د. جابر عصفور ..ومن المؤكد أولًا أن العقل بقدر ما هو دليل على حرية إرادتنا، وعلى قدرتنا على الاختيار الخلاق فى فعل الوجود الفردى والإنساني، فإنه دليل على حتمية حضور العدل فى هذا الوجود، فلا فارق كبيرًا بين اقتران العقل بالحرية فى القدرة الخلاقة للفعل الإنساني، واقترانه بالعدل الذى يسوِّى بين حضوره الفردى وحضوره الجمعي. والمعنى فى الحالين مرتبط بالسعى الدائم لتأكيد الحرية والمساواة العادلة والخلاقة بين البشر. والحق أنه لا معنى للحرية دون العدل فى هذا السياق، فالحرية هى الوجه الآخر للعدل فى مدى الفعل الخلاق للإنسان الذى استخلفه الله على الكون، وذلك بالمعنى الذى يجعل الاستخلاف نفسه تكليفًا عادلًا لا يُمايز بين إنسان وغيره فى عموم الجنس. وبالمعنى نفسه فإنه لا معنى للعدل إلا إذا وقع أمر الاستخلاف على جميع الخلق، وذلك فى المدى الذى يسمح لكل فرد منهم بالتفوق على نفسه، أو التمايز على غيره فى مدى التكليف الذى يتجسد إنشاءً حرًّا لحضور المُستخلَف الذى يستوى عن غيره فى الوضع والمنزلة. ومن المؤكد ثانيًا أن العقل بقدر ما هو دليل على إنسانيتنا فإنه قرين العدل فى الكون، خصوصًا فى المدى الخاص بمسؤوليتنا إزاء خالقنا من ناحية، وإزاء البشر الآخرين من ناحية ثانية، فالله يمنحنا العقل لكى نُثاب إذا أحسنّا، ونُعاقب إذا أسأنا. وفى الوقت نفسه نتساوى فى مجال استخدام العقل، ونتمايز فى القدرة على هذا الاستخدام وما يوصلنا إليه فى مجالاته المرتبطة بالعلم أو الموازية له. ولهذا كان العقل قرين المساواة والعدل فى كل الأحوال. وما كانت هناك حرية إنسانية إلا ووراءها عقل حر، وبالقدر نفسه ما كانت هناك عدالة إنسانية إلا ووراءها عقول حرة تعترف بالاختلاف الواقع بينها. وعندما تقترن العقلانية بالحرية والعدل فإنها لا بد أن تقترن بالمساواة، ومن ثم بكل القيم التى ينطوى عليها الإنسان من حيث هو مشروع للمستقبل وفاعل – كخالقه - للمساواة والحرية والعدل الذى لا بد أن يعيش بهم وفيهم، وحسب قواعدهم، ولذلك فلا سُلطة على الإنسان إلا من نفسه وبالتوافق مع غيره من أبناء جنسه الذين يتعاقدون على بناء مجتمع إنسانى تحكمه قيم العدل والحرية والمساواة وحق الاختلاف على السواء. وهذه نتيجة يترتب عليها، فى عصرنا الحديث، معنى جديد للدولة التى يجتمع بها البشر، وعلى أساسٍ من عقدٍ اجتماعى يتواضعون عليه، ليبنوا مجتمعًا يقوم على ما يحقق المنفعة والمصلحة المشتركة للجميع دون تمييزٍ على أساسٍ من دِين أو عِرق أو لون أو ثروة. وهذا هو معنى الدولة الوطنية فى عصرنا الحديث منذ أن انبثقت مفهومًا إلى أن تأسست واقعًا ابتداء من القرن التاسع عشر. ولهذا فحديثنا عن الدولة الوطنية هو حديث عن دولة مدنية تحقق مصالح الأفراد بعيدًا عن التحيزات الدينية أو العِرقية أو السياسية. وهذه هى الدولة التى تُعقلن حياتها بقوانين السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد، لا تفارق المبادئ التى قامت