الحضور المكثف للمرأة الأفغانية، أكثر ما لفت نظري في تنظيم الحوار الأمني السابع، الذي استضافته مدينة "هرات" الأفغانية، بحضور وفد دبلوماسي وإعلامي مصري، والمئات من القيادات والخبراء الأفغان والأجانب. تمثل الحضور اللافت للمرأة في قيام امرأة أفغانية بتلاوة آيات بينات من القرآن الكريم، في افتتاح أعمال المؤتمر، الحاشد، بقلعة هرات التاريخية الحصينة، وكذلك تناوب العديد منهن في إدارة الجلسات السبع، بتمكن واقتدار، على مدى يومي 26 و27 أكتوبر الماضي، وسط إجراءات أمنية، لم أشهد لها مثيلاً. لعل الرسالة المطلوب توصيلها للجميع، من هذا الظهور المكثف، والمشرف، للمرأة الأفغانية، في مثل هذه المنتديات، هي تأكيد جدارتها وكفاءتها، وأهليتها، في تحمل المسئولية جنبًا إلى جنب مع الرجل، وأيضًا، وهو الأهم، هو إظهار عدم استعداد المرأة الأفغانية للتفريط، بأي حال من الأحوال، في المكتسبات المدنية والحقوقية التي بلغتها، بعد زوال حكم إمارة طالبان، المظلم، منذ 17 عامًا، ومهما استماتت الحركة، في محاولتها العودة إلى دفة الحكم، من جديد، باستخدام كل الأسلحة، لتخريب مسيرة إقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة في أفغانستان. في الطائرة المدنية، التي أقلتني من مدينة دبي الإماراتية، إلى مطار "حامد كرزاي" في كابول، كانت تجلس في المقعد المجاور لي طفلة أفغانية صغيرة، اسمها هبة، عمرها ثلاث سنوات، كانت بصحبة والدتها، وقد أنهت الطفلة البريئة للتو علاجها خارج بلدها، من إصابة قاتلة ضمن عمل تفجير انتحاري دنيء نفذته حركة طالبان. الأمانة تقتضي الإقرار هنا، بأنه مهما أظهرت، شخصيًا، شجاعة وجرأة في قبول تحدي مخاطر السفر لأفغانستان، فإنني لا أخفي على الجميع مدى الخوف، والرعب، الذي كان ينتابني، وأنا في الطائرة، وطوال رحلة السفر إلى مطار كابول الدولي، مارًا في أجواء مدن أفغانستان، وجبالها الشهيرة باستيعاب وتوطين أشنع تنظيمات الإرهاب العالمية، مثل القاعدة، أساسًا، وملحقاتها كتنظيم "داعش"، وحركتي طالبان وحقاني، وغيرها. أحاسيس الرعب، كانت تتفاقم كلما وقعت عيني على خريطة مسار الطائرة، فوق مدن تحمل أسماء مثل: قندهار وغزني ومزار شريف وكابول، وكذلك عندما كانت الطائرة تقترب من قمم جبال أفغانستان، الشاهقة، الموبوءة بالأنفاق والدروب والأوكار، الحاضنة لإرهابيين، توافدوا، من كل فج وصوب،على تلك البلاد، المنحوسة، طوال العقود الأربعة الماضية، وبالتحديد، منذ الغزو السوفيتي لأفغانستان، في عام 1979، وكذلك الغزو الأمريكي في عام 2001. أحدث إحصائية لعدد الإرهابيين ذكرها نائب وزير الدفاع الأفغاني، هلال الدين هلال، مؤكدًا أن عدد التنظيمات الإرهابية التي تنشط في أفغانستان حاليًا يبلغ 21 تنظيمًا وجماعة وحركة وشبكة، تضم أكثر من 50 ألف مسلح ، وبيانها على النحو التالي: - حركة طالبان تضم نحو 38 ألف مسلح، وتعد أكبر التنظيمات عددًا وعدة وعتادًا . - شبكة حقاني وتضم نحو 11 ألف مسلح. - تنظيم الدولة الإسلامية، "داعش"، وقد بدأ في تعزيز وجوده في أفغانستان، ويضم نحو 2500 مسلح: 70% منهم من باكستان، 6% أوزبك، 4% شيشان، 14% أفغان، 3% عرب، 1% صينيون من إقليم شينجيانج. عدد محدود جدًا من طائرات نقل الركاب المدنية، المحلية والأجنبية، يمكن رؤيته بالعين المجردة، عند الوصول إلى مطار "حامد كرزاي" الدولي في