مصدر الثروة القومية في مصر كان دائما مزدوجا: من جانب الزراعة بسبب الوادي الذي يملك أخصب أراض في العالم ولكنه كذلك التجارة الدولية كنتيجة لطبيعة الموقع وما يتيحه من إمكانات بعد مرور41 عاما علي حرب أكتوبر1973، لا تزال المعاهد العسكرية والإستراتيجية العالمية تحلل وتدقق في نتائجها ودروسها، ومازال الخبراء يستلهمون الدروس من هذه المعركة والاستفادة منها. فهي أكبر حرب تم تنفيذها علي ساحة الميدان بعد الحرب العالمية الثانية فقد قلبت موازين القوي وكيفية إدارة معارك الأسلحة المشتركة رأسا علي عقب وأعادت هيكلة هذه المفاهيم والقواعد مرة أخري. وكان أهم نتائج الحرب استرداد السيادة الكاملة علي قناة السويس، واسترداد شبه جزيرة سيناء. ومن النتائج الأخري تحطم أسطورة أن جيش إسرائيل الذي لا يقهر، كما أن هذه الحرب مهدت الطريق لاتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل الذي عقد بعد الحرب في سبتمبر1978 م علي إثر مبادرة السادات التاريخية في نوفمبر1977 وزيارته للقدس. وأدت الحرب أيضا إلي عودة الملاحة في قناة السويس في يونيو1975 م. كما برزت الأهمية السياسية والإستراتيجية للنفط إذ استخدم العرب سلاح البترول في المعركة، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني في القرار الذي صدر عن القمة العربية في الرباط عام1974، وتزايد الاعتراف والقبول الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية.وعلي الجانب الآخر انكسرت نظرية الأمن الإسرائيلي علي المستوي الاستراتيجي والتي تقوم علي عدة مرتكزات هي التفوق الكيفي أمام الكم العربي. وأحدث انكسار هذه النظرية صدمة عسكرية وسياسية لم يسبق لها مثيل في التاريخ القصير لدولة إسرائيل وقد أدي ذلك بدورة إلي تفكك تركيبة القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل وتمزق العلاقات فيما بينهم. كما أدي انكسار النظرية الإسرائيلية إلي سقوط أساطير إسرائيلية كثيرة علي رأسها الجيش الإسرائيلي الذي كان أمل إسرائيل وموضع اعتزازها الأول وأيضا سقطت صورة المخابرات الإسرائيلية التي كانت غائبة عن مسرح الأحداث بالمعلومات والكشف والتحليل كما سقطت شخصيات إسرائيلية كانت مثل أصنام لدي الرأي العام الإسرائيلي ومنها جولدا مائير وموشي ديان. ووجدت إسرائيل نفسها مرغمة علي الاستمرار في عملية التعبئة العامة لدعم خطوطها العسكرية وكان ذلك يعني أن عجلة الإنتاج الإسرائيلي في الزراعة والصناعة والخدمات توقفت أو أصبحت علي وشك التوقف. إن هذا النصر الكبير لم يكن وليد الصدفة بل سبقه إعداد كبير قل أن يوجد مثله علي مر التاريخ. ولم يكن الجهد السياسي والعسكري المكثف للقيادة السياسية والعسكرية المصرية بزعامة الرئيس جمال عبدالناصر عقب هزيمة حرب1967، مجرد جهد لدعم القدرات الدفاعية لمصر بهدف التوصل بالطرق الدبلوماسية أو السلمية إلي قيام إسرائيل بتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم242، وإنما كان جهدا يستهدف إعادة بناء القوات المسلحة بصورة مختلفة كليا عما كانت عليه عشية حرب1967، كميا ونوعيا، حتي تكون