المتصفح لمسيرة الاستثمار الأجنبى المباشر منذ أربعة عقود ، كان يعتبره جزءا من مشاكل التنمية فى العالم النامى ، تحول اليوم إلى جزء من الحل لمشاكل النمو الاقتصادى والتنمية. ولقد أفاض بعض الاقتصاديين فى فضائل التدفق الحر لرأس المال عبر الحدود الوطنية، والمكاسب التى يحققها الاستثمار الأجنبى المباشر للدول المضيفة يمكن أن تأخذ أشكالا عديدة أخرى : يتيح الاستثمار الأجنبى المباشر نقل التكنولوجيا - وبخاصة فى شكل تنويعات جديدة من مدخلات رأس المال - التى لا يمكن أن تتحقق من خلال الاستثمارات المالية أو المتاجرة فى السلع والخدمات . كذلك يمكن للاستثمار الأجنبى المباشر أن يحفز المنافسة فى السوق المحلية لمستلزمات الإنتاج .وعادة ما يحصل مستقبلو الاستثمار الأجنبى المباشر على تدريب للموظفين على تشغيل مشروعات الأعمال الجديدة، مما يسهم فى تنمية رأس المال البشرى فى الدول المضيفة.وتسهم الأرباح التى يحققها الاستثمار الأجنبى المباشر فى إيرادات ضرائب الشركات فى البلد المضيف . ولكن الأزمة المالية جعلت الأوقات الطيبة تقترب من نهايتها. فثمة خطر حقيقى بدأ يظهر فى أعقاب الأزمة الأخيرة يكمن فى احتمالات تراجع هذا النشاط، الأمر الذى سوف يؤدى إلى ارتداد عملية التحرير تلك نحو الاتجاه المضاد ، وأن هذا الارتداد ليس بفعل بصيرة الدول النامية بل بفعل الدول المتقدمة نفسها . وباسم «الوطنية الاقتصادية» والأمن واعتبارات أخرى باتت مقاومة الاندماجات والحيازات العابرة للحدود تتخذ أشكالا أكثر تنظيما فى عدد متزايد من الدول. وتسعى الحكومات إلى تطبيق القواعد التنظيمية القائمة حاليا، ولكن على نحو أكثر صرامة، فيما يتصل بالتدقيق فى عمليات حيازة الشركات الأجنبية للأصول الوطنية. وهذا الانزعاج المتنامى فيما يتصل بالاستثمار الأجنبى المباشر جعل كثير من الدول تأخذ تدابير أكثر تجاه، حيث نجد فى حالة المشاريع الضخمة أن بعض الدول المضيفة تثير العديد من التساؤلات بشأن العقود التى تحدد علاقتها بالشركات الدولية الكبرى، كما تحرص الحكومات على مراجعة مثل هذه العقود لأنها تعتقد (سواء عن حق أو خطأ) أنها لم تحصل على صفقة عادلة. ولقد تغيرت فى الماضى أساليب التناول المختلفة للمسائل المتصلة بالاستثمار الأجنبى المباشر، ومن الممكن أن تتغير من جديد فى المستقبل، وذلك تبعا لنظرة الحكومات إلى كيفية إيجاد التوازن بين التكاليف والفوائد. ولا يشتمل هذا التوازن على العوامل الاقتصادية فحسب، بل هناك أيضا اعتبارات أخرى مثل الأمن ورغبة كل دولة فى التحكم فى تنميتها الاقتصادية ، الأمر الذى سيؤدى لا محالة إلى النزوع إلى الحماية. ولكن سيكون من قبيل المفارقة على أية حال أن تتولى الدول المتقدمة الآن قيادة عملية الارتداد عن الاستثمار الأجنبى المباشر، بعد أن كانت هى ذاتها قد تولت قيادة موجة تحرير الاستثمار الأجنبى المباشر خلال العقود الثلاثة الماضية. والذين ينصحون صانع القرار بتقديم الحوافز والإعفاءات لجلب الاستثمار الأجنبى يعرفون أنه لم يكتب النجاح إلا لعدد ضئيل من الدول، مثل الصين والهند، التى