حتى عهد قريب، كان في الإمكان التحكم في المعرفة وطبيعتها ووسائلها، بل كان في الإمكان عزل الأبناء عن التيارات الفكرية، مما يسمح لهم بأن ينشأوا في أمان وبمعزل عن أية أخطار، وما أكثر الأسر التي كانت توصف بأنها محافظة، لأنها كانت تتحكم في سلوكياتها وسلوكيات أبنائها بالتحكم في مصادر المعرفة. أما اليوم، فقد انفتحت كثير من المغاليق، وأصبح في إمكان الإنسان أن يصل إلى كثير مما لم يكن في إمكانه الوصول إليه سابقًا، وليس أدل على ذلك مما يطلق عليه ثقافة الميديا، من أدوات تكنولوجية معاصرة، وبخاصة القنوات الفضائية، وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، والهواتف المحمولة، وغيرها من أجهزة العرض والاتصال، فالأطفال في إمكانهم أن يشاهدوا كل ذلك، وبخاصة أنهم امتلكوا وسائل التحكم، فكثيرا ما يجلس الأطفال أمام شاشات التليفزيون ليتنقلوا عبر قنواته الفضائية، أو يستخدمون الكمبيوتر في اللعب عبر الإنترنت، وما أكثر الألعاب التي تستخدم الإغراءات الجسدية –مثلا- وسيلة من وسائل الدعاية، وهو ما يضع أمام الأطفال معرفة جديدة كانت مرفوضة من قبل، وكانت ممنوعة عليهم. هذه المعرفة في ذاتها تمثل تحديًا، لأنها معرفة قهرية تصل بغير استئذان، ويصعب التحكم فيها، فلا يمكن منع الأطفال من استخدام كل ما سبق، وإلا فقد مكونا مهما من مكونات شخصيته، وهو المكون الخاص بمهارات التعامل مع النظم، كما يطلق عليه في العلوم الحديثة، وهذه النظم تشمل الإنساني منها، والمادي المتمثل في استخدام التكنولوجيا، والوعي بوظائفها، والاطلاع على منجزات العلم الحديث. تكنولوجيا المعلومات وتثقيف الطفل: تمثل المعلوماتية وتكنولوجيا المعلومات، إحدى أهم الوسائل المعاصرة للتثقيف، وكلاهما يعتمد على الآخر ويوظفه، بما أدى إلى تطور مطرد ومتلاحق، اعتمد في إجماله على الاختزال في كل شيء: اختزال المسافات، واختزال الزمن، واختزال الكم والمساحة، واختزال الجهد والمهارات والإمكانات والوسائط والبدائل، وغيرها من المفاهيم التي حيرت البشرية عبر تاريخها (الخفة والحركة والزمن). وربما لا يعد من غريب الأمر، أن يستطيع الأطفال التواصل مع أدوات التكنولوجيا على نحو يتفوقون فيه على الكبار، وهو ما يفسره البعض على أنه منتج قريب العهد بهم يعبر بشدة عن أنماط وتشكلات الحياة في زمنهم، وإن كنا نرصده من منظور الحرية التي يمتلكها الطفل في تعامله مع التكنولوجيا، حيث لايفرض عليه أحد ما يجب عليه عمله، وإنما يصبح هو المتحكم والقائد، والمبدع والمفكر، ويمكن هنا ملاحظة طفل يجلس أمام الكمبيوتر أو يستخدم الإنترنت في تصفح مواقع أطفال، حيث يصبح هو المتحكم الأوحد والقائد والباحث والمتأمل والمجرب ومتخذ القرار والمتحمل لعواقب قراراته، وهو ما يساعد في بناء شخصيته على نحو لايتوفر لمن لايمر بهذه الخبرات، ويمنحه الحرية التي تسمح له بأن يمارس عمليات التفكير ويعايشها معايشة تسمح له بأن يتتبع معطياتها، ويحاول التدخل في تشكيلها على قدر استطاعته، وهي استطاعة متطورة ونامية على الدوام. كما يمكن تفسيره أيضًا من منظور الملكات التي يمتلكها عقل الطفل من مثابرة واهتمام بالتفاصيل وقدرة على المواصلة وسرعة في التعلم وتنظيم في العقل وقدرة على ربط الدقائق والتفاصيل ونسجها في سياق واحد، ولَمٍّ لشتات الأمور وجمعها، واهتمام بالمتخيل الغائب من خلال حضوره الغائم، فالطفل مفكر صغير، يتأمل كل ما يمر به أو عليه، فعلى سبيل المثال، قد يلاحظ بعض الآباء كثرة وسرعة استهلاك طفلهم للألعاب، إذ غالبا ما تتهشم من (نبشه) فيها، والحقيقة أنه على نحو فطري يسعى لاستكشاف أسرار تشغيلها، ومعرفة دقائقها. إن التثقيف هنا – عبر التكنولوجيا – لايصبح مجرد معارف ومعلومات ينبغي على الطفل اختزالها لاستدعائها عند الحاجة، وإنما يصبح عمليات استيعاب وإنتاج، وهو المفهوم المعاصر والمقيم للثقافة. وفي الإجمال، فإن هذا التطور التقني يحتم علينا ضرورة تغيير المداخل التربوية والتعليمية التي يتم من خلالها التعامل مع الأطفال، بوصف التربية (داخل محيط الأسرة) أحد المداخل الأساسية للثقافة والتثقيف، الأمر الذي يستوجب أيضًا إكساب الطفل مهارات لم تكن في الحسبان من قبل، مثل مهارات التعلم الذاتي، والتعلم المستمر مدى الحياة، وتعديد مصادر التعلم والتدريب على كيفية استخدامها وتوظيفها، وغيرها من المهارات التي طرحتها وتطرحها التكنولوجيا في كل حين، وهو ما غير الغايات الأساسية للتربية من كونها عملية تعليم إلى عملية تعلم، ومن كونها معرفة إلى تنمية مهارات، ومن كونها اختزالًا إلى توظيف.