الانتظار»، وعدم تحريك الموقف، ويراهن علي أن السوفييت لن يستطيعوا حل المشكلة، وفي المدي البعيد سييأس عبدالناصر منهم. زيارة سرية جاءت أهم زيارة للرئيس عبدالناصر إلي موسكو - وهي الزيارة السرية - في 22 يناير 1970، وفي جلسة مباحثاته مع القادة السوفييت تحدث عن حرية الطيران الإسرائيلي، خصوصا الطائرات الفانتوم في ضرب أي أهداف في مصر. وحسب نص عباراته: إن إسرائيل تضرب المراكز العسكرية بالشكل الذي كنا ندرسه في الكلية الحربية، فهي تبدأ بضرب إدارات القوات المسلحة، ثم تموين الجيش، ومراكز التدريب، ومراكز الاتصال، ومعني هذا أنها تستهدف إحداث شلل للقوات المسلحة.. وقال الرئيس للسوفييت: إذا استمرت إسرائيل في غاراتها بهذا التخطيط الكلاسيكي للحروب، فإن هذا يعني التسليم، وليس جمال عبدالناصر هو الذي يستسلم، ولا هو الذي يتفاوض مع إسرائيل أو الأمريكان في ظل مايحدث من عدوان لانستطيع الرد عليه.. وإذا كان لابد من التفاهم فسوف أترك مكاني لزكريا محيي الدين ليتفاوض معهم، وسأبقي أنا أحارب، وأدافع عن بلدي كفرد عادي تماما.. وبعد أن استمع القادة السوفييت إلي ماقاله الرئيس عبدالناصر، قال بريجنيف: أتسمحون بتركنا بعض الوقت، وكانوا يكنون للرئيس عبدالناصر كل الاحترام والإعجاب بصلابته. وغادرنا القاعة، حيث اجتمع المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي.. وبعد انتهاء اجتماعهم عدنا مرة ثانية برئاسة الرئيس عبدالناصر لاستئناف الجلسات مع القادة السوفييت ليبلغونا بقراراتهم.. كانت القرارات علي جانب كبير من الأهمية وهي تسليح قوات الدفاع الجوي بصواريخ لإسقاط الطائرات التي تأتي علي ارتفاعات منخفضة، وكذلك إرسال هذه الصواريخ بأطقم سوفيتية، للتصدي للطيران الإسرائيلي المنخفض، وهذه أول مرة يرسل فيها الاتحاد السوفييتي قوة عسكرية بهذا الحجم إلي بلد أجنبي.. وقال بريجنيف أرجو أن يكون وصول هذه القوة محاطا بالسرية، وقال إن الرفيق كاسيجين رئيس الوزراء سيتصل بالرئيس الأمريكي ويشرح له أننا لن نترك إسرائيل تعربد في سماء مصر وسوريا، وأن الغرض من وجود هذه القوة السوفيتية دفاعي وليس هجوميا. وقال لنا كاسيجين ونحن علي مائدة المباحثات نحن سنتصل بالولاياتالمتحدة، ونتكلم معها بحسم لوقف الغارات الإسرائيلية في العمق المصري، وفعلا وصل التحذير السوفيتي إلي الأمريكيين، لكنه قوبل بازدراء من نيكسون في أول الأمر، ولم يعره أي اهتمام بناء علي تحليلات مضللة من المخابرات الإسرائيلية شككت في أن السوفييت سيقدمون أي مساعدات حقيقية لمصر.. وفي 17 مارس 1970 وصلت شحنات من الأسلحة السوفيتية تتكون من الصواريخ سام 3 (حسب التسمية الأمريكية) وصواريخ «إس إس 25»،. وقرروا أيضا تسليم مصر طائرات ميج 23 للطيران الليلي، وإرسال وحدة من طائرات الميج 24 المصنوعة من الإستنلستيل، وقد خشوا أن تقع في إيدي الإسرائيليين فأرسلوها ومعها طياروها السوفييت. وقد ذكر بريجنيف أن تدريب المصريين علي هذه الطائرات سيستغرق وقتا طويلا لأنها تحلق علي ارتفاعات شاهقة، وأن الطيار الذي يقودها يفقد 4 كيلو جرامات من وزنه بعد كل طلعة قتال للطائرة.. ولقد أنزعج الرئيس نيكسون للغاية من هذه التطورات وأقلقه الوجود السوفيتي الذي أصبح كثيفا في مصر، حيث بلغ عدد الخبراء السوفييت في مصر في 4 أبريل 1970 عشرة آلاف خبير، بالإضافة إلي الوجود البحري في مرسي مطروح من أسطول وطائرات تقوم بالاستطلاع عن قرب لتحركات الأسطول السادس في البحر المتوسط. وأدرك نيكسون أن تحذير السوفييت كان جادا، مما أدي إلي وقف إسرائيل (في 23 مارس 1970) لغاراتها في عمق مصر.. وعندما كان الرئيس عبدالناصر في زيارته لموسكو في يوليو 1970 - أي قبل وفاته بشهرين - أسقطت الصواريخ المصرية في يوم واحد فقط سبع طائرات إسرائيلية وصرخت إسرائيل من تآكل سلاح الطيران الإسرائيلي. قبول مبادرة روجرز وهنا تقدم نيكسون بمبادرة روجرز الثانية (نسبة إلي وزير خارجيته وليام روجرز) وقدم المشروع إلي مصر وإسرائيل، وكان ينص علي وقف إطلاق النار لمدة 90 يوما، والدخول في مفاوضات جادة لحل المشكلة وقبلت مصر المشروع. كان الرئيس عبدالناصر في موسكو أثناء تقديم هذا المشروع، ومعه الفريق أول محمد فوزي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، ومحمود رياض وزير الخارجية، كان عبدالناصر يسير في حديقة المصحة التي يستشفي بها، وعلي يمينه الفريق فوزي، وعلي يساره أنا، فالتفت عبدالناصر إلي الفريق فوزي وقال له بالنص: فوزي.. كم تحتاج من الوقت لتتقدم بحائط الصواريخ إلي ضفاف قناة السويس؟.. وأجاب الفريق فوزي: خمسة وأربعون يوما يا أفندم. قال الرئيس: لأ .. سأعطيك 90 يوما. كان هدف عبدالناصر إذن من قبول مبادرة روجز، أن يتحرك بحائط الصواريخ حتي تتمكن القوات المسلحة من عبور قناة السويس تحت مظلة هذه الصواريخ، وتستطيع بذلك إسقاط الطائرات علي مسافة أكثر من 15 كيلو مترا داخل سيناء. كان حائط الصواريخ قبل ذلك بعيدا عن ضفاف قناة السويس، وبنيت لهذه الصواريخ حظائر بالأسمنت المسلح الذي يقاوم اختراق القنابل الثقيلة، بما يوازي المواد الأسمنتية التي استخدمت في بناء السد العالي، ونفذته شركات المقاولات المصرية، وكانت طائرات إسرائيل تشن غارات متصلة ليل نهار علي العمال الذين رفضوا ترك مواقعهم، واستمروا في بناء الحظائر.. وكانت دماؤهم تنساب علي ماتحطم من هذه الحظائر ولكنهم أصروا علي الاستمرار.. ثم قبلت إسرائيل وقف إطلاق النيران، ولكنها أصرت علي مايسمي بالصورة الفوتوغرافية للمواقع، بما يعني أننا التقطنا صورة فوتوغرافية لهذه المواقع، وبحيث يسهل رصد أي تغيير يحدث فيها بعد ذلك.