تمكنت من التفاوض على قدم المساواة مع دول العالم الصناعي. وبدون العودة إلى التخطيط الاقتصادي، فإن الدولة لابد وأن تكون قادرة على وضع الشروط التى تحكم عمل المستثمرين الأجانب الذين يسعون إلى تعظيم الأثر المحلى على تشغيل العمالة، وانتشار التكنولوجيا، والشراكة الإستراتيجية، وما إلى ذلك. وفى ذات الوقت، نحتاج إلى تعزيز القطاع الخاص المحلى ودعم «الصناعات الوليدة» من خلال فرض إجراءات الحماية بصورة مؤقتة، وهو الأمر الذى من شأنه أن يساعدها على الارتقاء بناتجنا المحلي. وهناك كتابات وتقارير دولية صادرة عن هيئات محترمة يعتد بها فى المجال الاقتصادى تنصح الدول الفقيرة ذات الموارد الغنية بأن أفضل سبيل عملى للدول الفقيرة هو أن تفادى كلية الصناعات الاستخراجية الموجه صوب التصدير . فالصناعات الاستخراجية، أى النفط والغاز، والتعدين فى الصخور الصلبة - تمثلان بؤرة تركيز الاستثمار الأجنبى المباشر . والغريب فى موضوع الاستثمار الأجنبى فى الموارد الطبيعية أن نتيجته جاءت مخيبة للآمال ، وكان أداء كثير من الاقتصادات الغنية بالموارد أسوأ من أداء الدول الفقيرة بالموارد ، بل إن الكثير منها أصبح اليوم أفقر مما كان عليه منذ 30 عاما خلت. كما بات واضحا أن زيادة الإنتاج والصادرات لا تعنى بالضرورة حدوث أثر إيجابى على الاقتصاد المضيف فهناك عوامل مهمة تؤثر على صافى الإيرادات تتضمن كيفية اقتسام الريع بين الحكومة والمجتمعات المحلية والشركات عبر الوطنية؛ والمدى الذى تسهم به الشركات عبر الوطنية فى الاقتصاد المحلى من حيث العمالة، وتنمية المهارات ، بيد أن الإسهام النسبى للاستثمار الأجنبى المباشر فى مجال التعدين فى الاقتصاد الشامل عادة ما يظل محدودا، فالمشاريع الاستخراجيه موجهة صوب التصدير بشكل نموذجي، مع تحقيق قيمة مضافة محدودة. كما أنها تتسم بكثافة رأسمالية نسبية، تحد من إمكان إنشاء عمالة محلية، وغالبا ما تعتمد على مدخلات مستوردة. ومن ثم ينتقد خبراء الاقتصاد الدول النامية وبصفة خاصة مصر حيث إنها قدمت شروطا أسخى مما يجب لمشاريع الاستثمار الأجنبى المباشر فى الصناعات الاستخراجية، الأمر الذى نجم عنه حصولها على حصص منخفضة من الإيرادات الحكومية بشكل غير متناسب . وقد حدث أخيرا أن اتخذت بلدان كثيرة خطوات صوب زيادة حصة الحكومة من الإيرادات. وفى مجال التعدين، قام عدد من حكومات البلدان المضيفة بزيادة حصتها من الإيرادات بزيادة الضرائب، وإعادة التفاوض بشأن العقود مع الشركات عبر الوطنية، وفرض تغييرات من جانب واحد على العقود أو زيادة سيطرة الحكومة على الصناعة. والخطورة تكمن فى اتجاه الاستثمار الأجنبى نحو الزراعة خاصة بعد الأزمة المالية العالمية حيث اتجه المستثمرون نحو الاستثمار فى إفريقيا عن طريق شراء الأراضى .ويسارع مليارديرات من الصين والخليج ومستثمرون من وول ستريت الذين اتفقوا مع رجل المال جورج سوروس الذى صرح أن :»الأراضى الزراعية هى أفضل الاستثمارات فى عصرنا حيث يمكن أن تدر عائدا يصل إلى 40٪ . والخطورة فى أن معظم مشاريع الزراعة الغربية أنها لا تقدم الغذاء لإفريقيا ولا للعالم فمعظمها يزرع أنواعا من المزروعات المخصصة للوقود الحيوي. ومصر بحاجة إلى توسيع وتنشيط الإنتاج الزراعى حتى نتمكن من تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة الناجمة عن النمو السكاني، وكأساس للتنويع الاقتصادى والتنمية .