تقام اليوم فعاليات تسليم جائزة ابن خلدون- سنجور للترجمة التي أصبحت تعدّ واحدة من أهمّ الجوائز الهادفة إلى مكافأة صانعي جسور التّواصل بين الشعوب العربية والشعوب الناطقة باللغة الفرنسية، وهي بلا شكّ مهمة شاقّة ولكنّها تستحق العناء لما لها من انعكاسات ايجابية على مستقبل هذا الكوكب المسكين. ففي حين يقدّر عدد الناطقين باللغة العربية بحوالي 422 مليون شخص حول العالم (وفق احصائيات عام 2015) فإن عدد الناطقين باللغة الفرنسية أو ما يعرف بالفرانكفونيين يقدّر بحوالي 274 مليونا بحسب إحصائيات المنظمة العالمية للفرانكفونية لعام 2014، وتم إدراج مصر في الفئة التي تحتوي على عدد يتراوح بين 500 ألف وخمسة ملايين شخص يتحدثون اللغة الفرنسية، في حين احتلت الجزائر والمغرب وتونس المراتب الأولى عربيا بأغلبية ساحقة. ورغم أن اللغة العربية أقدم تاريخيا من اللغة الفرنسية من حيث الظهور، فإنّ ما يحسب لهذه الأخيرة هو كونها (لغة ذكية) لم تركن إلى النسيان حتى أمام اجتياج اللغة الانجليزية في زمن العولمة، ولم تكتف ببقائها قطعة في متحف اللوفر بانتظار يد تنفض عنها غبار النسيان، بل تم استثمارها على مدار قرون وبطريقة أنيقة ومثالية، فضمنت سيطرتها بشكل شبه كلّي على مختلف مفاصل الآدب والنقد والفكر والترجمة حتى يومنا هذا، وتمّ انشاء هيئات ضخمة مهمتّها الحفاظ على الإرث اللغوي الفرنسي بمختلف توجهاته، مثل الأكاديمية الفرنسية التي أُسست عام 1635 والتي ما تزال تملك نفوذا كبيرا في أوروبا ، إضافة إلى المراكز الثقافية الفرنسية المنتشرة في كل مدن العالم ، دون أن ننسى المنظمة العالمية للفرانكفونية التي تقدم جائزة ابن خلدون- سنغور والتي تحاول بناء علاقات مشتركة بين البلدان الفرانكفونية والبلدان العربية. ولعل أول ما يمكن أن نتساءل عنه حين نتحدث عن هذه الجائزة هو اسمها، فإن كان الجميع يعرفون ابن خلدون على المستوى العربي، فإن قلّة من النّاس قد يعرفون سنجور، أو قد يعرفون أن سبب اقتران اسمه باسم العلامة ابن خلدون في هذه الجائزة ما هو إلاّ نوع من أنواع تكريس فكرة بناء الجسور بين حضارتين مختلفتين وضفتين لا يجمعهما سوى حبّ كل منهما للغتها والرغبة في إنشاء حوار حضاري إنسانيّ من خلال فعل حيويّ وخلاّق هو التّرجمة. فمن هو سنجور إذن؟ إنه الشاعر والكاتب السنغالي ليوبولد سيدار سنغور الذي ولد عام 1906، في مدينة جوال، والذي شغل منصب وزير في فرنسا قبل استقلال بلده عنها، وكان أول رجل من اصول افريقية ينضمّ إلى مجلس الاكاديمية الفرنسية، ولكنه أيضا كان أول رئيس للجمهورية السنغالية (1960-1980) ، وقد توفي عام 2001 تاركا خلفه مسيرة حافلة من العطاء الأدبي الذي جمع فيه بين عمقه الإنساني ونضاله السياسي، إذ ترك حولي 12 ديوان شعر، منها : "أناشيد الظلام" 1945 ، "الرحيل" 1964، "قرابين سوداء" 1948، كما كتب النشيد الوطني لبلاده والمعنون "الأسد الأحمر"، وقد تنازل عن منصبه ليخلفه الرئيس عبدو ضيوف، والذي اصبح حاليا السكرتير العام للمنظمة الفرانكفونية التي انشئت عام 1970، والقائم على تقديم جوائزها ومنها جائزة : ابن خلدون- سنجور ، وهي تتشارك فيها مع المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم (الألسكو)، وتم منحها لأول مرة عام 2008. غير أن سعيد الحظ آنذاك لم يكن شخصا واحدا، بل نالها مركز (سيركوس) أو ما يعرف بمركز البحث والتنسيق العلمي المغربي المتواجد في تطوان، وذلك بعد اشرافه على ترجمة كتاب " المنطق السياسي في الإسلام، بين الأمس واليوم" للباحث والمفكر المعروف محمد عابد الجابري (الصادر عن دار الاكتشاف – باريس 2007) وتمت الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية، وقد