تحول إلى "أسطورة" في عالم الجريمة، رغم قصر قامته ونحالة جسده، وأتاح له السلاح الأبيض ممارسة كل ما من شأنه مخالفة الأعراف والقوانين على طريقة "إبراهيم الأبيض". تبدأ حكاية توبة "عيد" قبل عامين، بعد استماعه في ميكروباص بالصدفة لأحد أشرطة الشيخ "الشعراوي" حيث قرر "المسجل خطر" -بدون مقدمات - الإقلاع عن تعاطي المخدرات والكف عن ترويجها في الأحياء الشعبية. الصدفة لا غيرها، جعلت، كلمات الشيخ تخترق قلب الشاب العشريني وهو في طريق لممارسة عمله المُحرم، وانخرط في نوبة من البكاء الهيستيري، مقررًا التوبة واللجوء إلى الله. يتذكر عيد هذا اليوم ويقول: "يمين بالله كنت نازل أسرق عادي وسمعت مولانا بيفسر القرآن بطريقة تشرح القلب، حسيت إن جسمي قشعر، وسهم نفد في صدري بيقولي توب بقي". "عيد حمامة" هو الاسم الحركي، الذي ارتبط بالفتى التائب الذي لم يكن قد تجاوز عقده الثاني بخمس سنوات على الأكثر، حيث عرف بسرقته لعشش الحمام التي تقع في نطاق الحي، إلى جانب أنشطته الإجرامية المختلفة التي لم يخجل من الكشف عنها. "شقق سرقت، مواتير مياه خلعت، بطاريات عربيات، محافظ وشنط، تليفونات، غسيل، كافة شيء كنت بسرقه ومفيش واحد في المنطقة لا مؤاخذة كان يقدر يعترض"- حسب روايته ولقاءنا الذي جمعنا به صدفة بحي الهجانة- مدينة نصر، أثناء قيامنا باستطلاع رأي حول فكرة إعادة تأهيل الخطيب وتجديد الخطاب الديني. يدين الشاب بالفضل للعقلاء من الجيران ممن نصحوه بالتوجه للمسجد والاستماع لخطب المشايخ، ثم يظهر شيئًا من الغضب على ملامحه ليقول بكثير من التناقض: "الله يسامحهم ويسامحني أنا عملت اللي عليا". "أقنعني الجيران ودخلت المسجد، صحيح كنت بدخل مسطول بس حاولت"- تابع الشاب حكايته- مؤكدًا أنه عبر موروثات تملكت من عقله رأى أن الالتزام لابد وأن يبدأ بإطلاق اللحية مع منع الاستحمام والظهور بمظهر الدرويش وهو ما ذكره حين أقسم: "والله حرمت الميه والصابون على جتتي"!. يضيف"حمامة" الذي لم يكمل تعليمه: "حاولت أبطل شرب وفشلت، دخلت الجامع مسطول"، ولم أتوقف عن مخدر الترامادول، لكن جيرانه كانوا يصرون على اقتياده للمسجد لتثبيت توبته. حضور محدود يقل تدريجيًا مع كل جمعة في زاوية الحي الذي يتردد عليه "عيد"، واصفًا الخطيب بأنه "ببغاء" يكرر كلمات بعينها على مسامع جلوس يتأففون مللًا من خطب مكررة طوال العام وينامون لحين انتهائها، ما جعله يتنقل بين مساجد الحي الأخرى علّه يجد ما شعر به للوهلة الأولى من حديث الشيخ متولي الشعراوي دون جدوي. يتدخل في الحديث أبو إسلام (41 عامًا) صديق عيد الذي كان يرافقه، حينما استوقفناه، وقرر أن يشترك في الحوار وأن يدلي بدلوه شريطة عدم التقاط أي صور لهما. لم يبخل الصديق في سرد التفاصيل التي دفعت "حمامة" لترك المسجد بلا عودة فيقول: في كل مرة كنا نحاول إقناعه كذبًا بأن هناك خطبة للشعرواي، وفي إحدى المرات ونحن جلوس نستمع لنفس حديث الإمام في خطبة الجمعة، تفاجأ عيد بنوم أحد المصلين على كتفه الأيمن. لم يتمالك المسجل الخطر ضبط اتزانه عندما وجد النوم يسيطر على المصلين بسبب رتابة الخطبة لذا انتفض قائمًا وسارع بفتح "المطواة" على خطيب المسجد مطالبًا إياه بالمغادرة بعد أن وبخه: "الناس نامت، وأنا بقالي 3 شهور صابر عليك"، حسب رواية صديق عيد. "تجديد الخطاب الديني قضية حياة أو موت" جملة الرئيس السيسي الشهيرة التي رددها مرارًا وتكرارًا لإنقاذ "عيد" وملايين الشباب أمثاله، من براثن العنف والمخدرات والضياع