ولتحقيق هذه الأهداف، هناك حاجة ماسة وملحة إلى زيادة الاستثمار فى هذه الصناعة . وتجدد الاهتمام أخيرا بالاستثمار الأجنبى المباشر فى مجال الإنتاج الزراعى لأنه يتيح فرصة إضافية لتعزيز الإنتاج الزراعى والإنتاجية وتعزيز التنمية الاقتصادية بشكل عام . وبالإضافة إلى ذلك، ثمة مجال لتعزيز الإمكانات الاستثمارية للمزارعين المحليين - وهى محدودة للغاية فى الوقت الراهن بسبب الافتقار إلى الموارد المالية ، فعدم كفاية الاستثمار فى الزراعة أدى بشكل كبير إلى إعاقة تحقيق التنمية المطلوبة ، بيد أن الاستثمار الأجنبى المباشر قد يضطلع بدور تكميلى مهم، ولا سيما فيما يتعلق بإنتاج محاصيل ذات قيمة مضافة عالية وتحديث هذه الصناعة ، غير أن الاستثمار من جانب الشركات عبر الوطنية فى الزراعة لا يزال محدوداً . وتؤثر الشركات عبر الوطنية أيضا فى الإنتاج الزراعى - وتستثمر بالتالى بطريقة غير مباشرة فى هذه الصناعة - بوسائل أخرى منها الزراعة التعاقدية. وهذه المشاركة من جانب الشركات عبر الوطنية فى الإنتاج الزراعى قد تصرف النظر عن الاستثمار فى المحاصيل الراهنة، لكنها قد تستقطب مستثمرين آخرين بفعل التأثيرات الظاهرة والجانبية ( كما قد يكون الحال بالنسبة للاستثمار المباشر فى الإنتاج الزراعى ). لكن من المهم إنشاء روابط بين المستثمرين الأجانب والمحليين فى مجال الزراعة وأن تكون لاستثماراته تأثيرات غير مباشرة . ويقدم الاستثمار الأجنبى المباشر رءوس الأموال اللازمة والتكنولوجيا والمدخلات الأخرى من أجل زيادة الطاقة الإنتاجية والعائد على المجتمع، ويمكن أن يساعد المنتجين المحليين على الاندماج فى سلاسل القيم الدولية للأغذية ، وفى ذات الوقت لابد من مراعاة ألا تؤدى الاستثمارات الأجنبية إلى استبعاد المستثمرين المحليين، ولا سيما صغار المستثمرين . وعلاوة على ذلك، ينبغى التشديد على أهمية استثمار القطاع العام فى مجال الزراعة، فهو يساعد فى توصيل الهياكل الأساسية إلى المناطق الريفية، وفى تمكين صغار المزارعين وتوفير بيئة مواتية لاستثمارات القطاع الخاص . ويمكن أن تضطلع الشراكات بين القطاعين العام والخاص بدور حيوى فى هذا الصدد . وهناك العديد من المجالات التى يمكن أن يحدث فيها التفاعل من أهمها ما يلى : أن يشترك المستثمرون الأجانب والشركات المحلية المزارعون المحليون فى الإنتاج الزراعي؛ ويمكن أن يتعاون المستثمرون الأجانب والشركات المحلية (المزارعون المحليون) فى مختلف المراحل المتصلة بسلاسل القيم المتعلقة بالأغذية . فعلى سبيل المثال، يمكن أن تتولى الشركات المحلية (المزارعون المحليون) عملية الإنتاج، بينما يشارك المستثمر الأجنبى فى مرحلة تجهيز المنتجات الغذائية أو كجهة للبيع بالتجزئة . تعد الزراعة التعاقدية من الأشكال النموذجية