د. حاتم عبدالمنعم أحمد كانت صراحة الرئيس الأمريكي وإدارته السياسية هي القشة التي أسقطت فعليًا وهمًا انتشر لعقود طويلة عن حرية السوق، التي طالما تمسك الغرب لإقناع الدول النامية بها. وأن حرية السوق هي السبيل الوحيد للتنمية، خاصة بعد سقوط الشيوعية، والحقيقة الواضحة أن كليهما نظام بشري اجتهد في وضع نظام اقتصادي يخدم مصالحه السياسية والاقتصادية معًا، وهذا حق طبيعي لهما. وكان انهيار النظام الشيوعي فرصة لمزيد من الانتشار والتوسع لنظام حرية السوق والرأسمالية في شتى أنحاء العالم، ثم جاء الرئيس الأمريكي ليهدم المعبد المقدس من خلال رفضه صراحة مبادئ حرية السوق، والمطالبة بعدالة السوق على أساس أن حرية السوق ظالمة لأمريكا. ولذلك قرر فرض رسوم جمركية على الفولاذ المستورد من أوروبا بنسبة 25%، وعلى الألومينيوم المستورد 10%؛ مما اضطر الاتحاد الأوروبي بقيادة إنجلترا وفرنسا وألمانيا لفرض رسوم جمركية مماثلة على المنتجات الأمريكية؛ مثل التبغ والويسكي والجينز والدراجات النارية الأمريكية. ثم رأت أمريكا أن الصين أيضًا دولة ظالمة؛ ولذلك فرضت أمريكا رسومًا جمركية على المنتجات الصينية لتحقيق عدالة السوق، وليس حرية السوق التي أصبحت من وجهة نظر أمريكا ماضيًا انتهى زمانه، مما جعل الصين ترد برسوم مماثلة على المنتجات الأمريكية، وبالتالي انتهت الآن رسميا حرية السوق. وفى انتظار الإعلان الرسمي عن سقوط أهم مبادئ الرأسمالية، هل نعي هذه الحقائق الواضحة والتي تنبئ بتباعد سياسي واقتصادي كبير بين أوروبا وأمريكا، خاصة بعد انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران، في حين تقف أوروبا والصين وروسيا مع إيران ويتحدون الإجراءات الاقتصادية الأمريكية ضد إيران؛ لحماية مصالح الشركات المتعاملة مع النظام الإيراني. كل هذه الأحداث المتسارعة والخطيرة تنبئ بأننا على أعتاب نظام عالمي جديد، بعد انهيار الرأسمالية، وحرية السوق الظالمة من وجهة نظر أمريكا. وبالطبع نحن دول العالم الثالث نتفق تمامًا مع الرئيس الأمريكي في أن نظام حرية السوق ظالم وانتهى فعلًا، ونسعى معه لنظام عدالة السوق الذي يحتاج للتحاور والوقت؛ لتحديد أهم سماته والاتفاق عليه؛ لأن نظام حرية السوق قدمه لنا الغرب بقيادة أمريكا على أنه السبيل الوحيد للتنمية، وباسمه تم نهب ثروات العالم الثالث، فعلى سبيل المثال قامت النهضة الصناعية الكبرى في الغرب على البترول حينما كان سعره نحو 2 دولار وكانت تكلفة استخراجه نحو دولار، وبعد حرب أكتوبر 73 بسنوات قلائل ارتفع سعره لأكثر من أربعين دولارًا للبرميل، وهذا مثال على استغلال الغرب وظلمه للدول النامية، فهل هذه حرية السوق، وكل منتجات العالم الثالث تخضع لهذا التحكم وظلم السوق؛ وللآن تمارس الضغوط السياسية وغيرها لنهب ثروات العالم الثالث من خلال صفقات للأسلحة وغيرها. وكمثال حديث استطاع الرئيس الأمريكي خلال أيام قلائل عقد صفقات تعدت 400 مليار دولار أمريكي من ضغوط متنوعة، فهل هذه حرية السوق أو حتى عدالة السوق؛ بل إن الغرب وأمريكا خاصة تشعل المزيد من الحروب لنهب ثروات العالم الثالث. وكلنا يتذكر دور أمريكا في تشجيع صدام حسين على غزو الكويت، ودورها المشبوه مع "القاعدة" و"داعش" وغيرهما، والآن أصبحت حرية السوق اسمًا على غير مسمى؛ لأنها في الواقع إرهاب أو ضغوط السوق، فالتجارة في كثير منها تتم بالإكراه، وأبعد ما تكون عن الحرية لمن يتأمل ويدرس الماضي والحاضر. وبالإضافة لكل ما سبق فإن نظام حرية السوق بالأرقام والإحصاءات الدولية نظام ثبت فشله، حيث تشير مؤشرات البنك الدولي إلى أن معدلات النمو خلال العقود الأخيرة في جميع الدول الغربية تراوحت مابين 1% إلى 2%، مقابل نحو 10% في الصين، وارتفعت في الهند إلى نحو 8%، وقبل ذلك وصلت هذه النسبة في الاتحاد السوفيتي إلى نحو9%، ومصر قبل حرب 67 إلى 8%، وماليزيا 8%. النماذج كثيرة وتسبق الدول الرأسمالية بكثير، هذه أرقام عالمية معروفة للجميع، والأرقام لا تكذب فلماذا يتجاهلها الكثيرون، وهنا ملاحظة مهمة، وهي أن الدول الرأسمالية الكبرى تحقق نموًا 1 أو 2% فقط؛ بالضغوط واحتكار السلاح وفرضه وإقامة الحروب، وبغير هذه الضغوط لن يكون هناك نمو بل تراجع، والسؤال هل بعد كل هذا يُعد نموذج اقتصادات السوق مناسبًا للدول النامية؟ وهل تستطيع تصدير سلاح، وممارسة ضغوط التجارة غير العادلة التي تشكو منها أمريكا؟ وهل تستطيع إقامة نهضة صناعية ببترول رخيص؟ الخلاصة انتهت أسطورة اقتصادات السوق، وسقطت الرأسمالية، وعلينا كدول نامية البحث عن نظام آخر يناسب ظروفنا وبيئاتنا؛ إذا أردنا التنمية وليس التبعية؛ لأن أبسط قواعد المنطق أنه لا يوجد نظام بشري يصلح أو يناسب كل زمان وكل مكان؛ فلكل بيئة ظروفها وخصائصها، وما يناسب أمريكا مثلا قد لا يناسب الصومال أو غيرها، والاتجاهات الحديثة في الفكر الإنساني ترفض التعميم والنظريات القديمة والنظم السياسية والاقتصادية السابقة، وأصبح هناك تقارب وتداخل بين هذه النظم والنظريات ونقاط للالتقاء، أي وسطية بين تيارات اليسار واليمين في الفكر والاقتصاد والسياسة، وكل هذا في طور التكوين. والمستقبل القريب الواضح يؤكد أن النظم السابقة الاقتصادية والسياسية في مراحلها الأخيرة، والجديد قادم سريعًا، وتستكمل ملامحه رويدًا رويدًا، وعلينا سرعة الاستيعاب والتحرك.