كابول، فيما بدا المطار، نفسه، وكأنه قاعدة جوية محاطة بأسراب من الطائرات العسكرية العمودية (هليوكوبتر)، وصالة متواضعة لاستقبال القادمين، وأخرى للمغادرين، تتناسبان مع حركة السفر المحدودة، أصلًا، في مطار كابول ، مع تكثيف مريب لتفتيش الأمتعة، والتحريات المشددة، مما يزيد من مشاعر الخوف والرعب لدى القادمين. نحو 20 ساعة، استغرقتها رحلة السفر من مطار القاهرة، حتى الوصول إلى مقر الإقامة في مدينة هرات غرب أفغانستان، وأزعم أنه لو كانت هناك طائرة مباشرة مع توافر الظروف الأمنية الطبيعية في السفر بين المدينتين، لما استغرقت مدة الرحلة أكثر من 5 ساعات. الرحلة بالطائرة من كابول إلى هرات مدتها ساعة واحدة، غير أن الدوافع الأمنية والتنظيمية استدعت الانتظار الممل لساعات، في مطاري المدينتين، ليأتي تحرك المدعوين لحضور المؤتمر، خارج الميناءين الجويين، في مواكب أمنية مهيبة وصاخبة من السيارات الضخمة المصفحة، المحاطة بقوات من رجال الأمن، المدججة بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، وإخلاء كامل للطرقات من عبور المشاة والمركبات، وتكرار التفتيش للأمتعة، والتحقق من شخصيات المدعوين. مريم صافي، امرأة أفغانية شابة، تعمل مديرة لأحد مراكز البحوث والدراسات التنموية الأفغانية، كانت تجلس إلى جواري في مقعد الطائرة، المتجهة من كابول إلى هرات، وهي، نفسها، إحدى السيدات الأفغانيات، التي كانت تدير- باقتدار - جلسات المؤتمر، وتناضل من أجل الحفاظ على الحقوق المكتسبة للمرأة، بعد الإطاحة بحكم طالبان، ومن أجل الحفاظ على الدستور القائم، المستهدف إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة في أفغانستان. في أثناء تناول وجبة الغداء بالمؤتمر، الذي نظمه معهد أفغانستان للدراسات الإستراتيجية، جرى حوار بيني وبين ناشطتين أفغانيتين، من مدينة هرات، هما عزيزة ومنى، سألتا في البداية عن الأحوال في مصر، التي تشغل حيزًا كبيرًا من المحبة في قلوب الأفغان، طمأنتهما بأن مصر تخلصت من كابوس الحكم الاستبدادي والديني، والمظلم في ثورتي 25 يناير و30 يونيو، وتتجه مصر- بثقة - نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، متمنيًا أن تتواصل جهود الأشقاء الأفغان، تتقدمهم المرأة، في الاتجاه، ذاته، لتحقيق الغاية النبيلة، نفسها، مهما بلغت التضحيات. شرحت الناشطتان، عزيزة ومنى، حجم الصعوبات، والقهر الذي واجهته المرأة الأفغانية، إبان حكم طالبان، المظلم؛ حيث تم إرغامهما على ارتداء البرقع والنقاب، تحت شعار خلق بيئة آمنة للحفاظ على كرامة وطهارة النساء. ومن سن الثامنة لم يكن مسموحًا للنساء الأفغانيات بأن يقمن بأي اتصال مباشر مع الرجال، ويمنع عليهن ارتداء أحذية ذات كعب عالٍ، كما يمنع سماع الرجال خطواتهن، خشية الفتنة، ويمنع عليهن التحدث بصوت عالٍ في العلن، وكل نوافذ الطوابق الأرضية والطوابق الأولى في المنازل لابد من طلائها وسترها منعًا لرؤية أي امرأة من خلالها، مع منع ظهور النساء من شرفات منازلهن، ومنع تصوير النساء فوتوغرافيًا أو سينمائيًا، وبالتالي منع عرض صور للنساء في الصحف أو المجلات، وتعديل أسماء الشوارع التي تتضمن أسماء لنساء، وأخيرًا، منع ظهور أو حضور المرأة الأفغانية في الإذاعة أو التليفزيون أو في أي تجمع. ليس هذا - فقط - ما تريده طالبان.. (وللحديث بقية) [email protected]