لكنها لم تجد صداها حتى الآن. "أهل مكة ليسوا أدرى بشعابها" جملة أخرى لخصها واقع 4 سنوات مضت على فكرة تجديد الخطاب الديني، شهدت صراعات وخلافات بين الأزهر، الذي بادر بعقد مؤتمرات تحمل عناوين مختلفة لتوصيات متكررة، وبين قرارات الأوقاف في 2013، بمنع إقامة صلاة الجمعة بالزوايا الأقل من 80 مترًا، تبعه قرار منع غير الأزهريين من اعتلاء المنابر، ثم قرار بتوحيد الخطبة، واستبعاد نحو 12 ألف إمام وخطيب. دعاة برامج التوك شو "الكاجوال"- كما يلقبهم البعض، متهمون إما بالتسييس والمداهنة، وإما التطرف والمغالاة والثرثرة بقضايا مهلهلة قتلت بحثًا– حسب رأي مهندس شريف هيكل، مالك معرض سيارات بالحي العاشر. "للأسف انفصل الخطيب عن قضايا الشارع الحقيقية، واتجه للكلام في السياسة فانصرف الشباب عن الدعوة ومن ثم بدأت أعداد الضحايا تتزايد بتزايد العنف والنتيجة.. تنعي مصر جندها في كل يوم"- وفقًا لما قاله الدكتور محمد زكريا، مدرب تنمية بشرية، ل"بوابة الأهرام"، الذي شدد على تدريب الدعاة وإعادة النظر في رواتبهم بما يمكنهم من أداء رسالتهم. علم الاجتماع السياسي، كان له رأي آخر، عبرت عنه الدكتورة هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع السياسي، حيث أوضحت أن لفظة "الخطاب الديني" مطاطة وأنها نتاج ثقافي وموروثات، وأن الأزمة الحقيقية في فقدان الثقافة التي كانت تستوعب كافة الأديان والرؤى. وتضيف هدى زكريا ل"بوابة الأهرام" أنه "إذا كنا قد تفرقنا دينيًا فعلينا أن نخلق خطابًا جديدًا متجددًا نزداد به ثراءً ويجمع تشرذمنا، ولتكن البداية من التعليم، مشددةً :" نريد حوارًا حرًا بعقل منفتح يعالج قضايا المجتمع الجوهرية، وما تخيله البعض أنه من المسلمات للقضاء على العنف. الأديب يوسف القعيد، يشير إلى أن توالي الأعمال الإرهابية، استهداف الأقباط، وتطرف بعض طلاب الأزهر- نتائج تؤكد فشل فكرة التجديد لأنها لم تقم بالأساس على تغيير المنهجية الفكرية وأن ما يحدث مجرد "ترقيع للخطاب الديني". مشروع قانون "مكافحة الكراهية والعنف"، الذي تقدمت به المشيخة للبرلمان، كمحاولة للتجديد وصفه دكتور عمر حمروش، أمين سر لجنة الشئون الدينية بالبرلمان، ب"المتوازن" وأنه ضرورة ملحة لكن البعض يراه مقيًدا للحريات. كما يؤكد "حمروش" أن الحديث عن تجديد الخطاب الديني مازال" كلام في كلام"، معللًا بأن المؤسسات الدينية تعمل في جزر منعزلة دون رؤية عملية مشتركة قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. ويعلق الدكتور خالد حبيب، (مصمم برنامج إعداد القادة)، بأن بطء خطوات تجديد الخطاب الديني لم تعد تتناسب مع ثورة الإنترنت والهواتف الذكية التي تستدعي دعاة من كافة دول العالم بمجرد الدخول على"اليوتيوب" وتحقيق مشاهدات مليونية، لشيوخ متطرفين فكريًا. لا يعترف الخطباء القدامي بمصطلح التجديد، بينما يُشكك المجددون في الثوابت، وتبدو الفتاوى بلا ضابط أو رابط على شاشات الفضائيات، حتى وإن كانت مقترنة بالشارات السوداء التي لم تعد تفارق الفضائيات حدادًا على أرواح الشهداء. لم يجد عيد، ذو السجل الإجرامي القديم من يُكمل له طريق التوبة الذي وجد نفسه فيه مصادفة بسبب مقطع صوتي للشعراوي، فانصرف عن المسجد غير مكترثٍ بالتوبة أو الإقلاع عن المخدرات، بعد أن أقنعه المصلون بالخروج وإخفاء "المطواة" وهم في نوبة من الضحك الهيستيري بينما يعبر هو غضبه من الخطيب الذي تسبب في نوم المصلين قائلًا: "عليا الطلاق ما داخل تاني، ربك رب قلوب".