يشكل مفهوم ما بعد الحداثة واحدا من أكثر القضايا إلحاحا, حيث يثار حوله جدل واسع في الغرب والشرق, فبينما المفكرون العرب لايزالون منشغلين في النقاش حول الحداثة, يفاجئهم بعض المفكرين الغربيين بصياغة تيار فكري آخر يطلق عليه ما بعد الحداثة, هذا التيار يقوم علي أساس شن هجوم علي قيم الحداثة الغربية ومفاهيمها, وهو ليس بالطبع مجرد نوع من الغلطات النظرية, فهو من بين أشياء أخري يمثل أيديولوجية الفترة التاريخية الراهنة للحضارة الأنجلو أمريكية والأوروبية, ويرتبط بقدر من العلاقات الثقافية المتغيرة. فإذا كانت هناك سمات فكرية كبري رافقت الحداثة الغربية, اهمها العقل والعقلانية, حيث غدا العقل الحسابي والنقدي هو معيار كل معرفة ومرجعها الحاسم الي درجة جعلت منتقدي الحداثة يعيبون عليه كونه عقلا أداتيا بمعني العقلانية الصارمة, والنزعة التقنية وبالقدرات اللا متناهية علي السيطرة علي الطبيعة والإنسان, او بعبارة أدق انها سيطرة علي الطبيعة عبر السيطرة علي الانسان, فهل مابعد الحداثة تحاول تقديم صورة اكثر انسانية عن الحداثة بحيث تدمج في منظورها الذات البشرية الفاعلة والأهداف والمعاني السامية؟ تمثل ما بعد الحداثة حركة فكرية تقوم علي نقد, ورفض كثير من الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الحضارة الغربية الحديثة, فهي تري ان الزمن قد تغير, وأن الظروف العامة قد تجاوزت كل الانجازات نتيجة لتقدم أساليب الإعلام والاتصال, أي ظهرت حالة جديدة من التاريخ تتطلب قيام نظريات ومفاهيم تتلاءم مع الأنماط المعرفية الجديدة والتطورات التي طرأت علي النظام الرأسمالي نفسه خصوصا بعد ازدياد الاتجاه نحو العولمة. ومن هذا المنطلق, فمشروعية المعرفة في مجتمع مابعد الحداثة تتم عن طريق امور أخري بعد ان فقدت الخطابات او المبادئ السابقة مصداقيتها. فأحد خطابات النمط المعرفي الما بعد حداثي كما حددها ليوتار هو تحويل المعلومات الي سلعة للاستهلاك والربح, ومثل هذا الخطاب يهدف الي تأسيس سلطة اقتصادية مكونة من رجال الاعمال والمديرين المتحكمين في المعرفة والمعلومات وسبل احتكارها وتسويقها كسلعة, وهو ما تمثله الدولة الرأسمالية ومديرو المنظمات الكبري من جهة والشركات المتعددة القوميات من جهة اخري. لذا, فالمعرفة ستكتسب الشكل الذي اتخذته علاقة منتجي ومستهلكي السلع بالسلع التي ينتجونها ويستهلكونها أي شكل القيمة, فالمعرفة تنتج وسوف تنتج لكي تباع وتستهلك, وسوف تستهلك لكي يجري تقييمها في انتاج جديد, وفي كلتا الحالتين, فان الهدف هو التبادل, إذن ستكف المعرفة عن ان تكون غاية في حد ذاتها, وستفقد قيمتها الاستعمالية. علاوة علي ذلك, فالمعرفة بصفتها سلعة معلوماتية, والتي لاغني عنها للقوة الانتاجية, ستصبح من اهم مجالات التنافس العالمي من اجل احراز القوة, ومن غير المستبعد ان تدخل دول العالم في حرب من اجل السيطرة علي المعلومات كما حاربت في الماضي من اجل السيطرة علي الاراضي, حيث يمكن ان يؤدي حجز المعلومات الي نتائج كارثية. إذن أصبحت مشكلة السيطرة الاجتماعية علي المعلومات, احد محاور صراعات السلطة, والمكانة علي المستوي الاجتماعي. ولقد ساد اعتقاد مفاده ان العالم سيصبح افضل إذا امتلك اناس أكثر وسائل للمعرفة, فهل المسألة هي إتاحة المعرفة أيا ماكانت؟ هل نحن في حاجة الي المعلومات أم الي الفهم؟ إن بوسع التكنولوجيا ان تقدم علي وجه السرعة كما ضخما من المادة لكننا سننتهي إلي جبل ضخم متزايد من المعلومات, وبدلا من ممارسة التفكير في مشكلة ما, أصبحنا نمارس جمع المعلومات بشأن هذه المشكلة, لكن الواقع أننا لسنا في حاجة الي معلومات بقدر ما نحن في حاجة الي التفكير الذي يعد احد السبل المشروعة للتأصيل والتأسيس المبني علي أسس وطيدة. في حقيقة الأمر, إن مشهد العالم الغربي المعاصر هو فعلا مشهد يثير الرثاء, فعندما يشهد العالم تفكك النظريات والاتجاهات الفكرية الكبري في المعرفة, ويعاني من غياب أنساق المعتقدات التي توجه الانسان في تفكيره وقيمه وسلوكياته وعلاقاته بالآخرين وتحت وطأة هذه الحياة التي تسيطر عليها وسائل التقنية يتأطر الإنسان داخل اطر هذه الحياة, ولايعرف الا من خلال هذا الاطار, فنجد الشخص يعرف بوصفه رئيسا او عضوا تابعا لهيئة كذا او شركة كذا, بل إنك عندما تتصل به هاتفيا في مقر الهيئة او الشركة يبادرك من علي الطرف الآخر بالقول هيئة كذا او شركة كذا. ففي اليابان مثلا وحتي في مصر في احدي المؤسسات, نجد ان الشخص يضع اسم الشركة في البداية, فيقول: انا من شركة كذا, هكذا حلت قيم الشركة ومعاييرها محل قيم الحياة المدنية ومعاييرها, ومن هنا يتحول الإنسان الي قطيع او علي الاقل ترس في آلة ومن ثم يصبح مجرد شيء. ان المشكلة هنا هي وجود حالة تناقض في البناء الفكري لما بعد الحداثة الغربية, وهو تناقض ثوري ومتطرف, بمعني انه يتحدي النظام القائم, الذي مازال في حاجة الي القيم الخالصة والأفراد ذوي الهوية المتماثلة, ولكنه محافظ ايضا في نفس الوقت. فمن الخصائص الملاحظة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة انها ليبرالية تؤيد الحرية, واستبدادية في نفس الوقت, تسير دون اهتمام بالقضايا الاخلاقية ومع هذا فهناك حنين وشوق للأخلاق, ومعرفة السبب في ذلك ليست صعبة, فمنطلق السوق الاستهلاكية هو منطق الملذات والتعدد, ومنطق الاشياء سريعة الزوال وعدم الاستمرارية, فهو عبارة عن شبكة هائلة من الرغبات التي بلا نقطة ارتكاز, يتحول أفراد المجتمع فيها الي مجرد آثار عابرة. وباختصار شديد ان منطق مابعد الحداثة قائم علي ماهو زائل ومنفصل وفوضوي, وكل ما سبق اعتبره مقدمات للوصول الي نتيجة أري انها ضرورية لإدراك حجم التأثير لهذه الفلسفة الغريبة بين اوساطنا الثقافية العربية والإسلامية. فالملاحظ بأسف شديد هو ان الطلائع الفكرية والثقافية المتمثلة في المبدعين من مختلف المجالات يتأثرون بآخر الصراعات الفكرية في الغرب وينقلونها لثقافتنا التي مازالت تحبو علي عتبات الحداثة, ذلك المشروع الذي لم يكتمل بعد. [email protected] المزيد من مقالات حازم محفوظ