قام بها كلٌّ من بوسيف واستي وعبد الهادي دريسي ومحمد زكوري وقام بمراجعة أحمد محفوظ مدير مركز (سيركوس) ومؤسسة عام 2001م. في السنة الموالية، كانت الجائزة من نصيب الكاتب السوري حسن حمزة، عن ترجمته كتاب "حرب اللغات والسياسات اللسانية" للمؤلف جون كالفيه، والصادر عن دار هاشيت، أمّا عام 2010 فقد أخذها المغربي عبد السلام شدادي عن ترجمته لكتاب " السيرة الذاتية لابن خلدون" الصادر عن بيت الفنون والعلوم والآداب في المغرب، وهو استاذ وباحث من جامعة محمد الخامس بالرباط. عام 2011 ، تم منح الجائزة مناصفة بين التونسيين: الدكتور عبد القادر مهيري والدكتور حمادي صمّود اللذين ترجما (القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللغة) والصادر عن منشورات العتبة (لو سوي) عام 1995 ، أما عام 2012 فقد ابتعدت الجائزة عن العالم العربي وفاز بها الدكتور السنغالي رافان مبايي، وهو استاذ في جامعة الشيخ انتا ديوب في دكار، وذلك عن ترجمته من العربية الى الفرنسية لكتاب صوفي شهير هو (جواهر المعاني وبلوغ الأماني) في فيض سيدي ابي العباس التجاني للمؤلف علي حرازم ابن العربي برّادة. في عام 2013 ، نالها التونسي محمد حداد، أستاذ الآداب بجامعة السوربون وهو متخصص في الحضارات العربية والتاريخ الديني بعد أن ترجم (المصنف الوجيز في تاريخ الأديان) للمؤلف الفرنسي فريديريك لونوار.كما فازت بها العراقية الدكتورة هناء صبحي عام 2014 عن ترجمتها كتاب "الهوية البشرية: إنسانية البشرية" للكاتب ادغار مورين. وكانت عام 2015 من نصيب الكاتب مكرم عباس عن ترجمته كتاب الماوردي "تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك والسياسة الملك" ، ثمّ نالها الجزائري الدكتور ابراهيم صحراوي عن ترجمته كتاب "فلسفات عصرنا" عام 2016. أما اليوم فيتوّج بها الدكتور مصطفى حجازي عن ترجمته لكتاب الدكتور مصطفى صفوان "التحليل النفسي علما علاجا وقضية" من اللغة الفرنسية إلى العربية، وقد صدر الكتاب المترجم عن منشورات هيئة البحرين للثقافة والآثار العام الماضي، في حين يعد حجازي واحدًا من أبرز الأكاديميين اللبنانيين الذين كرسوا حياتهم في خدمة علم النفس وتوظيفه في دراسة القضايا التنموية والاجتماعية، ومن مؤلفاته : التخلف الاجتماعي : مدخل إلى دراسة سيكولوجية الإنسان المقهور (معهد الانماء العربي – 1981) ، حصار الثقافة (المركز الثقافي العربي 1998) ، الإنسان المهدور (المركز الثقافي العربي-2006) ، علم النفس والعولمة (المركز الثقافي العربي -2010) ، إطلاق طاقات الحياة (دار التنوير -2011) ، كما سيتم تكريم الدكتور أنور مغيث مدير المركز القومي للترجمة بالقاهرة عن مجمل مسيرته في هذا المجال وعن جهوده في مدّ جسور الثقافة من أجل الارتقاء بحوار الحضارات الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه، لتكون هذه الجائزة حقّا..جائزة لصانعي الجسور الفكرية!. لكنني لا بد أن اشير في الأخير لأمر لا يمكن تجاوزه، وهو كون لائحة قانون الجائزة تؤكد منحها بشكل عادل وبنظام (الدور) مرة للترجمة من العربية إلى الفرنسية والأخرى بالعكس، لكنها أصبحت مؤخرا تمنح مرتين لصالح اللغة الفرنسية مقابل مرة واحدة لصالح اللغة العربية لأسباب تبقى مجهولة!، تماما كما سيبقى مصير الترجمة في العالم العربي مجهولا في ظل ظواهر سلبية كثيرة تسيطر على المشهد وتعرقل تقدمه خاصة في مجال الأدب والشعر وما حل| بهما من كوارث طبيعية، ولكني أعرف أيضا – حتى لا أبدوا متشائمة جدا- أنه في مكان ما ...وبعيدا عن كل العتمات التي تحيط بنا، هناك شمس ستشرق بالتأكيد على الجسور وصنّاعها وعابريها. --- حنين عمر (كاتبة من الجزائر)