مدبولي: نعمل مع الوزارات المعنية على تسهيل إجراءات التسجيل العقاري للوحدات السكنية    تعاونيات البناء والإسكان تطرح وحدات سكنية ومحلات وجراجات للبيع بالمزاد العلني    برنامج الأغذية العالمي: الوضع الإنساني بقطاع غزة كارثي.. ومخزوننا الغذائي بالقطاع نفد    بيروت ترحب بقرار الإمارات بالسماح لمواطنيها بزيارة لبنان اعتبارا من 7 مايو    رئيس حزب فرنسي: "زيلينسكي مجنون"!    فاركو يسقط بيراميدز ويشعل صراع المنافسة في الدوري المصري    سيل خفيف يضرب منطقة شق الثعبان بمدينة طابا    انضمام محمد نجيب للجهاز الفني في الأهلي    أوديجارد: يجب استغلال مشاعر الإحباط والغضب للفوز على باريس    زيزو يخوض أول تدريباته مع الزمالك منذ شهر    إسرائيل تدرس إقامة مستشفى ميداني في سوريا    التموين: ارتفاع حصيلة توريد القمح المحلي إلى 21164 طن بالقليوبية    الزمالك: نرفض المساومة على ملف خصم نقاط الأهلي    الشرطة الإسرائيلية تغلق طريقا جنوب تل أبيب بعد العثور على جسم مريب في أحد الشوارع    حرس الحدود بمنطقة جازان يحبط تهريب 53.3 كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    استشاري طب شرعي: التحرش بالأطفال ظاهرة تستدعي تحركاً وطنياً شاملاً    المخرج طارق العريان يبدأ تصوير الجزء الثاني من فيلم السلم والثعبان    البلشي يشكر عبد المحسن سلامة: منحنا منافسة تليق بنقابة الصحفيين والجمعية العمومية    ترامب يطالب رئيس الفيدرالي بخفض الفائدة ويحدد موعد رحيله    الهند وباكستان.. من يحسم المواجهة إذا اندلعت الحرب؟    حادث تصادم دراجه ناريه وسيارة ومصرع مواطن بالمنوفية    التصريح بدفن جثة طالبة سقطت من الدور الرابع بجامعة الزقازيق    ضبط المتهمين بسرقة محتويات فيلا بأكتوبر    تعديل بعض أحكام اللائحة التنفيذية لقانون سوق رأس المال    مفتي الجمهورية: نسعى للتعاون مع المجمع الفقهي الإسلامي لمواجهة تيارات التشدد والانغلاق    23 شهيدًا حصيلة الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة منذ فجر اليوم    مديرية العمل تعلن عن توفير 945 فرصة عمل بالقليوبية.. صور    رسميًا.. إلغاء معسكر منتخب مصر خلال شهر يونيو    مورينيو: صلاح كان طفلًا ضائعًا في لندن.. ولم أقرر رحيله عن تشيلسي    فيبي فوزي: تحديث التشريعات ضرورة لتعزيز الأمن السيبراني ومواجهة التهديدات الرقمية    كلية الآثار بجامعة الفيوم تنظم ندوة بعنوان"مودة - للحفاظ على كيان الأسرة المصرية".. صور    نائب وزير الصحة يُجري جولة مفاجئة على المنشآت الصحية بمدينة الشروق    مصر تستهدف إنهاء إجراءات وصول السائحين إلى المطارات إلكترونيا    الداخلية تعلن انتهاء تدريب الدفعة التاسعة لطلبة وطالبات معاهد معاونى الأمن (فيديو)    رابط الاستعلام على أرقام جلوس الثانوية العامة 2025 ونظام الأسئلة    رغم توقيع السيسى عليه ..قانون العمل الجديد :انحياز صارخ لأصحاب الأعمال وتهميش لحقوق العمال    في السوق المحلى .. استقرار سعر الفضة اليوم الأحد والجرام عيار 925 ب 55 جنيها    صادرات الملابس الجاهزة تقفز 24% في الربع الأول من 2025 ل 812 مليون دولار    كندة علوش: دخلت الفن بالصدفة وزوجي داعم جدا ويعطيني ثقة    21 مايو في دور العرض المصرية .. عصام السقا يروج لفيلم المشروع X وينشر البوستر الرسمي    إعلام الوزراء: 3.1 مليون فدان قمح وأصناف جديدة عالية الإنتاجية ودعم غير مسبوق للمزارعين في موسم توريد 2025    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : انت صاحب رسالة?!    