أنا الآن جالس في الظلمة. نائم علي حجر قديم. لا أعرف كيف وصل هذا الحجر إلي هنا. كل ما يحيط بي من فوق ومن أسفل ومن كل الجهات رمال. رمال لا تنتهي. ربما مر أحد قبلي هنا وكان يحمل هذا الحجر ومن التعب أو العطش تركه ميراثا لي. الحجر ميراث المارين. كم أنا محظوظ لأني حصلت علي حجر. حجر يشبه ظهر حبيبتي، يشبه بطن حبيبتي. حجري علي شكل دائرة، أملس، ممتليء بالنتواءت، بالخدوش،مثلك حبيبتي. إذا قلت أنه أبيض سيتحول للأزرق وإذا قلت عنه أزرق سيتحول للتو إلي الرمادي المشوب ببياض. قلت أنه رمادي مشوب بالأبيض، ها هو ينقلب من جديد إلي الأبيض الخالص. الأنبياء لم يجدوا حجارة لراحتهم. تعبوا سنوات عدة بلا طائل. أنا حصلت علي الحجر بدون مقابل. أعرف هبوب العاصفة لأن الرمال تأتيني بسرعة، ساخنة أو باردة. يدخل الرمل فمي ويستقر بين أسناني الصدئة. يتراكم حول الفكين فيما يشبه القلاع أو الحصون. ابتلع الرمل ولا يبتلعني. كل ما أريده أن أري الألوان التي كنت أراها عندما كنت خارج هذه الظلمة. أحاول هنا تذكر رائحة القماش الملون. يدخل لون القماش مع لون الفاكهة مع ألوان أقلام الرصاص التي كانت ابنتي تلهو بها في غرفتها هناك. الآن تذكرت أن لي ابنة. لا أعرف كم عمرها الآن، ولكن علي أي حال، كبرت، ربما دخلت الجامعة، أو تعثرت، ربما أحبت، تزوجت، أنجبت، سافرت. علي أي حال هي في مكان ما. سمعت أصواتا خافتة لا أعرف مصدرها، فمنذ وصولي هنا وأنا لا أعرف الجهات إلا جهة الرمل. رمل الشمال بارد، أملس، رطب. رمل الجنوب حار، مغبر، لاذع. رمل الغرب ناعم وأكثر رقة. رمل الشرق جاف وغير مكتمل النضج. كانت الأصوات تقول أن الجنرال سوف يمر من هنا. كيف يمكن لجنرال أن يمر من هنا؟ ربما يأتي ليعلن الحرب علي الرمل. دائما الحروب ضد الرمل. ربما يطلق سراح المعتقلين. لا أعلم. ثمة أصوات ولكن أنا لا أثق في الصوت. كنت أفكر باللون. لو جاء الجنرال سوف أختبيء أكثر. سأدخل أكثر في الرمل. لقد كنت أفكر طول الوقت في مثل هذه اللحظة التي يعتبرها البعض تاريخية. الجنرال سوف يغزو العالم من هنا، من الرمال. لقد وجدت لنفسي طرقا سرية أذهب إليها عندما يهاجمني شيء ما. في الحقيقة لم أجدها بنفسي ولم أسعي إلي ذلك، لأني لم أفكر بأن هناك مكان أكثر سرية مما أنا فيه الآن، فالفضل في ذلك يرجع إلي النمل الذي يعيش معي. مملكة كاملة من النمل تعيش معي. حولي سراديب لا حصر لها. أنفاق كونية لا تنتهي إلي مكان ما. شبكة لا نهائية من الخطوط والتعثرات والنقاط. في أوقات كثيرة أسطو علي طعامها، وفي أوقات أخري تتغذي هي علي جلدي. بمرور الوقت صرت أنا حارس صوامع مخزونها الشتوي. لا أنكر عليكم بأنه في وقت الشتاء حين يستبد بي الجوع أدفن يدي في دغل من النمل والتهمه دفعة واحدة.كانت هي تقدم نفسها لي بطواعية وزهد بالغين. تبدو شديدة الايمان بقدرها. شديدة الإيمان بقدرتها علي أن تهبني اللحم. ثلاث زهرات نمت حول السرة. ثلاث زهرات صفراء، سريعا ما سقطت. لم تكن زهورا حقيقية كانت وحسب مسارات أرجل النمل.توهمتها زهورا. هل يمكن لأحد أن يمد يده ليصافحني؟ هل علي أن أمد يدي بدوري لكي أصافحه؟ كم مرة صافحت أناسا؟ ولا مرة. يدي في الرمل تجسني، لا تنقبض ولا تنبسط، فقط تنزلق من تجويف إلي تجويف. ترحل من عتمة إلي أخري. هل حقا يمر الجنرال من هنا؟ صرت أثق في الرمل. لا يمكن للجنرال أن يأتي دون التخلي عن بزته وعن كافة الأوسمة. لو حدث أي خطأ سيبتلعه الرمل. أنا هنا في مأمن، هكذا يخيل لي، ولكن من أين يجيء الألم؟ أنا أتألم. هل أتألم لأجل ماض الشبح أممن حاضره أم خوفا علي مستقبله؟ لا أعلم. ثمة شبح يجوب الرمال. اطمئنوا ليس هو شبح الشيوعية، ولا هاملت ولا غويا. هو شبح. جائع. مهدد. محبط. شبح وحيد. هل لو ماتت أمي سأصير شبحا كاملا؟ فأمي هي التي تمنحني وجودا مغايرا. كنت أعني بأنها تمنح الشبح وجودا حقيقيا. سنوات وأنا انتظر جنازة أمي. ليس كرها، ولكن رغبة في التحرر.الانعتاق. الانعتاق. الانعتاق. هي لم تكن ثقيلة علي يوما ما. أنا لم اعرف مشاعرها نحوي، فأمهاتنا لا يعبرن عن مشاعرهن بل يفعلن، وأنا أعمي لا أري. أريد أن أشم. أريد أن أسمع. ها قد رجعنا مرة أخري للصوت. لماذا ترتبط روحي بالصوت؟ هل الله لا زال يعبث معي؟ ألم تنته هذه اللعبة السخيفة؟ في كل مرة يهمس لي: تعال. تعال. اصعد سأريك ممالك العالم. عليك أن تختار بيني وبين العالم. العالم صورة. الله صوت. اخترت العالم، فلم يتركني، صار يتعقبني. متي يكف هذا الصوت؟ متي يتوقف هذا الطنين؟ كنت أريد أمي أن تعطني كفها لكي أشمه وهو ممتليء بالعجين أو وهي تبدل ملابسي. أعرف أن أمي وحيدة مثلي، ربما أكثر، ربما أقل. أنا هنا لست في حاجة إلي التوازن. لست في حاجة إلي طلب تحقق المعادلة الصعبة والهشة من الاعتدال. أنا هنا حار أو بارد. ملتهب أو خامل. لا يوجد في الرمل بين بين. لا يوجد وسط. الآن فرحتي هائلة لأن دودة سقطت في فمي فألتهمتها بتلذذ شديد.