لهذا التعاون؛ ويمكن أن يتعاون المستثمرون الأجانب والمحليون فى البحث والتطوير فى مجال الزراعة . ويمكن أن يتعاون المستثمرون الأجانب والمحليون فى مجال تطوير الهياكل الأساسية، وينبغى التسليم بأن تأثيرات تطوير هذه الهياكل الأساسية على الزراعة قد تكون أكبر من مجرد تأثير اقتصادى . والحاجة إلى صياغة عقد نموذجى بين المستثمر الأجنبى والمزارع المحلى يلزم فيه المستثمر الأجنبى بتحقيق بعض الشروط المطلوبة لتحقيق التنمية . وبصياغة هذه القواعد بعناية، يمكن إنشاء حالة مربحة للجميع بإخضاع المستثمر الأجنبى لعدد من الالتزامات الرئيسية مقابل حق القيام بالاستثمار . ويتصل أحد المواضيع الحاسمة بالآثار الاجتماعية والبيئية لهذه المشاريع، وبالإسهامات التى يمكن إلزام المستثمرين الأجانب تعاقدا بتقديمها للنهوض بهدف التنمية الزراعية المستدامة . وقد سمحت بعض الحكومات بالاستثمارات الأجنبية فى الإنتاج الزراعي، شريطة أن تعود هذه الاستثمارات بفوائد إضافية على البلد المضيف، مثل تنمية الهياكل الأساسية . وتشمل المواضيع الأخرى التى يجب النظر فيها توزيع الإنتاج والإيرادات .فإذا كان الإنتاج يتصل بمواد غذائية أساسية، يمكن للمرء أن ينظر فى ترتيب تعاقدى مع المستثمر الأجنبى تخصص بموجبه حصة معينة من الإنتاج للسوق المحلية لتعزيز الأمن الغذائي. كما ينبغى أن يتمثل أحد العناصر الرئيسية لاستراتيجية التنمية فى تعزيز الروابط من خلال ترتيبات تعاقدية بين المستثمرين الأجانب والمزارعين المحليين تمكن هؤلاء من تعزيز وتحسين قدراتهم، لا سيما بنقل التكنولوجيا وغيرها من المعارف .. وهناك مجال آخر يمكن فيه للمستثمرين الأجانب والمحليين أن يتفاعلوا وهو البحث والتطوير الزراعيان .فبينما لا تزال شركات عبر وطنية كثيرة تضطلع بالأنشطة فى هذا المجال فى المقر الواقع فى البلد الأصلي، فإن السنوات الأخيرة شهدت اتجاهاً نحو نقل البحث والتطوير جزئيا إلى البلدان النامية لتكييف تطوير البذور والمنتجات مع الظروف المحلية والإقليمية ، أو لتطوير أنواع جديدة من النباتات. ويمكن أن تكون الشراكات بين القطاعين العام والخاص للبحث والتنمية التى تشمل شركات عبر وطنية وسيلة لتعزيز الابتكار، وجعل البحث والتطوير الزراعيين أكثر استجابة للاحتياجات المحلية وتحدى الاستدامة، وتخفيض التكاليف، وتوزيع مخاطر المشاريع بين الشركاء المعنيين. وعلى المسئولين عن التنمية الزراعية السعى إلى وضع عقود نموذجية للزراعة التعاقدية . وينبغى وضع هذه النماذج بهدف مساعدة المزارعين المحليين - بوصفهم الطرف الأضعف - فى المفاوضات مع الشركات عبر الوطنية بتحديد العناصر الأساسية التى يتعين إدراجها فى العقود . وستحدد هذه العناصر الأساسية الحقوق والالتزامات الرئيسية للأطراف المتعاقدة، ويمكن أيضاً أن تحدد دور السلطات الحكومية فى هذا السياق . ووجود عقد نموذجى لا يسهل المفاوضات فحسب، بل يسهم أ يضاً فى التفاوض بصورة أكثر توازناً، مع الفائدة الجانبية ولكن المهمة المتمثلة فى المساعدة على الحد من المنازعات بين الأطراف المتعاقدة فى المستقبل .