د. مجدي العفيفي بينما كنت أصنف أوراق أنيس منصور، التي تحوي مذكراته وذكرياته؛ لأصدرها في كتابي "آخر 200 يوم مع أنيس منصور"، توقفت مليًا أمام رسالة خطية بعثها له شيخنا توفيق الحكيم بتاريخ 18 يناير 1984. وحكاية هذه الرسالة أن أنيس منصور كتب مقالًا في مجلة أكتوبر أيام كان رئيس تحريرها، تحت عنوان "توفيق الحكيم ينظر وراءه راضيًا.. وأمامه يائسًا" فأرسل الحكيم إليه هذه الرسالة، وقد مزج فيها الذاتي بالموضوعي، والخاص بالعام، الأمر الذي منح المعنى عمرًا أطول، وجعله نصًا مفتوحًا، وكأنه يشَّرح الواقع الآن، بما كان يمتلكه من حدس "زرقاء اليمامة" المعروفة في الأدبيات التاريخية، شأنه شأن المفكرين العظام في العالم. وهذا نص الرسالة والتعليق لكم: "عزيزي أنيس منصور.. مقالك نموذج يجب أن يوضع تحت أعين من يمارسون النقد، والنقد أحيانًا أصعب من التأليف. لأن التأليف يعتمد في الأغلب على ذات المؤلف وشخصيته ومواهبه. أما النقد فهو ذاتي وموضوعي، والموضوعية فيه أن الناقد الحق لا ينظر إلى المؤلف نفسه فقط، بل هو يحيط بالعالم الثقافي كله الذي يعيش فيه. ويجب أن يكون في رأسه وذاكرته نوع من الأرشيف يحوي الملف الكامل لأعمال المؤلف الذي يتناوله وعصره. وكذلك ملفات الآخرين الذين يعيشون وينتجون معه في نفس المحيط الزمني لبلده والبلاد الأخرى. هذا الجانب الأهم وهو التكوين الثقافي والفكري المتين. ولقد كان لك أيها العزيز أنيس منصور هذا التكوين ببدايتك بالفلسفة دراسة وتدريسًا. ومن هنا كان تعلقك بالعقاد. وإن كان العقاد قد غلب التفكير عنده على الأسلوب. أما أنت فقد امتزت بالأسلوب الرشيق. ولأعد إلى مقالك الذي وصفتني فيه بجملة واحدة هي العنوان "توفيق الحكيم ينظر وراءه راضيًا وأمامه يائسًا"، وهذا صدق وحق استطاعت نظرتك الثاقبة أن تكشفه في الحال. وربما استطعت أنا أيضًا في جملة أن أوضح السبب وهو: كانت البطولة عندنا في الماضي هي بطولة القلم أما بطولاتنا اليوم فهي بطولة القدم، وكانت الكرة في الماضي هي الأفكار، أما اليوم وغدا فهي في الأجوال. وأكرر لك الشكر والتهنئة بالجائزة العالمية التي تستحقها عن جدارة. توفيق الحكيم 18 يناير 1984". ولأن الشيء بالشيء يذكر، أتذكر في هذا السياق جملة مكثفة جدًا تفيض ألما وتشف حسرة، بل يمكن تفكيكها إلى عشرات المقالات، تلكم الجملة قالها لي الحكيم في واحد من حواراتي معه ب"الأخبار" عام 1980 "من يهز وسطه ينل أضعاف من يهز عقله". نعم .. في زمن عمالقة الإبداع الثقافي الذين شكلوا الوجدان المصري في المائة عام الأخيرة، كانت العلاقات بينهم حميمة وراقية، وحين كان الواحد منهم إذا تحدث حمل حديثه قيمة مضافة، والرسالة التي بعثها توفيق الحكيم إلى أنيس منصور تؤكد ذلك، بما تحمله من فكرة ساخرة ومريرة، والمفارقة أنها لا تزال حية ومضيئة. جلسات جمعت بين الحكيم وأنيس منصور وإحسان عبد القدوس ولدي من عشرات الرسائل الخطية لثلة من المبدعين الكبار التي تمتلئ بذواتهم وذوات الآخرين معًا، ما يؤكد ذلك وأكثر من ذلك .