كأن كل شيء كان معدًا سلفًا بعلم الطرفين .. الهجوم على السفارة البريطانية في طهران .. والرد البريطاني عليه. يقول دومنيك تشيلكوت السفير البريطاني، المسحوب من طهران، إنه وموظفيه في السفارة كانوا جاهزين لمثل الاعتداء الذين تعرضوا له. فعندما وصل السفير إلى العاصمة الإيرانية في شهر أكتوبر الماضي، استقبل بزجاجة مولوتوف ألقيت من فوق سور السفارة المحصن، حينها أدرك تشيلكوت أن أيامه في دولة الفرس، التي تضع بلاده ضمن قائمة الشياطين الكبار إلى جانب الولاياتالمتحدة وإسرائيل، ستكون صعبة، وقد كانت كذلك، حتى انتهت إلى سحبه ومعاونيه من طهران. تصدير الأزمة لماذا حدث كل هذا؟ ولماذا بريطانيا من بين دول أوروبا الضاغطة لوقف البرنامج النووي الإيراني؟ حسب رؤية لندن، فإن بريطانيا تدفع ثمن صراع سياسي محتدم في إيران. وقبل أن يسحب تشيلكوت من طهران، لخص في تقاريره ما يحدث في إيران على النحو التالي: صراع على السلطة وكسب الشارع وتصدير الأزمة الناجمة عن عزلة إيران الدولية إلى الخارج. ويضاف إلى ذلك ممارسات فساد يبحث مرتكبوها عن وسيلة لصرف الانتباه الشعبي عنها. ووراء التصعيد الأخير تقف شخصيتان بارزتان هما لى لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الإسلامي( البرلمان) . والدكتور علاء الدين بروجردي، رئيس لجنة الامن والشئون الخارجية في المجلس. الأول يشعر بأن علاقاته وصلاته في الغرب خذله بوضع اسمه ضمن قائمة المعاقبين. والثاني متهم في قضية اختلاس كبرى. اتفق الاثنان لاستصدار قرار من البرلمان بتخفيض العلاقات الدبلوماسية الإيرانية مع بريطانيا. أما لماذا بريطانيا بالذات، فلأنها تجاوزت، من وجهة النظر البريطانية، حدود العقوبات الأوروبية وحتى الأمريكية. فوزارة الخزانة البريطانية قطعت كل العلاقات مع المؤسسات المالية الإيرانية ومنها البنك المركزي الإيراني. تغيير ملحوظ واعتبرت الوزارة إنه بعد تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير (الذي يثير شكوكا في أن إيران تمارس أنشطة نووية عسكرية سرية)، لا بد من وقف الأنشطة المالية الإيرانية مع الخارج خوفا من أن يكون أحد اهدافها تمويل البرنامج النووي العسكري الإيراني المزعوم، ومن ثم فهذا يشكل" تهديدا كبيرا للمصالح القومية البريطانية". وبناء عليه، فإن الحكومة البريطانية لجأت، للمرة الأولى لمحاولة عزل القطاع المصرفي الإيراني كله عن العالم مستخدمة الصلاحيات التي يمنحها لها قانون مكافحة الإرهاب الصادر عام 2008. فأي معاملة مالية مع إيران تبلغ قيمتها 40 ألف يورو فقط يجب أن تحصل على مواقفة وزارة المالية المسبقة. أما أي معاملة تتراوح قيمتها بين 10 آلاف و40 ألف يورو، يجب أن تخطر بها الوزارة. وفضلا عن ذلك، فإن إحدى نتائج ذهاب بريطانيا لأبعد مما ذهبت إليه بقية دول الاتحاد الأوروبي في عقاب إيران هى وصول الأموال الإيرانية المجمدة في المؤسسات البريطانية إلى أكثر من 2.5 مليار دولار. هذا الموقف يعبر عن تغير ملحوظ في سياسة بريطانيا تجاه إيران. فطوال سنوات حكم العمال بين عام 1997 و2010 لم تتحدث لندن لغة إسرائيل المصرة على استخدام القوة العسكرية ضد إيران " قبل فوات أوان منعها من تصنيع اسلحة نووية". وكانت اللغة البريطانية تبدو معتدلة في التعامل مع الملف النووي الإيراني. ومنذ جاءت الحكومة الائتلافية بقيادة حزب المحافظين اليميني المعروف بتأييده القوي لإسرائيل، كثر كلام ديفيد كامرون عن استخدام كل الوسائل بما فيها القوة العسكرية في التعامل مع إيران. من المنقذ؟ كل هذا أتاح، حسب التفسير البريطاني لما حدث مع إيران، أرضية ساعدت التيار المتشدد في إيران على استهداف بريطانيا. أما فيما يتعلق بتنفيذ مخطط الاستهداف، فإن الرؤية البريطانية تستحضر قاسم سليماني، قائد فيلق القدس . وأحد الأدلة البريطانية على ذلك هو صورسليماني التي رفعها الشبان الذين هاجموا مبني السفارة ومجمع سكن العاملين بها. من الذي أنقذ، إذن، الدبلوماسيين البريطانيين من الموت أو الاحتجاز؟ إنهم، حسب الرؤية البريطانية، أنصار الرئيس محمود أحمدي نجاد، الساعي وفق نفس الرؤية إلى التهدئة في الوقت الراهن مع الغرب. فلولا تحرك بعض قادة الشرطة الموالين للرئيس في اللحظات الأخيرة، لذهب مهاجمو السفارة لأبعد من السلب والنهب وسرقة أجهزة الكمبيوتر والاتصالات واحتجاز الدبلوماسيين والعاملين لبضع ساعات. ولعل الخوف من تجاوز الأزمة هذا الحد هو ما دفع رئيس الوزراء البريطاني لدعوة مجلس الطوارئ الوطني لاجتماع عاجل لبحث سيناريوهات التعامل مع إيران في حالة التصعيد . واقتصر الرد على طرد الدبلوماسيين الإيرانيين من لندن. الربيع الفارسي غير أن الأبواب لم توصد تماما وراء الدبلوماسيين البريطانيين المسحوبين من طهران أو الدبلوماسيين الإيرانيين المطرودين من لندن، فالقنوات لا تزال مفتوحة، فرغم سحب وطرد الدبلوماسيين، فإن العلاقات الدبلوماسية لم تقطع. ولا تزال بريطانيا تراهن على أن الازمة الدبلوماسية الحالية قد تعزز اتجاه التغيير في إيران، وأن يعاود "الربيع الفارسي" الذي بدأ بعد أزمة انتخابات الرئاسة الإيرانية عام 2009 نشاطه، متأثرا بالربيع العربي الذي يطيح بأنظمة الحكم في الشرق الأوسط. وهناك من البريطانيين من يرى، ان العقوبات الاقتصادية والمالية سوف تزيد الوضع الداخلي صعوبة وتنشط الاحتجاجات الشعبية من جديد. أحد أسس الرهان البريطاني هو ما حدث داخل جلسة التصويت في البرلمان الإيراني على قرار تخفيض العلاقات مع بريطانيا. فمن بين إجمالي عدد النواب البالغ 290 عضوا، لم يحضر الجلسة سوى 196نائبًا، رفض منهم 4 القرار وامتنع 11 نائبا، وهذا يعني أن 109 نواب لم يوافقوا على القرار. ويضاف إلى ذلك أن هناك نصا، مسكوتا عنه، في القرار يقول إنه يمكن إلغاؤه لو غيرت بريطانيا طريقتها العدائية في التعامل مع إيران.