تقرير المعمل الجنائي في حريق شقة بالمطرية    بالفيديو.. كندة علوش: عمرو يوسف داعم كبير لي ويمنحني الثقة دائمًا    بلعيد يعود لحسابات الأهلي مجددا    بدء الجلسة العامة لمجلس الشيوخ لمناقشة تجديد الخطاب الدينى    الأوقاف تحذر من وهم أمان السجائر الإلكترونية: سُمّ مغلف بنكهة مانجا    غدا.. الثقافة تطلق برنامج "مصر جميلة" للموهوبين بالبحيرة    وزير الصحة يبحث مع نظيره السعودي مستجدات التعاون بين البلدين    في ذكرى ميلاد زينات صدقي.. المسرح جسد معانتها في «الأرتيست»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 4-5-2025 في محافظة قنا    الرئيس السيسي يوافق على استخدام بنك التنمية الأفريقي «السوفر» كسعر فائدة مرجعي    دعوى عاجلة جديدة تطالب بوقف تنفيذ قرار جمهوري بشأن اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير    الأزهر للفتوى يوضح في 15 نقطة.. أحكام زكاة المال في الشريعة الإسلامية    هل يجوز للزوجة التصدق من مال زوجها دون علمه؟ الأزهر للفتوى يجيب    خبير تغذية روسي يكشف القاعدة الأساسية للأكل الصحي: التوازن والتنوع والاعتدال    الإكوادور: وفاة ثمانية أطفال وإصابة 46 شخصا بسبب داء البريميات البكتيري    تصاعد جديد ضد قانون المسئولية الطبية ..صيدليات الجيزة تطالب بعدم مساءلة الصيدلي في حالة صرف دواء بديل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القيادة الجماعية.. لتحقيق النموذج المصري في التنمية

هناك قضايا حقيقية تتعلق بواقع هذا المجتمع وبمستقبله, وهي قضايا تمس أغلبية الناس وتؤثر علي مصالحهم وحياتهم اليومية. وهناك من يريدون تحويل اهتمامنا من القضايا الحيوية والحاسمة في تاريخنا التي عليها سوف يتوقف مستقبلنا إلي قضايا أخري سوف تستغرق الوقت والجهد وتنتهي إلي لا شيء, ونظل في حلقة مفرغة نناقش نفس القضايا, ونجتر ذات الأفكار والحجج, ونظل في أماكننا' محلك سر' هل هذا هو المقصود؟ فالسياسة والنظم وأشكال الحكم ليست هدفا في حد ذاتها بل هي أساليب وطرق لحل مشاكل الناس وتحقيق مصالحهم وبناء الحياة الفاضلة لهم. وتمايز المؤسسات والنظم يكون بقدر تحقيقها لهذه الحياة أو اقترابها من المثل الأعلي الذي تدعو إليه. فكل الأيديولوجيات والأفكار تبدو براقة علي الورق, والمحك الحقيقي لها هو الممارسة والتجربة. مشكلة مصر الاقتصادية التي تتفرع عنها جميع مشاكلنا تكمن في حقيقة بسيطة تقول, إننا بلد فقير, يوجد فيه اختلال مستمر بين الموارد المتاحة ذاتيا وبين حجم الاحتياجات الفعلية التي يحتاجها شعبنا. وهنا يكمن لب الداء أساسا. فكلما تزايدت احتياجاتنا الفعلية, بحكم تزايد سكان مصر وحقهم المشروع في غذاء صحي كامل ومسكن ملائم وفرصة عمل منتجة وتعلم واف, إلي آخره, بينما قصرنا في تنمية مواردنا الذاتية وتطويرها كلما تفاقمت الأزمة العامة وتفرعت إلي أنواع عديدة من الأزمات والمشاكل. وحكمة السياسة الاقتصادية في جميع دول العالم تقاس دائما بمدي تقليل الفجوة بين الاحتياجات وحجم الموارد المتاحة ذاتيا وبمدي التحسن الحقيقي الذي يتحقق في مستوي معيشة الشعب دون أن يستأثر بذلك طبقة أو فئة اجتماعية معينة. والحقيقية أن تقليل فجوة الموارد هي