لست أبدًا من الصحفيين المحبين لمغامرة السفر إلى الأراضي المنكوبة أو مناطق الحرب والصراع المسلح؛ طمعًا في صورة أو تحقيق أو انفراد أو أي جائزة صحفية عالمية أو حتى للإحساس بمتعة وإثارة المخاطرة في حد ذاتها. لست من الذين يتحملون فكرة الدم وقذف الصواريخ وصوت الرصاص، والوجود أقرب ما يكون من رائحة الموت ومشاهد الحرق والخطف ورماد البيوت التي تهدمت فوق رأس من فيها! على العكس يمكن أن أصاب بفزع واكتئاب وعقدة نفسية؛ من مجرد مقابلة الأطفال المرضى والضحايا، وسماع حكايات النفوس الكسيرة المصابة بالفقدان من آثار الحرب والعذاب والقتل ( لقد كنت أحلم بكوابيس فظيعة في العراق؛ برغم أني زرتها بعد سنوات من سقوط بغداد والغزو الأمريكي)!! كيف إذن أذهب إلى ليبيا وقت الحرب؟ لقد كانت "داعش" خارجة لتوها من بني غازي، وتقبع على بعد 5 كيلو مترات من شاطئ البحر، والمكان الذي رتبوا لنا الإقامة فيه!! كانت الحرب لا تزال دائرة بين قوات حفتر و"داعش"؛ والعلاقات متوترة والانقسام شديد بين القوى السياسية في الداخل، والحدود مع مصر غير آمنة، ومحظور على المصريين المدنيين السفر إلى ليبيا لأي سبب!! في وعي المصريين كانت لا تزال تستقر واقعة (ذبح العمال) المصريين المسيحيين على يد "الدواعش" في ليبيا.. شكل العمالقة الملثمين بالسواد، المدججين بالسكاكين الحامية والخناجر والسيوف، ومشهد الدم المسال نهرًا بعد ذبح العمال؛ لم يفارق الذاكرة، وهو يختلط بماء البحر في ليبيا، ويلونه باللون الأحمر المرعب!! كل ذلك كان أمام عيني صوتًا وصورة و"بث حي".. (أنا في هذه الحالات جبانة جدًا) فكيف في هذا الوقت بالتحديد أذهب بإرادتي واختياري إلى ليبيا؟ إننى أسافر دائمًا مفعمة بالحماس وحب الحياة والرغبة في اكتشاف العالم والمتعة، لكنني ذهبت هذه المرة لا أطمع في شيء ولا أفكر في شيء.. بهدوء واستسلام كبير، ودون أي خوف قررت أن أسافر؛ حتى لو كانت رحلة إلى الموت.. لم أجد فارقًا كبيرًا.. لقد كنت وقتها ميتة بالفعل! حين وصلتني دعوة السفر - على غير انتظار - كنت أعاني محنة صحية شديدة ألزمتني الفراش، حتى كنت لا أستطيع حراكًا ولا أجد معي من يقدم لي كوب ماء أو طبقًا من الحساء أو الخضار. كنت مريضة جدًا ووحيدة وحزينة جدًا.. لقد اكتشفنا قبل أسابيع إصابة أمي بمرض خطير يهدد حياتها؛ ويتطلب ميزانية علاج ضخمة. وسافرت أمي مع أختي للعلاج؛ وانشغل معظم الأقارب والمعارف بمرض أمي وسفرها، بينما سقطت أنا مكاني دون إعلان ولا خبر. لم يعلم أحد بمرضي؛ ولا في محيط العائلة ولا في مكان العمل؛ لهذا وصلتني دعوة السفر إلى ليبيا، في مهرجان يجمع - على طائرة خاصة - عددًا من رموز الثقافة والصحافة والفن والسياسة ومكافحة الإرهاب. ( أصلا الطائرة نفسها يمكن أن تكون مستهدفة)! لكن ما علينا.. لم أفكر طويلًا.. لم أفكر أصلًا.. السفر سيكون سهلًا، ولن يكلفني شيئًا.. ستمر سيارة تنقلني من بيتي إلى المطار، ثم تنقلني الطائرة إلى ليبيا.. هكذا بكل بساطة؛ أسافر وأشارك في مهرجان الأهرام الثقافي. (خلاص..) لا مانع من المجازفة وعبور الحدود الغربية في اتجاه بني غازي؛ كي نوصل صوت مصر وقوتها الناعمة، إلى دولة الجوار الشقيقة؛ وبالتأكيد سأجد هناك أي إنسان شهم وابن حلال ينقذني ويقدم لي في دولة الجوار الشقيقة طبق الحساء الذي أحلم به منذ مرضت!! نعم.. أنا أعلم أنه أغرب سبب للسفر إلى بلد تدور فيه الحرب.. لكن سيناريو الحياة يحتمل كل ما تتوقعه وما لا تتوقعه... حتى من نفسك! وفعلا.. كل الذي لم أتوقعه حدث... ( نكمل باقي أحداث الرحلة في حلقة الأسبوع المقبل) [email protected]