وفي مذكراته الصحفية "في بلاط صاحبة الجلالة" صفحات وأوواق خاصة وصور من الصندوق الأسود، ومن بين هذه الأوراق حكايات نادرة ومشاهد ساخرة جرت بين توفيق الحكيم وأنيس منصور. بالمصادفة رأى أنيس منصور توفيق الحكيم خارجًا من مكتبة النهضة، ومشى وراءه يريد أن يعبر الشارع، نظر يمينًا وشمالًا، وجري بسرعة، مع أنه لا خوف، فالشارع خالٍ تمامًا، فاليوم يوم السبت بعد الظهر، ومشى توفيق الحكيم يتخبط في الناس، ولا يتوقف عند المحلات، ولا يلتفت إلى الناس، ولا أحد التفت إليه، ومشى وراءه وعند وزارة الأوقاف توقف، فهنا يعمل نجيب محفوظ، هذه فرصة ليرى أنيس منصور الاثنين معًا. ولكن الحكيم توقف واعترض رجلًا يبيع المشمش، واستوقفه واقترب منه قال له توفيق الحكيم: -المشمش بكام النهاردة؟ فقال البائع: - ما يغلاش عليك يا سعادة البيه وتفضل وشوف.. اكسر ودوق.. توفيق الحكيم: يعني بكام النهاردة؟. البائع: بخمسة قروش.. توفيق الحكيم: بخمسة؟ مش غالي شوية. المشمش صغير.. ده معناه إنه وقع من الشجر على الأرض وأنت رحت جمعته.. ما لحقش يكبر على الشجر يعني مش ممكن يكون بأربعة. لازم خمسة؟ البائع: بلاش يا سعادة البيه. أول استفتاح النهاردة. نهارك أبيض. توفيق الحكيم: خلاص أخده باربعة. بدل الكيلو اتنين.. إيه رأيك؟ البائع: والله أنا خسران في البيعة دي. علشان أستفتح خلاص زي ما أمرت بتسعة عشان خاطرك. توفيق الحكيم: تسعة آخر كلام.. زي بعضه هات اتنين. وأنت معاك ميزان. البائع: طبعًا يا سعادة البيه. استدار توفيق الحكيم وأخرج علبة النظارة وكان يضع فيها الفلوس، وبعد دقيقة أعطاه التسعة قروش. فقال له أنيس: أنا أشيل عنك المشمش يا أستاذ. قال الحكيم: ليه أنت تعرفني؟ فأجاب: أيوه يا أستاذ. قال: كده؟ طيب شيل المشمش. يقول أنيس منصور: واضح إن توفيق الحكيم خشي أن آخذ المشمش وأهرب ويريدني ألا أبعد عن عينيه. فقلت: يا أستاذ، هات العصا أحملها عنك هي والمشمش.. ده شرف يا أستاذ. توفيق الحكيم: كده.. ده كويس قوي. وأمسكت العصا والمشمش وأمسك توفيق الحكيم ذراعي، إنه يخشي أن أهرب بالمشمش والتفت ناحيتي وقال لي: وأنت بتشتغل إيه؟ قلت: طالب. الحكيم وأنيس منصور حين كان أنيس يعمل محررًا في جريدة "الأهرام" سنة 1950 حدثت هذه الواقعة إذ جاء توفيق الحكيم وقد دعاه كامل الشناوي إلي مكتبه وقال له: إن الأستاذ محمد التابعي قد أرسل له عشاءً فاخرًا من دمياط.. حمامًا محشوًّا.. كمية كبيرة، وجاء الحكيم لهذا السبب والآن أراه أوضح، إنه يتهته في الكلام ويقول كامل الشناوي إن أمير الشعراء شوقي كان كذلك والشاعر إبراهيم ناجي يثأثئ؛ ولذلك لم يسمعه أحد وهو يقرأ شعره، وإنما كان يقرؤه الشاعر حافظ إبراهيم والشاعر كامل الشناوي. وكان الحكيم لا يتكلم كثيرًا، وإنما له تعليقات مضحكة وهو نحيف قصير نحيف جدًّا، وإذا جلس فإنه يسند رأسه على