انشغلت مساجد الأوقاف في قرى قنا قبيل عيد الفطر بالتحذير من زيارة في زيارة الجبانات في أول أيام العيد، واسترسل الأئمة في شرعية العظة وقراءة القرآن على الأموات دون فعل الطقوس التي يفعلها أهل الصعيد مثل البكاء وتقديم الأطعمة على القبور "الرحمة"، أو غلق المنازل بعد المجيء من زيارات القبور للإعلان عن الحداد. لكن يبدو أن مناشدات الأئمة لن تجد صدى لدى أبناء قنا، فالأمهات اللاتي يوصين أبناءهن بالذهاب إلى القبور يملكن سلطة أعلى، وحين يرحلن عن الدنيا لا يملك الابن غير الانصياع لأرواحهن فيذهب إليهن عند القبور متذكرا صمودهن وحفاظهن على قبور أزواجهن تماما كالحفاظ على عرضهم وشرفهم وميراثهم الدنيوي. الباحث والشاعر أشرف البولاقي أعد دراسة تفرغ من وزارة الثقافة المصرية عن عالم الجنازات والبكائيات في الصعيد وجذورها فى الحضارة المصرية القديمة حيث تمثل عالم الجنازة خصوصية من أهم خصوصياته الثقافية خاصة في طقوس استقبال المعزين ونهاية بطقوسها الكثيرة والمعقدة في الصعيد . قال الباحث في دراسته إن عالم البكائيات يمتد في جذور إلى الحضارة المصرية القديمة ورغم محاربة الديانتين ( المسيحية والإسلامية ) له إلا أنه إلى الآن موجود وبقوة خاصة أن مصائب الصعيد من الموت في الحوادث وما يمثله ذلك من فجيعة تدفع الروح إلى الانفجار واستحضار روحها النقية أي ثقافتها فرق الباحث في دراسته عن البكائيات بين العديد وبين الرثاء العربي فهو يقول إن ثمة نوعا آخر من البكائيات لا يرتبط بمناسبة الوفاة ، ولا يدور في إطارها، لكنه ينفجر كلما خلت المرأة إلى نفسها ، أو أثناء دوران الرحى ، ويسمونه (ندب الرحى) وهو لا يختلف كثيراً عن البكائيات العادية المعروفة أضاف الباحث أن ملمح الصرخات) أقدم تاريخياً من الملمح الآخر الأسلوبي الشعري، حيث يمكن أن نعتبره الإعلان الرسمي عن الوفاة رغبة من المُعلِن لذلك يكون طقس الجنازة في الصعيد له الكثيرين من الوافدين ثم يقول الباحث إن "العدّيد" ( البكائيات ) في مجتمعنا المصري مرتبط بالمرأة دون الرجل ، ولا نكاد نعرف بكائية أو عدّودة واحدة نُسبت إلى الرجل ، وربما كان استئثار المرأة بالأداء طبيعياً للغاية ؛ لما جُبِلَت عليه من رقة الشعور ، ورهافة الإحساس ، فضلاً عما يمثله الرجل في المجتمع الذكورى عامة من قوة وصلابة وجَلَد ، لا يتفق مع النواح أو البكاء المستمر المتواصل ويؤدَّى طقس " العدّيد " في الغالب جماعياً ، أو تقوده امرأة قد تكون مستأجرةً ، أو من أهل الميت ، أو جارة أو قريبة له. يصف البولاقي عالم المعدِّدات ( الندَّابات ) حيث يلجأن إلى تعذيب أنفسهن بدنياً بالضرب على الوجه أو الخدين بأيديهن ، أو الضرب على رؤوسهن ، ويغالى بعضهن في ذلك بضرب رؤوسهن في الحوائط أو الجدران ، وإلى الآن نرى في بعض قرى مصر من يُهِلْنَ التراب على رؤوسهن وثيابهن . يؤكد البولاقي في دراسته أن العدّودة فن نسائي أبدعته المرأة الشعبية ، وجودته وحافظت على أدائه واستمراره، ووجدت فيه عزاءها وخلاصها في التعبير عن جرحها ومصابها ، الذي هو أدمى من جرح الرجل ومصابه. يضيف الباحث بتأكد أن مصر هي التي أبدعت فن البكائيات ، وانتشر عن طريقها إلى أنحاء مختلفة من العالم ، وقت أن كانت هي صاحبة الإمبراطورية الأولى في العالم : " وذلك لأن المصريين أول شعب في التاريخ يتوقف باهتمام شديد أمام ظاهرة الموت لشدة إحساسهم بالحياة ، لقد فجعهم الموت منذ وقت مبكر ففكروا في قهره بشتى الوسائل ، واعتبروا أنه ليس نهاية للحياة ، بل هو البداية الحقيقية للحياة الخالدة ".