قادرة علي تحرير الأرض المحتلة في حرب1967 تمشيا مع شعار' ما أخد بالقوة لا يمكن أن يسترد بغير القوة'. وعلي هذا الأساس، وضعت المعالم الأساسية الأولي لخطة هجومية شاملة، بدءا من أواخر العام1967، أطلق عليها أسم' الخطة200' وكان يجري تطويرها كل ستة شهور علي ضوء التغيرات التي تطرأ علي أوضاع الطرفين فعليا. فالقوة العسكرية المصرية التي عبرت القناة واحتلت خط بارليف عام1973، تم بناؤها وتطويرها وتدريبها وفقا للخطة الهجومية التي وضعت وطورت تحت قيادة عبدالناصر السياسية والعسكرية العليا المسماة بالخطة200 والتي جري التعتيم عليها بطرق مختلفة بعد دلك لأسباب سياسية وإستراتيجية عليا حتي تبرز الخطة بدر باعتبارها أنها الخطة الهجومية الوحيدة التي وضعت في ارتباط وثيق بين القدرات العملية المتاحة والأهداف المقررة لها أي باعتبار أنها كانت تشكل الخيار الاستراتيجي العسكري الممكن والوحيد في ظل التفوق الإسرائيلي. ولعل أهم الدروس لنصر أكتوبر يكمن في أهمية احتواء إستراتيجية التسليح علي بعدين أولهما تنويع مصادر السلاح حتي لا تقع الدولة تحت ضغط احتكار السلاح من مورد واحد، والاعتماد علي الذات في إنتاج احتياجات القوات المسلحة من الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية. إن حرب أكتوبر كانت نجاحا عسكريا حقيقيا، وهذا النجاح أقلق جميع القيادات غير العربية المتعاملة مع المنطقة وخاصة القيادة الأمريكية، ومن ثم نهجت خطة كيسنجر في ضرورة التغلغل في عناصر هذا النجاح بحثا عن مواطن الضعف ليوسع منها وليضغط عليها، فتشل النجاح إن لم تحيله إلي فشل. حرب أكتوبر كانت نجاحا حقيقيا للقيادة العسكرية الميدانية وكان النجاح مصدره ثلاثة عناصر: الجندي أولا والقائد الميداني ثانيا التخطيط للتعامل المحدود أي معركة العبور ثالثا. وقد استطاعت دبلوماسية الخطوة خطوة أن تحقق الكثير للولايات المتحدة، فأهم ما حققته هو وضوح النظرة الأمريكية في التعامل مع المنطقة، فالدبلوماسية الأمريكية حتي مجيء كيسنجر لم تكن تملك سياسة واضحة، ولكنها وضحت تمام الوضوح معه في توظيف للمنطقة في خدمة الأهداف الأمريكية الكلية، ومعني ذلك: النظرة إلي المنطقة ككل وتحديد توظيفها علي أساس واقعها الاستراتيجي، حيث تحتل في قلبه إسرائيل الموقع المتميز، مع توظيف كل دولة تنتمي إلي المنطقة في ضوء توظيف المنطقة، وتطبيق السياسة الاقتصادية التي تتبعها واشنطن علي كل من مصر وإسرائيل، وهكذا برزت سياسة المعونات الاقتصادية. وأهم ما أسفرت عنه حرب أكتوبر أنها أعادت قنوات الاتصال مع كثير من الدول الكبري، ففي أعقاب عام1967 أوصدت الدبلوماسية الغربية قنوات الاتصال مع العالم الخارجي. وكان واجب الدبلوماسية المصرية عقب أن اكتشفت خطأ ذلك الأسلوب في التعامل أن تعيد خلق قنوات الاتصال التي كنا قد أوصدناها. وعقب1973 برزت عزلة إسرائيل الدولية، رغم ذلك لم تعرف الدبلوماسية المصرية كيف تستغل تلك العزلة وكيف تعمق منها بصفة خاصة في دول أمريكا اللاتينية وفي دول أوربا الغربية ويبرز ذلك واضحا في مشكلة القدس التي في لحظة معينة كانت جميع القوي