عليها وإلا فقدت هويتها من حيث هى دولة وطنية. وكونها وطنية لا يناقض حضور القيم الدينية أو الروحية بأية حال من الأحوال. ولذلك فإن العقلانية صفة من صفات الدولة المدنية الحديثة التى تحكم بين الناس بالعدل وتسوِّى بينهم - من حيث هم مواطنون - بالحق، بعيدًا عن تحيزات الديانة أو اللون أو العِرق أو المذهب. وهناك دولة عقلانية فى مقابل دولة غير عقلانية. الدولة الأولى عقلها هو دستورها الذى تتفرع منه القوانين والقيم الأخلاقية والروحية التى تتحكم فى سلوك أفرادها على نحوٍ مباشر وغير مباشر فى آن. والمباشرة مرتبطة بالإعمال الصريح لمواد الدستور والقوانين، وعدم المباشرة تعنى التأثير الخاص لحضور القيم و المبادئ الأخلاقية ، دينية أو غير دينية. ولا أزال أرى أن العقلانية بوصفها اتجاهًا أو منزعًا حضاريًّا لا تزال مُحارَبة فى العالم العربى والإسلامي، نتيجة ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية لا تؤدى إلا إلى التخلف والهزيمة. وكانت كُتبى السابقة كلها فى هذا المجال، براهين على هذه المقولة. وكل ما أرجوه أن يُحقق كتابي: « العقلانية .aspx' دفاعًا عن العقلانية » - الذى فرغتُ منه - هدفه ضمن كتاباتى السابقة التى تنصبُّ كلها نحو هدفٍ واحدٍ، هو الربط ما بين التنوير والحداثة و العقلانية والعلم فى تأسيس حركةٍ فكريةٍ حُرة ، صاعدةٍ، تُخلِّصنا من كل ما نحن فيه من مثالب، وتدفعنا إلى التقدم الخلاق صوب المستقبل الواعد، ومن ثم كل ما يقترب بنا من مشرق النور والعجائب. ولذلك لم أكتب هذا الكتاب للقارئ الأكاديمى المتخصص، وإنما للمثقف العام الذى يريد أن يعرف الأوضاع التى تؤدى به ومجتمعه إلى التخلف أو تقوده إلى التقدم، مُدركًا أنه لا فاصل بين التراث القديم والماضى القريب فى الوصول إلى النتائج نفسها. فما حدث فى الماضى - فى بُعده أو قُربه - يمكن أن يتكرر فى الحاضر أو فى المستقبل، والعاقل هو من يعى ماضيه فى سلبه وإيجابه كى يبنى على وعيه المستنير أُسس المستقبل الواعد والمتقدم. وهذا هدف يحتاج إلى توسيع دوائر القراء، والبحث عن كل طالب للمعرفة أيًّا كان موقفه وموضعه. وإذا كانت قراءة الماضى مهمة فى هذا المجال، فإن الخروج من هذه القراءة بنتائج تؤدى إلى إثراء الحركة صوب المستقبل الواعد، هى الغاية التى يهدف إليها كتابي، ويؤكدها فى سعيه إلى أن يكون لَبنة فكرية يتأسس عليها وعى المستقبل المتقدم عند القارئ الافتراضى لهذا الكتاب. ولذلك لم أحرص على الكتابة الأكاديمية التى تتسلح بالمصادر والمراجع والإشارات الدقيقة أو المُدققة، وإنما بالوعى الذى استخلصتُه من قراءاتى وخبراتي، وصُغْتهُ لكى أوصله إلى القارئ الذى أرجو أن ينتهى من القراءة وهو أكثر إدراكًا لماضيه البعيد والقريب، فضلًا عن مستقبله الذى أرجو أن يكون مُجسِّدًا لمشرق النور والعجائب. وهو المستقبل الذى لا بد أن نكون على دربه الصحيح لو أعلينا مصابيح الاستنارة الساطعة وأنوار العقل الحُر. نقلا عن صحيفة الأهرام