تمثل قضية التضخم وانفلات الاسعار تحدياً متواصلاً للغالبية العظمى من الشعب المصرى ونحو خمس حكومات تعاقبت على تسلم السلطة منذ ثورة 25 يناير وحتى الان ذلك لان التضخم صاحبه العديد من الظواهر الاقتصادية السلبية خصوصاً فى ظل ثلاث حكومات من بين هذه الحكومات الخمس وهى حكومات عصام شرف وهشام قنديل وحازم الببلاوى. وتمثلت هذه الظواهرفى حالة من الركود للنشاط الاقتصادى العام مما اسفر عن حالة من حالات «الركود التضخمي» وهو أسوأ انواع الركود وكذلك ظاهرة اضطراب سوق صرف النقد الاجنبى مما ترتب عليه - تقريباً- ثلاث عمليات لخفض قيمة الجنيه فى مواجهة العملات الاجنبية - خصوصاً الدولار واليورو- الامر الذى ترتب عليه تعميق حدة التضخم والشعور المتزايد بالغلاء وجنون الاسعار. وعلى الرغم من جهود بذلت فى عهد حكومتى كمال الجنزورى وابراهيم محلب للتخفيف من حدة هذه الظاهرة وهى جهود ايجابية تمثلت فى عهد الجنزورى فى اجراءات حازمة لضبط الانفاق العام وفى عهد محلب فى اجراءات داعمة للعملية الانتاجية مستفيدة من قدر كبير من الاستقرار السياسى والامنى تم انجازه بعد ثورة 30 يونيو ومستفيدة كذلك من تدفق حجم كبير من المساعدات العربية - المالية والعينية - لمصر تجاوزت العشرين مليار دولار الا ان جميع هذه الجهود لم تنجح حتى الان فى كبح جماح موجة تضخمية كاسحة تجتاح الاسواق مدفوعة بقرارات رفع اسعار مشتقات الوقود مطلع يوليو الماضي. وحسب ارقام الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء فقد قفز معدل التضخم الاساسى من 9.7 ٪ يناير 2011 الى 11.7 ٪ يناير 2014 هذا المعدل ذاته كان قد بلغ اوج ذروته فى يونيو 2011 ليبلغ 19.4 ٪ والى 17.3 ٪ يونيو 2012 مدفوعاً بانفلات امنى فى ذلك الوقت اثر على حركة الانتاج وانسياب حركة السلع بين الاسواق وغيرها. واذا اخذنا مؤشرا آخر وهو الرقم القياسى لاسعار المستهلكين فقد قفز خلال الفترة ذاتها من 11 ٪ الى 12.2 ٪ وكان الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء قد قام باستحداث سلسلة جديدة للارقام القياسية لاسعار المستهلكين بدءا من شهر اغسطس 2009 وذلك باستخدام شهر يناير 2010 كشهر اساس للسلسلة الجديدة بالاضافة الى استخدام اوزان جديدة للمجموعات السلعية الرئيسية اعتمدت على بحوث الدخل والانفاق التى اجرتها جهات حكومية عدة . كما قام البنك المركزى - ايضا - باصدار مؤشر التضخم الاساسى وهو مشتق من الرقم القياسى لاسعار المستهلكين مستبعداً منه بعض السلع التى تتحدد اسعارها إداريا - وتمثل نحو 18.7 ٪ من السلة السلعية للمستهلكين- بالاضافة الى السلع التى تتأثر بصدمات مؤقتة من جانب العرض مثل الخضراوات والفاكهة وهذه تمثل نحو 6.9 ٪ من السلة السعلية للمستهلكين . * رقابة هشة ودولار منفلت وعلى الرغم من ان السبب الرئيسى لظاهرة التضخم - من الناحية النظرية على الاقل - يكمن فى تراجع الانتاج وزيادة الطلب وكذلك الى تنامى العجز فى الموازنة العامة الذى يجعل هناك كمية كبيرة من النقود تطارد كمية محدودة من السلع فى الاسواق الا ان التضخم فى السوق المصرية يأتى ايضا كنتيجة لعدد من العوامل الخارجية التى تعزز من جموحه وتجعل جهود السيطرة عليه غير مجدية فى المدى القصير. فى مقدمة هذه الاسباب الرقابة الهشة - التى تصل الى حد الغياب فى بعض القطاعات - على الاسواق وحالة العشوائية المسيطرة على التسعير حيث يمكن القول انه لا يوجد تقريباً اى اسس يمكن احتساب اسعار السلع بناء عليها الامر الذى ادى الى توحش النمط الاحتكارى المهيمن على حلقات التوزيع والتحكم فى حركة السلع من المنتج الى المستهلك النهائى مروراً بعدد كبير من الحلقات الوسيطة التى تضيف كل منها هوامش ارباح غير مبررة الامر الذى يترتب عليه ارتفاع الاسعار فى مدى زمنى قصير بالاضافة الى وجود فوراق سعرية كبيرة لنفس السلعة من مكان لاخر داخل نطاق الجمهورية. من الاسباب ايضاً عملية التعويم المدارة التى تمت للجنيه فى السنوات التالية لثورة 25 يناير حيث اسفرت هذه العمليات عن فقدان الجنيه لثلث قيمته تقريباً حيث كان سعر صرف الجنيه امام الدولار نحو 585 قرشاً عند اندلاع ثورة 25 يناير قفز