الدولية بما في ذلك الفاتيكان تقف بخصوصها مواقف المعارضة من إسرائيل. أين من ذلك موقف تلك القوي وبصفة خاصة عقب حرب أكتوبر حيث كان من الممكن أن يدعم الغزو الدبلوماسي المصري النجاح العسكري علي أرض المعركة. عقب اتفاقيات كامب ديفيد أتيحت للدبلوماسية المصرية فرصة لا مثيل لها للتعامل مع إسرائيل من الداخل، والواقع أن هذا المفهوم هو أحد العناصر الأساسية التي أنطلق منها تصور الرئيس السادات في عملية تطبيع العلاقات، رغم ذلك فإن الدبلوماسية المصرية ظلت عاجزة علي أن تخلق أي تسرب حقيقي داخل القوي السياسية في المجتمع الإسرائيلي. كذلك ظهر جليا مدي قصور الدبلوماسية العربية في التعامل الجماعي، لعل خير نموذج يعبر عن ذلك موضوع الحوار العربي الأوربي. ماذا تريد إسرائيل بعد41 عاما؟ منذ حرب أكتوبر وحتي الآن وضح أن الذي تريده إسرائيل ليس تنظيم عمليات حدود ولا توقيع معاهدات سلام ولا الجلوس علي مائدة المفاوضات لوضع حد للخلافات والوصول إلي نوع من التوفيق بين المصالح المتعارضة، إن من يتصور ذلك إنما يعبر عن سذاجة حقيقية، إن مفهوم إسرائيل للسلام هو أنه وسيلة لأن تستوعب في النظام الإقليمي بحيث يصير التواجد الإسرائيلي بجانب التواجد العربي في كل ما له صلة بإدارة المرافق الإقليمية حقيقة قائمة وثابتة ودائمة وبحيث يتعود العالم العربي علي التعامل المباشر مع العنصر الإسرائيلي، إن هذا هو المقدمة الأولي لإمكانية التغلغل في الاقتصاد الإقليمي وتوجيه خيرات المنطقة نحو المصالح اليهودية، وهذا توضحه التوجهات والاتفاقيات التي تمت في هذا الشأن مع الجانب المصري. فإسرائيل تعلم بأن مستقبلها من حيث التقدم الاقتصادي يتوقف علي فتح أبواب التعامل المباشر مع المنطقة العربية، إن ما يعنيها أساسا هو الخيرات الحقيقية في منطقة الشرق المشرق العربي وبصفة خاصة رءوس الأموال البترولية، وهي لذلك تسعي لخلق سوق مشتركة إقليمية تقوم علي مبدأ التعاون المباشر بين التكنولوجيا الإسرائيلية والعمالة المصرية ورأس المال العربي، ومن ثم ظهرت مشروعات عدة في سيناء وفي الضفة فضلا عن المشروعات السياحية ومشروعات خاصة بالنقل وربط المنطقة بشبكة مواصلات كلها تتمركز حول تل أبيب. هذه السياسة التي تم تحقيق بعضها هي مقدمة لاستيعاب النظام الإقليمي العربي ومن ثم فبدلا من أن يبتلع الجسد العربي إسرائيل تستوعب إسرائيل الجسد العربي من خلال التحكم في شرايينه الحيوية. كذلك فإن هذه السياسة منطلق أساسي للسيطرة، فعقب السيطرة الوظيفية من خلال التحكم في الشرايين والمفاصل تأتي السيطرة الاقتصادية بفضل الاستجابة إلي متطلبات الحياة اليومية حيث الاستهلاك وتقديم الخدمات، وجميع هذه المداخل لابد وأن تفرض التبعية السياسية. إن هذه السياسة لن تحدث نتائجها في التعامل مع الجسد العربي فقط بل مع كل من يريد التعامل مع ذلك الجسد ومن ثم تصير هذه السياسة قوة ضاغطة لا في مواجهة أوربا الغربية فقط بل كذلك في مواجهة الولاياتالمتحدة. لقد أوضحت حرب أكتوبر أن ما يخيف إسرائيل من مصر أمران: القدرة الصناعية والبعد الديموجرافي. وقد كتب بن جوريون