تتوالى حاليا حملات محمودة لإصلاح الشأن فيما يتصل بالمال العام، ويعلن بين حين وآخر اكتشاف وقائع للرشوة أو تبديد المال، وعلى الرغم من الارتياح للكشف عن هذه الجرائم، فإن حالة من القلق تسود للخشية من أن يكون الفساد قد طال معظم نواحى الحياة، تعقبها حالة من الغضب إذا ما أسفرت التحقيقات عن براءة من وجهت إليهم التهم، بينما الحقيقة تكون فى أن بعض ما ظهر على السطح من تهم جاء نتيجة التسرع فى الاتهام أو تطبيق قواعد وإجراءات جامدة حاول متهم أو آخر تخطيها للحفاظ على الصالح العام وليس لإضاعة المال. وعندما بالغ مسئول رفيع المستوى فى طرح تصوره لحجم الفساد وجرت مؤاخذته، استاء البعض ولم يفهم أن هذه المبالغات تضر أكثر مما تنفع، لأنها خلقت مناخا يسود بين كبار المسئولين لتلافى اتخاذ أى قرار فيه إحقاق الحق والحفاظ على المصلحة العامة على حساب قيود الروتين والتعليمات الجامدة التى قد تفوتها بعض الحالات. وفى هذا الشأن مرت بى أو بغيرى -كموظفين عموميين- حالات اتخذت فيها أنا أو غيرى قرارات قد لا تتفق مع النظم واللوائح والتعليمات، لكنها حافظت على الصالح والمال العام، فى حين لو طبقت اللوائح لأهدرنا الكثير من المصالح ومن المال، ومن قبيل ذلك: فى الحالة الأولى: كلفت بإدارة مشروع (مصرى/أجنبى) اتخذنا له مقرا جديدا لزم تأثيثه عن طريق مناقصة كانت إجراءاتها تستغرق 6 أشهر، وأثناء الأشهر الستة استأجرنا أثاثا وفقا للتعليمات، وعندما حل أجل المناقصة ورد إلينا عرضان فقط بينما يجب -وفقا لشروط المناقصة- أن تكون هناك 3 عروض، وكان علينا إجراء المناقصة مرة أخرى وضياع 6 أشهر جديدة، وتبين لنا أن إيجار الأثاث يتجاوز 30 ألف جنيه فى الأشهر الستة، بينما وجدنا كل ما نحتاجه فى أكبر محلات الأثاث بتكلفة 28 ألف جنيه فقط، أى أقل من الإيجار فى 6 أشهر، وكان من حقنا الشراء بالأمر المباشر فى حدود 5 آلاف يورو أى 40 ألف جنيه (وقتها)، فقررنا الشراء فورا ووفرنا 6 أشهر و30 ألف جنيه إيجار، لكن القواعد كانت ترى أننا تخلينا على المناقصة ورفضت الإدارات المالية الأجنبية اعتماد الشراء، لولا شجاعة الوزير المختص الذى اعتمد قرارنا وأمر بتدبير تمويل الشراء بوسائل أخرى. فى حالة ثانية: جاءنا مفتشو شركة الغاز فى دولة أوروبية عملت بها وأفادوا بأن الغاز يتسرب داخل المبنى ويهدد بمخاطر كبيرة، وأوصوا بقطع الغاز فورا عن المبنى، وكانت السفارة تستخدم الغاز لفرن المطبخ فقط، فقطعنا الغاز على الفور، واشترينا فرنا يعمل بالكهرباء، بينما التعليمات تمنع شراء تجهيزات (جديدة) للسفارات، واعتبر مراجعونا أننا صرفنا المال العام دون مسوغ، ولم يراع أيهم أن السفارة كلها كانت معرضة للانفجار أو الحريق على الأقل. فى حالة ثالثة: استدعانى رئيس دولة، كنت ممثلا غير مقيم فيها، لمقابلته فى بلدته، وكان الوصول يتطلب السفر إما لمدة 12 