د. حاتم عبدالمنعم أحمد خلص المقال السابق إلى تأكيد كثير من علماء الاقتصاد على أن المؤشرات الاقتصادية منفردة لاتكفى لضمان نجاح التنمية، وتاريخ مصر الحديث، يؤكد ذلك بالرجوع لتجربتى ناصر ومبارك في التنمية؛ حيث تقاربت المؤشرات الاقتصادية المنفردة لحد كبير؛ حيث نجد أن معدل النمو الاقتصادى في الخمسينيات بلغ نحو 6%، ثم ارتفع في النصف الأول من الستينيات إلى 8%، وبلغ معدل النمو في العقد الأخير من حكم مبارك نحو 7%. والمدهش في التجربتين هو الحس الشعبى أو رضا الشعب ففي حين وقف الشعب مع ناصر فى انتصاراته وحتى في الهزيمة، ثم في توديعه في أكبر جنازة شعبية نفس هذا الشعب خلع مبارك في انتفاضة شعبية كبيرة؛ مما يعكس أهمية الرضا الشعبى عن الإصلاح أو التنمية وهذا هو البعد الاجتماعى، وهو أهم أبعاد التنمية وأهم مؤشر لنجاح أي إصلاح أو أي نظام فبدون الرضا الشعبى أو البعد الاجتماعى لن يكون هناك تأييد أو دعم لأى إصلاح أو تنمية، وهذا هو مايسعى إليه التقييم البيئى الشامل. وعند الرجوع لتجربتى ناصر ومبارك يتضح زيف كثير من أرقام أو معدلات النمو لتناولها جزءًا من الحقيقة أو جزءًا من الصورة وإخفاء أبعاد أخرى أكثر أهمية، ويمكن توضيح ذلك من خلال الآتى: 1- القروض؛ فقد حكم ناصر مصر نحو 18 عامًا، وكان الاقتصاد المصري مثل البقرة التي تحلب وتعيش لخدمة انجلترا - كما يقول الاقتصادى عبدالجليل العمري - لدرجة أخذ انجلترا ما تشاء من محاصيل أو خدمات باسم ديون لمصر، ولم تسدد بالطبع، وبلغ الدخل القومى لمصر قبل الثورة 50 مليون جنيه، وكان متوسط دخل الفرد سنويا 65 دولار شهريًا، ثم أصبح الدخل القومى عام 1965 خمسة مليارات دولار، وتضاعف بالتالى متوسط دخل الفرد، وكان الناتج المحلى لكوريا 3 مليارات دولار، وكان نموذج التنمية المصري الأفضل على مستوى العالم وهوالنموذج الذي سار عليه مهاتير محمد في مالزيا بعد ذلك. واستطاع ناصر في فترة حكمه إحداث نهضة صناعية وزراعية كبرى؛ حيث أضاف مشروع السد العالي نحو 2 مليون فدان جديدة ووفر المياه للزراعة مرتين في العام مع زيادة انتاجية الفلاح 50% ونهضة صناعية كبرى من المحلة إلى أسوان إلى حلوان وشبرا ومعظم مدن الجمهورية ويقدر قيمة المصانع التي بنيت في عصر ناصر بنحو مائة مليار دولار، وكان إجمالى ديون مصر عند وفاة ناصر نحو700 مليون جنيه مصرى فقط، وكان عائد السد العالي وحده سنويا أكبر من هذا المبلغ، ويكفى ناصر أنه نجح في اعتماد مصر على المنتج المصري، وكانت مستلزمات كل بيت مصرى تعتمد على المنتج المصري فقط من تليفزيون إلى ثلاجة إلى بوتجاز إلى مروحة أو سيارة أو ملابس وغيره؛ مما ساعد على توفير فرص عمل لمعظم الشباب، وانخفضت البطالة، ونسبة التضخم لم تتعد 3%. بينما ترك مبارك الحكم وديون مصر بلغت 35 مليار دولار على الرغم من إعفاء مصر من ديون أخرى بعد حرب تحرير الكويت، وبلغ الدين المحلى 1045 مليار جنيه مصرى، وبالطبع لم يضف مبارك صناعة جديدة؛ بل باع كثيرًا من مصانع الستينيات أو معظمها. والمؤسف أن نظام المعاشات والتأمينات التي أنشأها ناصر تم في عصر مبارك الاستيلاء عليها بجانب بيع الأراضي للأجانب؛ مما يعنى في النهاية عدم وجود أي نمو حقيقى؛ بل تراجع شعر به الشعب بتلقايئة وبدون فلسفة المنظرين. 