في وصيته يحذر القيادة العبرية من هذه الحقيقة المزدوجة، فالقلعة الصناعية في مصر لابد وأن تتحول إلي أداة قتالية (مصانع الحديد والأسمنت خصصت طاقتهما لبناء حائط الصواريخ قبل حرب أكتوبر) كما أن مصانع الحديد والصلب هي الأساس الحقيقي لكل تقدم نحو صناعة السلاح، لذلك استخدمت ورقة الضغط الخارجي لخصخصة تلك الصناعتين بالكامل. أما الكم الديموجرافي، حيث تنبهت القيادة الأمريكية إلي هذا العامل أبان حكم عبدالناصر أي التطور الثابت نحو الوحدة العربية والاندماج بين أجزاء المشرق العربي علي الأقل فعهدت إلي مركز البحوث بروما بدراسة هذه الظاهرة ومن ثم اتجه المركز الذي أنشيء خصيصا لهذا الهدف وتولت تمويله مؤسسة فورد بتعاون مع أجهزة المخابرات الأمريكية إلي تعميق دراسة ظاهرتين: الأولي أثر الهجرة المصرية علي إعادة تشكيل الواقع الديموجرافي في دول المشرق العربي ونتائجه المتوقعة مستقبلا والثانية مدي خضوع الإدراك العربي لعملية إعادة تشكيل من حيث الاقتراب من الإدراك المصري ومن ثم بدأ التخطيط الفعلي لتمزيق تلك العلاقات بخلق دوائر صراع مختلفة. كذلك نبهت حرب أكتوبر الغرب إلي ضرورة إعادة النظر في موضوع الطاقة من خلال استخدام إستراتيجية الاقتراب غير المباشر لتطويق الدول المنتجة للنفط، كما تم إعادة هيكلة السوق النفطية علي قاعدتي المضاربة الآجلة والمقايضة التبادلية أي تحويل كل التعاملات والصفقات إلي البورصة الدولية للنفط ومشتقاته كبديل من الاتفاقيات بين الدول أو الهيئات الوطنية وبين الأطراف المشترية فقط. كذلك فإن شركات الاحتكارات النفطية الدولية، أصبحت تخصص إدارات مستقلة داخلها لتنظيم عمليات بيع النفط والمنتجات النفطية في مقابل سلع إستراتيجية. والعمل بقدر الإمكان علي تفتيت المنطقة العربية إلي دويلات صغيرة بحيث تكون المناطق البترولية تحت سيطرتها مباشرة. كم تمت السيطرة علي الوسائل الإعلامية المؤثرة في صناعة النفط وتجارته لتقيدم الرؤي الغربية التحليلية لها ومن ثم صياغة الوعي النفطي وتشكيله وضمان السيطرة عليه وتوجيهه نحو المسارات التي تضعف من الموقف التفاوضي للدول العربية المنتجة للنفط. كذلك تم توسيع المخزون الاستراتيجي لدي جميع الدول الصناعية واستخدامه وقت الطواريء، وتشجيع الأبحاث عن استخدامات الطاقة البديلة، والتحكم الكامل في مسألة نقل التقنية المتقدمة. إن وضع مصر المتميز يفرض علي مصر مجموعة من القيود التي لا نستطيع أن نتخطاها أو أن نتجاهلها، أول هذه القيود أن مصدر الثروة القومية في مصر كان دائما مزدوجا: من جانب الزراعة بسبب الوادي الذي يملك أخصب أراض في العالم ولكنه كذلك التجارة الدولية كنتيجة لطبيعة الموقع وما يتيحه من إمكانيات، لدلك كان التحرك الرئيسي للرئيس السيسي علي تلك الجبهتين، تحقيق ثورة زراعية باستخدام العلم والتكنولوجيا، ومشروع قناة السويس والذي من خلاله أعاد الروح للشخصية المصرية، والتأكيد علي استعادة روح أكتوبر، فهي نقطة فارقة في تاريخ مصر والعرب فهي لأول مرة تلفت نظر العالم إلي قوة العرب اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.