كان اليهود قبائل ضعيفة فقيرة بلا أصول حضارية، تعيش وسط شعوب قوية زاهية الحضارة كالمصريين والفينيقيين. فأشعرهم هذا بالضعف والضآلة، وبأنه يمكن القضاء عليهم في أية لحظة. ولم يكونوا على استعداد للوقوف وجهًا لوجه أمام الآخرين فاختاروا الانسحاب والانزواء حتى لا يشعر الآخرون بوجودهم فيقضوا عليهم. وكان هذا بداية ما يسمى ب"الجيتو اليهودي"، لقد عزلوا أنفسهم في مناطق جغرافية محددة في المجتمعات التي عاشوا فيها، كما عزلوا أنفسهم في مهن محددة بحيث لا يستطيع المجتمع الاستغناء عنهم، وبالتالي لا يفكر في القضاء عليهم. وتركت لهم مجتمعات كثيرة مهنًا معينة يأنف أصحاب المجتمع من ممارستها كالربا والبغاء وجمع الضرائب. هذا الجيتو الذي بدأ نفسيًّا؛ كانت له آثار نفسية أيضًا. فقد تأصلت سمة السلبية في اليهود، ثم تحورت لتصبح نوعًا من التآمرية أو تحقيق الأهداف بطرق ملتوية دون مواجهة قد يكون ثمنها غاليًا. وحتى لا نستطرد في هذه النقطة أقول: إنه لم يكن عبثًا اختيار الأديب المصري محمد جبريل اسم "حارة اليهود" لمجموعته القصصية الجديدة. فهذا الاسم ليس فقط عنوانًا لإحدى قصص المجموعة، وليس فقط دليلاً إشاريًّا إلى مكان كان ولا يزال بصور مختلفة موجودًا في معظم المجتمعات العربية، ولكن أيضًا لأن هذا الاسم ودلالاته المتعددة هو الرابط الأساسي بين كل قصص المجموعة. صدرت مجموعة "حارة اليهود" في سبتمبر 1999م عن مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهي الكتاب رقم (32) في سلسلة إبداعات المؤلف التي شملت القصة والرواية والنقد الأدبي (حصل على جائزة الدولة التشجيعية في هذا المجال بكتابه "مصر في قصص كتابها المعاصرين" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1973م). تضم مجموعة حارة اليهود (12) قصة قصيرة نشر معظمها في صحف ومجلات مصرية وعربية، ويدل تاريخ نشر بعضها إلى أن قصص المجموعة كتبت خلال فترة زمنية لا تقل عن ربع قرن، ولهذا دلالته؛ لأن الفكرة الرئيسية الرابطة لقصص المجموعة تلح إلحاحًا كبيرًا على المؤلف ليس في هذه المجموعة فقط ولكن في أكثر من عمل روائي وقصصي له. فكل قصص المجموعة - باستثناء قصة واحدة - يتخذ أبطالها موقفًا سلبيًّا أو ضعيفًا أو غير سليم في مواجهة أمر ما. وتنتهي بهم المسألة إلى الخضوع التام الذي يصل إلى درجة المهانة. أما المفارقة فهى أن القصة الوحيدة في المجموعة التي تتناول فعلاً إيجابيًّا هي قصة "حارة اليهود". ولا أجد هذا عجيبًا، فإذا كانت الدلالة السلبية لحارة اليهود هي التي تحكم قصص المجموعة، فإن الوجه المقابل يجب أن يكون داخل حارة اليهود نفسها، هنا لا بد أن تكون المواجهة التي تقضي على تلك الدلالة السلبية. تبدأ المجموعة بقصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي"، حيث نرى سمانة آتية من الغرب، يعجبها حي الأنفوشي بالإسكندرية. فتجلب كل شعبها ليستوطن الحي. ويرحب الناس بذلك. ثم يكتشفون مع مر الوقت أن السِّمَّان امتلك كل الحي. ولم تعد للناس خصوصية. ولم يعودوا قادرين على ممارسة حياتهم بحرية. يمكن أن تكون السمانة هي الغرب الاستعماري. أو إسرائيل المحتلة. أو الدول البوليسية والمخابراتية التي تقضي على ذاتية شعوبها. أو تكون للسمانة دلالات أخرى - والقصة تتحملها كلها! وفي قصة "الطوفان" يفاجئنا كائن غريب ضخم لا يؤثر فيه شيء. ولا يستطيع الناس زحزحته من المكان الذي اختاره لنفسه. فيكفوا عن مواجهته. ويتأقلموا معه حتى يصبح وجوده من الثوابت المقررة في حياتهم. عندئذ ينتفض ويغرقهم جميعًا. إنه الفساد في أبشع صور وجوده وتأصله. وأبشع صور