ساعة بالسيارة، على أن تكون ذات دفع رباعى، لأن الطريق غير معبد ولا يسمح بسير السيارات العادية، والطريقة الثانية كانت استئجار طائرة خاصة تتكلف 12 ألف دولار، بينما تقضى التعليمات بعدم استئجار سيارات للسفر، ومع ذلك استأجرنا سيارة بالمخالفة للوائح لأنها كانت تكلف 1200 دولار مقابل 12 ألف دولار للطائرة، وفعلا حملتنا الشئون المالية 1200 دولار لأن صرفها يخالف التعليمات التى تسمح بصرف 12 ألف دولار للطائرة، لكن الوزارة حسمت الأمر وأقرت الصرف ولكن لم توجه لنا الشكر. وأثيرت مؤخرا قضية تتعلق بتأجير مساحات تمتلكها الدولة للغير، والهبوط بالإيجار عن المعتاد، ووجهة النظر هنا أننا لسنا دائما بصدد بيع بضاعة يمكن تخزينها حتى يحصل ثمنها، لكننا كمن يدير قاعة مسرح إذا بدأ العرض وهناك كراسى شاغرة فهى خسارة، أو كمن يدير شركة طيران إذا طارت الطائرة بمقاعد شاغرة فهى خسارة مؤكدة، ولهذا فمن سياسة شركات الطيران أن تخفض سعر المقاعد للمسافر فى آخر لحظة وتكسب هذا المسافر رغم أنه دفع أقل من جاره فى الطائرة، وفى حالات تأجير مساحات فى المعارض فإن نوعية العارض يجب أن تعطيه تسهيلات مقابل حسن تمثيل واجهة مصر فى الخارج والداخل، وقد قبلت أجهزة المحاسبة فى حالات كثيرة بهذا المنطق، وأمكن تحقيق أرباح أكبر فى النهاية، والمطلوب ليس مخالفة القواعد وإنما السماح بقدر من المرونة ومنح صانع القرار الثقة ليأخذ القرار الأكثر ملاءمة الذى يؤدى لدرء الخسارة وتحصيل المكاسب. وعندما كنا بصدد شراء سيارة لإحدى سفاراتنا واجهتنا التعليمات التى كانت تقضى بشراء سيارة للسفارة لا تزيد على مقاس 200 وأبلغتنا الشركة المنتجة بأن مقاس 200 غير متوفر وسيظهر مرة أخرى بعد 3 أشهر بسعر أعلى، بل أعلى من مقاس 230 المتوفر بالفعل، وعندما خالفنا التعليمات حصلنا على سيارة أكبر بسعر أقل يوفر 3 أشهر فى التوريد وسعر أرخص من المتوقع، لكن تظل تهمة تبديد المال العام قائمة. ومثال صارخ صادفنا فى شأن تبديد المال العام عندما كنا بصدد اعتماد مشروع للتعاون كان البنك المركزى الأوروبى طرفا فيه، ولأن هذا البنك هو الوحيد الذى يدير مجموعة منطقة اليورو فقد كلفناه بالمهمة بالأمر المباشر، لكن جهات محاسبية أثارت التساؤل عن سبب عدم إجراء مناقصة لتوريد الخدمة بين البنك المركزى الأوربى (ونفسه) وبالطبع كنا أمام احتمال لوم بسبب مخالفة قواعد ولوائح المناقصات. أفضل ما سمعته عن إدارة المال العام من السفير القدير جمال منصور رحمه الله الذى قال لى مرة: أنت تدير المال العام إدارة المرء لماله الخاص، وفى هذا علمنى أبي، رحمة الله عليه، قاعدة فى شأن إدارة المال العام وهي: من خدم الأحرار لا يسأل عن الأسعار، فإما أن تثق أو لا تثق . تلك هى المعضلة، وإذا كانت العدالة عمياء لا تفرق بين الناس، فعلى الذين يطبقون العدالة أن تكون لديهم بصيرة وبصر.