عصاه. وقدمني له فضحك الحكيم وقال: أنا أعرفه.. ولنا مع بعض حكاية. وتشجعت وحكيت وكانت نكتة الجلسة والسهرة. وأضاف كامل الشناوي من عنده أن توفيق الحكيم أخرج الساعة من جيبه فوجدها من نوع رديء فما كان من الحكيم إلا أن طلب من أنيس أن يحمل عنه الجاكتة، أن يساهم بأي شيء، والحكيم معه الساعة والجاكتة ولم يعد يتعلق بذراعه. وراح يمشي وراءه أو أمامه لا يهم. وتوقف الحكيم في الطريق، كامل الشناوي هو الذي يقول وسأله الحكيم: وأنت معاك فلوس أد إيه؟ طبعًا أكتر من خمسة قروش.. طيب إذا قلت لك إني مش عاوز المشمش فكم تدفع؟! قلت: خمسة قروش. قال: طيب يبقى أنا استفدت إيه؟. قلت: خلاص يا أستاذ أشتري منك المشمش بعشرة قروش.. ووافق الحكيم وأعطاه المشمش وعاد إلى البيت سعيدًا، لأنه قد كسب قرشًا! كان توفيق الحكيم الأمين العام للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وكانوا يسمونه ساخرين "المجلس الأعلى لرعاع الفنون والآداب"، وكان مكتب أنيس في الطابق الأرضي أول باب على يدك اليمنى، وتوفيق الحكيم يجلس وراء المكتب، فإذا ذهبت للسلام عليه يقول لك: روح اشرب القهوة عند يوسف السباعي فوق أنا معنديش قهوة هنا، وعرفنا عنه ذلك. ونداعبه كثيرًا لأنه رجل بخيل جدًّا، طه حسين قال لي: إنه ليس بخيلًا، لكن يحب أن يقال عنه وأن يضحك الناس ويهرب، توفيق الحكيم الحقيقة أنه فقير وليس بخيلًا. وجدته جالسًا في حديقة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب فقال لي: روح اشرب قهوة عند يوسف السباعي. قلت: شربت يا أستاذ. قال: كويس تعال نناقش القضية دي.. القضية إن شجرة من حديقة الجيران قد مدت أحد فروعها إلى داخل حديقة المجلس، والفرع مثقل بثمار المانجو، فهل لو أخذنا هذه المانجو التي جاءت إلينا هل يعتبر ذلك سرقة؟ السرقة أن تقفز على السور وتقطف المانجو هذه سرقة، لكن إذا جاءت المانجو إليك وأنت في الحديقة هي التي جاءت هل جمع هذه الثمار يعتبر سرقة؟ إيه رأيك؟ حكيت ليوسف السباعي هذه الحكاية فضحك وقال: الحكاية دي لها أصل في الأسبوع الماضي، فوجئ توفيق الحكيم وهو جالس بظهور جحش صغير فراح يصيح وينادي أمسكوه، وأمسكوه وأوقفوا الجحش أمام توفيق الحكيم الذي أعجب به جدًّا. وظل توفيق الحكيم يتأمل الجحش وطلب أن يربطوه في أية شجرة وربطوه ومضت ساعة وساعتان ولم يأتِ صاحب الجحش، وتساءل توفيق الحكيم: لو أن يوسف السباعي أخذ الجحش وتركه هنا في المجلس هل تعتبر سرقة؟ وإذا لم يظهر للجحش صاحب فماذا أفعل؟ إن الجحش مثل ثمار المانجو التي دخلت إلينا وأزهرت وأثمرت.. هل هذه سرقة؟ نسأل رجال القانون لأنني لم أنم الليلة الماضية بسبب هذه القضية.. وإنت إيه رأيك؟! سألني: عربيتك فيها بنزين؟ قلت: أيوه ليه يا أستاذ؟ قال: أصل أنا عاوز أروح إمبابة.. نتفرج معًا. قلت: على إيه يا أستاذ؟ قال: بيقولوا إن فيها أحسن حمير في البلد.. إيه رأيك تيجي معايا؟ قلت: تحت أمرك يا أستاذ.. وكان توفيق الحكيم مستغرقًا في التفكير ولا يتكلم واقتربنا من إمبابة وسألني: إن كان البنزين في السيارة يكفي؟ وقلت له: إنها مسافة قصيرة ونحن الآن على مدى دقائق من سوق الحمير وضحك الحكيم. وقال: دي تبقى مصيبة لو أمسكونا لأن فينا شبهًا للحمير.. ها ها ها. وكاد الحكيم يقفز من السيارة عندما رأى الحمير. ونزل وتفرج تفحص وأعجبه جحشا صغيرا وقف مفتونًا به، وراح يدور حوله ويضع يده على رأسه وعلى ظهره وقال: أشتريه بكام؟ فقال البائع: ببلاش يا سعادة البيه. قال الحكيم: والبلاش عندك تساوي كام؟ قال البائع: كلك نظر يا سعادة البيه.. الحكيم: كام يعني؟ قال الرجل: عشرون جنيهًا.. صرخ الحكيم: بالسرعة دي ارتفع سعر الحمير.. سعر الجحش الصغير.. الأسبوع الماضي كان عشرة والأسبوع ده عشرين. قال الرجل: خمسة عشر جنيهًا والله تكسب يا أستاذ. وأشار لي توفيق الحكيم أن أدفع ودفعت.. ولم نفكر كيف يخرج الجحش وإلى أين؟ فاقترح البائع أن يربط الجحش في السيارة ونذهب به إلى المجلس الأعلى. وربطنا الجحش في السيارة وكان لا بد أن نمشي ببطء، وكان ذلك يعطل المرور، ثم إن الناس راحوا يتفرجون علينا، منظر غريب سيارة تجر جحشًا وليس الجحش هو الذي يجر السيارة. ودخلنا حديقة المجلس وربطناه في إحدى الأشجار، وجلس توفيق الحكيم بعيدًا عن الجحش وراح يتساءل: من الذي يطعم الجحش. هل يستطيع المجلس أن ينفق عليه؟ تحت بند إيه؟ هل معقول أن يدخل في ميزانية الثقافة والفنون إطعام جحش؟ لا يمكن لا المجلس ولا أنا. أنت صاحب الجحش فكر معايا من الذي سينفق على طعام الجحش؟ يوسف السباعي الأمين العام للمجلس، قال يوسف السباعي: إن تكاليف أكل وشرب الجحش ورعايته على حساب توفيق الحكيم! فانتفض الحكيم واقفًا: أبدًا.. أنا مش صاحب الجحش! رحم الله أستاذنا توفيق الحكيم لقد مات من الحسرة، قرأ أن أحد لاعبي كرة القدم وهو دون العشرين قد دفعوا له ثلاثة ملايين جنيه، وعلى الفور أمسك توفيق الحكيم قلمًا وورقًا وراح يحسبها. "وخرج من عمليات الحساب هذه بأن جميع الأدباء من آدم حتى توفيق الحكيم لم يكسبوا ثلاثة ملايين جنيه. عاشوا بعقولهم وماتوا بها. ثم جاء من بعدهم واحد يعيش بجزمته فأعطوه ثلاثة ملايين، وهو ما لم يحصل عليه جميع الأدباء في كل العصور، فهناك أدباء ماتوا من الجوع وماتوا من البرد. وتعبوا وتعذبوا وأحرقوا كتبهم في الشرق وفي الغرب". وكان توفيق الحكيم يطلب إليَّ إذا أرسلت له مكافأة عن مقالاته ألا أبعث له بشيك، ولا أبعث له بأوراق مالية من فئة المائة والخمسين والعشرين والعشرة والخمسة إنه يريدها من فئة الجنيه ليشعر بها وقد ملأت يديه.. وأمتعت عينيه! رحم الله توفيق الحكيم فقد أذهله أن يكسب (عيل) بجزمته ثلاثة ملايين، ولم يعش ليرى (عيلًا) آخر يشترونه بما يعادل خمسين مليون جنيه مصري فهذا أكبر من احتمال توفيق الحكيم والعقاد وطه حسين وشوقي وكل الأدباء والشعراء على طول الزمان. إحدى رسائل الحكيم لأنيس منصور