السلبية في التعامل معه وتقبله. الفساد ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى الدول وما يسمى بالقرية الكونية! وفي "المستحيل" يهرب بطل القصة من "صوت" يطارده. صوت لا يعرف ماهيته. لكنه يرعبه ويدمر حياته. وتصور قصة "هل" الأفكار الدائرة في "ذهن ميت" يحاول البعض سرقة كفنه، ويتمنى هو أن يستطيع القيام بأي حركة ترعبهم ليهربوا ويظل هو "مستورًا"! أما "حكايات وهوامش من حياة المبتلى" فهي قصة الحلم بالذهاب إلى الحج. وعدم تحقق الحلم؛ لأن "الأشرار" يقطعون الطريق ولا أحد يستطيع مواجهتهم وإيقافهم عن شرورهم. ويمرض بطل القصة لعدم تحقق حلمه. وتدور زوجته في البلاد باحثة عن حلٍّ أو دواء للداء. وتنتهي القصة ولم يُشْفَ المريض. وما زالت الزوجة في البلاد تدور. أما التردد فهو النغمة المسيطرة على جو قصة "حكاية فات أوان روايتها". فالطائر الأسطوري يضع بيضته الضخمة في الحديقة. ويتردد أصحاب الحديقة ويختلفون في أسلوب التعامل مع البيضة. ويعود الطائر. وتفقس البيضة. وتنتهي سطور القصة المكتوبة على الورق. وما زال أصحاب الحديقة – في الواقع - في ترددهم واختلافهم. وقد امتلك الطائر وأفراخه الحديقة. وتُلَخِّص قصة "نبوءة عرَّاف مجنون" حكاية نصف قرن عربي أضاع فيه الساسة كل شيء. وباعوا كل شيء. وتحطمت فيه الشعوب دون بارقة أمل في صحوة حقيقية ما دامت نفس الأوضاع مستمرة. و"أحمس يلقي السلاح" ويتعاون مع الأعداء. فيموت في نفس اللحظة التي يقرر فيها أن يتعاون معهم. إنه الموت المعنوي للخونة. والإدانة الصارخة التي يَدْمغ بها الكاتب من طُبِع على بصيرتهم فطبعوا مع العدو. "فلما صحونا" وجدنا كل شيء أصبح ملكًا للرجل الغريب حتى نحن وأحلامنا. لقد آواه أبطال القصة في بيتهم لمدة ليلة. لكنه لم يبرح البيت بعدها. ولم يستطيعوا طرده. ليس فقط لأنه قوي. لكن لأن كلاًّ منهم خائف جبان متردد لا يفكر إلا في نفسه. ولا يعنيه ما يحدث لأخيه. فملك حياتهم رغم أنه واحد وهم سبعة. وفي قصة "العَوْدة" تطارد "اللغة الغريبة" بطل القصة. يهرب منها ومن غربته. ويعود إلى بلده. فيجد أن نفس اللغة تطارده. وهو لا يفهم. ولا يعرف كيف يتصرف - وفي القصة إشارات إلى اللغة العبرية وإلى القهر والفساد.ي آخر قصص المجموعة "تكوينات رمادية" التي تدور أحداثها في الأربعينيات يشعر البطل بأن اليهود الذين يعمل لديهم يطاردونه لأنه قرر الاستقالة. ويريدون موته حتى لا يُفْشي أسرار أعمالهم. فيهرب مرعوبًا. ويحبس نفسه في حجرته. ثم يقتله الهروب والرعب. كل قصص المجموعة كما ترى تعزف لحنًا واحدًا. وتعبر عن موقف محدد. ولكنها – وبحرفية بارعة - تعطي إمكانيات متعددة لقراءات متعددة. وإن كنت أعتقد أن القراءات المختلفة لن تصل إلى حد التنافر؛ لأن الخيط الرابط – أو الروح السارية - بين قصص المجموعة من الوضوح بحيث لا يمكن تجاهلها. فها نحن نرى قصص المجموعة تمتلئ بالغرب الغازي بسلاحه وثقافته. وباليهود. والفساد المستشري. والسلبية والتردد والاختلاف.. فما الحل؟ هذا ما تطرحه قصة "حارة اليهود". لا حل إلا الاتفاق والاتحاد والثقة بالنفس ثم المواجهة. ف"جعلص" بطل القصة تاجر ذهب يتآمر عليه اليهود ويفلسونه. ثم يتعرضون لابنه بالضرب. فيجمع أبناء بلدته. ويغلقون مداخل حارة اليهود. ثم يؤدبون الحارة كلها –وأظن أن هذه إشارة إلى حرب أكتوبر 1973م، رغم أن أحداث القصة تدور في عشرينيات القرن العشرين. لكن المؤلف لا يبدو متفائلاً تمامًا. فمساحة التمزق والتشتت أكبر مما نعتقد. والمصاب أفدح مما نظن. اتسع الخرق على الراقع. وحتى "الراقع" لم يعد موجودًا - فلنطلب من الله اللطف.