2- بالنسبة للاستثمار وصلت في عصر ناصر إلى 20%، وهي أعلى نسبة في هذا العصر، ولم يصل إليها عصر مبارك؛ برغم كل التنازلات التي قدمها للاستثمار، وبالنسبة للحفاظ على قيمة العملة فقد الجنيه في العصر الملكى 140% من قيمته؛ حيث كان سعر الدولار 14 قرشًا عام 1936، ثم وصل إلى 36 قرشًا عام 1951 وإلى 39 قرشًا عام 1973؛ أي لم يفقد في عصر ناصر سوى نحو 8% فقط، وكان سعره في بداية عصر مبارك 69 قرشًا، ثم وصل في نهاية عصره إلى نحو 580 قرشًا؛ أي فقد الجنيه نحو 850% من قيمته في عصر مبارك. 3- بالنسبة للخدمات؛ زاد عدد طلاب المدارس والجامعات بحو300% في عصر ناصر، وبنت مصر أكبر عدد من المدارس والجامعات والمستشفيات والوحدات الصحية، ووفرت خدمات تعليمية متميزة خرجت زويل ومجدى يعقوب والباز ومصطفى السيد.. وغيرهم، واستطاعت مصر في عصر ناصر وأثناء تولى الدكتور النبوى المهندس وزارة الصحة أن ترفع نسبة الاعتماد على الإنتاج المحلى من الأدوية من 15% إلى 85%، ثم رفعت الدولة يدها تدريجيا في عصري السادات ومبارك؛ مما أدى إلى الرجوع مرة أخرى إلى 15% إنتاج محلى من الأدوية، وتدهور كبير في مجال الخدمات بوجه عام، وخاصة في التعليم والصحة. 4- في مجال دور الدولة ومكانتها خارجيا؛ كانت مصر الناصرية تقود حركات تحرير أراضى وثروات العالم الثالث، ولها دور قيادي يفخر به أي مصرى، وكانت مصر واعية لأبعاد أمنها القومى من خلال نظم صديقة بداية من حدودها وأصدقاء يحكمون في ليبيا والسودان ومنظمة فتح في غزة، وعلاقات متميزة مع جميع الدول الإفريقية؛ خاصة دول حوض النيل وإثيوبيا؛ مما مكنها من زيادة حصة مصر بنحو 16% من نهر النيل، وللاسف ترك مبارك الحكم وحماس في غزة والبشير في السودان، وأهمل إفريقيا بوجه عام. وداخليا كان للحكومة الدور الأكبر في الدخل القومى بنسبة 80%، ثم باع مبارك أنصبة الدولة التي تراجعت إلى 20%، وترك شبه دولة، كما قال الرئيس السيسي مؤخرًا، وهناك شهادة مهمة للاقتصادى جلال أمين أن أفضل نموذج للتنمية في مصر كان نموذج الستينيات. الخلاصة؛ برغم تشابه بعض مؤشرات النمو في تجربتي ناصر ومبارك إلا أن الفروق شاسعة وجوهرية؛ لأن تجربة ناصر أنتجت دولة قوية قادرة على إشباع الاحتياجات الأساسية لشعبها؛ ولذلك نالت ثقة الشعب ورضاه عكس تجربة مبارك، ومن هنا أهمية التقييم البيئى الشامل بوجه عام، وأهمية البعد الاجتماعى المتمثل في الرضا الشعبى بوجه خاص.. والله الموفق.