بعدها الى مستويات قياسية قاربت السبعة جنيهات - فى السوق الموازية - خلال الشهور التى اعقبت الثورة مباشرة لينتهى العام الاول والسعر عند 615 قرشاً اى فى مطلع يناير 2012 . وفى نهاية العام ذاته وفى ظل عهد حكومة الاخوان جرت العملية الاكثر ايلاماً فى 25 ديسمبر 2012 التى تم خلالها اطلاق آلية FAX ACTION من جانب البنك المركزى وهى آلية المزادات الدولارية التى تسمح للمركزى ببيع الدولار للبنوك التجارية فى مزادات مغلقة الامر الذى ترتب عليه ارتفاع سعر الدولار ليلامس الجنيهات السبعة فى السوق الرسمية ثم يتراوح السعر بعد ذلك بين 700 و715 قرشاً وهو السعر الذى يبلغه حالياً بينما يتجاوز السعر فى السوق الموازية 567 قرشاً . هذا الارتفاع الكبير لعملة الاستيراد الرئيسية - يبلغ اجمالى وارداتنا من الخارج اكثر من 60 مليار دولار سنوياً - ترتب عليه بطبيعة الحال ارتفاع كبير فى اسعار جميع السلع المستوردة وكذلك فى ارتفاع تكلفة مدخلات الانتاج وزاد من حدة المشكلة فى الشهور الاخيرة قرارات يوليو الماضى بالرفع الجزئى لدعم الوقود ومن ثم ارتفعت تكلفة نقل البضائع وكذلك تكلفة العديد من انتاج السلع لاسيما فى السلع الخاصة بقطاع الانشاءات مثل الاسمنت والحديد والسيراميك والبويات وكذلك الاسمدة مما اثر على تكلفة الانتاج الزراعى - ارتفع طن السماد من 1500 الى 2000 جنيه بنسبة 25 ٪ خلال شهرين فقط - الامر الذى اشاع مخاوف بين المواطنين من قدوم موجة جديدة من ارتفاع الاسعار لاسيما ان القطاع العقارى بات مؤشراً للاسعار فى مصر بصفة عامة. اما السبب الثالث الذى لعب دوراً مهماً فى تزايد شعور الناس بالغلاء فهو تلك السياسة النقدية التى اتبعها البنك المركزى على مدار العامين الماضيين وهى سياسة اتسمت بالاضطراب الشديد وعدم وضوح الرؤية الحاكمة لمواجهة التضخم عبر ادوات السياسة النقدية. وعلى سبيل المثال حاول البنك المركزى من خلال آلية أسعار الفائدة تثبيت مؤشر التضخم الى حد ما الا ان الانفاق الحكومى الهائل فى مشروعات البنية الاساسية ادى الى ضخ وتوافر كمية كبيرة من السيولة والنقد المتداول خارج شرايين الجهاز المصرفى مما قلل من الاثر الايجابى لهذه الآلية. وكان البنك المركزى قد استخدم مؤشر أسعار الفائدة فى أكثر من مرة للتعامل مع ملف التضخم ووفقا لأرقام النشرة الاحصائية للبنك المركزى (العدد 012) فقد تدرج سعر الايداع (لمدة ليلة واحدة) من 52.8 ٪ فى يونيو 1102 الى 52.9 ٪ فى يونيو 2102 ثم حدثت قفزة أخرى ليبلغ 57.9 ٪ فى يوليو 3102 قبل أن يتراجع الى 52.8 ٪ فى يونيو 4102 ومع صدور قرارات رفع الدعم فى يوليو الماضى بدأ سعر الايداع فى التحرك الى مستوى 52.9 ٪ فى يوليو 4102 وثبت عند ذلك المستوى حتى سبتمبر الماضي. فى السياق ذاته تحرك سعر الاقراض من مستوى 57.9 ٪ فى يونيو 1102 الى 52.01 فى يونيو 2102 ثم 57.01 فى يونيو 3102 لينخفض بعد ذلك الى 52.9 ثم يعاود الارتفاع الى 52.01 فى يوليو 4102 . فى السياق ذاته يأتى الارتفاع الاخير لمؤشر اسعار الايداع والاقراض لدى البنك المركزى منذ يوم 42 يوليو 4102 وحتى الآن فى اطار توقعات باستمرار ارتفاع معدل التضخم خلال العام المالى الجارى 4102 - 5102 . كما سار مؤشر اسعار صرف العملات الاجنبية « فى السوق الرسمية حسب بيانات نشرة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية يناير 4102» حيث سجل سعر الدولار 456 قرشا فى يناير 3102 ثم ارتفع الى 886 قرشا فى ديسمبر 3102 ثم 496 قرشا فى يناير 4102 ثم قفز الى 417 قرشا فى منتصف مايو الماضى. اما اليورو فقد سجل 078 قرشا فى يناير 3102 ثم ارتفع الى 349 قرشا فى ديسمبر 3102 ثم 449 قرشا فى يناير 4102 ثم قفز الى 579 قرشا فى منتصف مايو الماضى. الخلاصة ان هناك حالة متنامية من التضخم فى الاسواق وهناك شعور متزايد بحدة الازمة لدى المواطنين وهناك جهود غير كافية حتى الان فى مواجهة هذه الموجة التضخمية الامر الذى يستلزم اللجوء الى سياسات اكثر فاعلية وتنسيق افضل بين صانعى السياسة المالية - وهى الحكومة وتحديداً وزارة المالية - وصانعى السياسة النقدية وهو البنك المركزى حتى لا يفسد طرف جهود الطرف الاخر.