المرادف لعملية التنمية وتعبئة الموارد وحسن استخدامها, وأن التحسن الحقيقي في مستوي معيشة الشعب, وخصوصا لذوي الدخول المحدودة, هو الترجمة النهائية لفكرة العدالة الاجتماعية والمقياس الصحيح الذي يقاس به مدي سرعة التقدم الاقتصادي والاجتماعي. هذا هو الدرس الأول الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا ونحن نحاول أن نرسم ملامح جديدة لاقتصادنا لتكون نواة لنموذج مصري في التنمية. علينا أن نخرج من الدائرة التي حصرنا أنفسنا فيها طوال العقود الأربعة الماضية وألا يشغلنا الحنين إلي الماضي عن المتغيرات الخارجية والداخلية التي غيرت الكثير من الثوابت التي نشأنا عليها, ومن ثم ينبغي أن تكون الغلبة للعقول الحكيمة. إن أكبر خطأ يرتكبه أنصار أي تيار سياسي هو تصور أنه يستطيع تجميد التاريخ وقولبته أو أن التطور السياسي والاقتصادي يتوقف عند حلول معينة أو أشكال مؤسسية بذاتها تمت صياغتها في مرحلة سابقة. نحن محتاجون الآن إلي وقفة موضوعية مع النفس, نراجع فيها أوضاعنا الاقتصادية الداخلية, ونحاول أن نفهم من خلالها جيدا الوضع الحقيقي الراهن لاقتصادنا القومي, وأن نفكر معا في رسم أسس فكر جديد يلائم مجتمعنا ويتمشي مع أوضاعنا وتقاليدنا الاجتماعية والحضارية. هذه الوقفة الموضوعية مع النفس ليست أمرا غريبا. فذلك ما تحرص عليه غالبية الدول المتقدمة من حين لآخر. علينا ألا نعيد تجربة بعينها, فالتاريخ لا يصدر أحكاما نهائية. وكل تحول رئيسي يطرأ علي الأحداث والقوي يجلب معه موضوعات جديدة للمناقشة وتفسيرات جديدة. إن مخاوفنا الرئيسة اليوم لا تتعلق بالشرور المطلقة بقدر ما تتعلق بالتهديدات غير المحددة فنحن لا نشعر بالقلق من المخاطر الظاهرة بل من المخاطر الغامضة التي يمكن ان تضرب عندما لا تكون متوقعة علما باننا غير محميين بشكل كاف من تلك المخاطر. صحيح أن الديمقراطية من الناحية النظرية هي أكثر النظم رشادة في عملية صنع القرار واختيار السياسات لأنها تسمح بعرض وغربلة الآراء المختلفة ومناقشتها تمهيدا لاختيار الحل الأفضل. ولكن هذا الأسلوب يمكن أن يكون ضياعا للوقت والجهد والموارد إذا تعصبت الأغلبية لأفكارها. وتصبح إهدارا أيضا إذا تفشت بين الأحزاب روح تصفية الحسابات القديمة. فالمشكلات الضخمة التي نواجهها لا يمكن أن تحل بالمستوي ذاته من التفكير الذي تسبب فيها.
مشكلة الاقتصاد المصري تكمن في نقاط ثلاث: الأولي في بعض الاقتصاديين, والثانية في الانتخابات والديمقراطية, والثالثة في القضايا المتعلقة بالاستثمار الأجنبي والأمن القومي. فالاقتصاديون الذين يعتنقون تيارا معينا وهو تيار السوق المفتوحة- التي أثبتت الأزمة المالية الأخيرة فشلها- يريدون تقليص دور الدولة وجعل السوق هي الأداة والحكم مخطئون, ولكن علي حد تعبير رجل الاقتصاد إدوين ر. أ. سليجمان في عام1889:' فإن الاقتصاد علم اجتماعي, وبالتالي تاريخي.. وهو ليس من علوم الطبيعة, وبالتالي فهو ليس علما دقيقا أو تجريديا بحتا'. والواقع أن خبراء الاقتصاد حتي علماء السياسة الذين تربوا علي الكتب الدراسية التي تعمل علي حجب وتشويش الدور الذي تلعبه المؤسسات, كثيرا ما يتصورون أن الأسواق تنشأ من تلقاء نفسها, ومن دون مساعدة من عمل جماعي هادف. فالأمر يتطلب مجموعة كاملة من المؤسسات غير السوقية لإشباع هذا الميل. الأسواق الحديثة تحتاج إلي بنية أساسية للنقل والخدمات اللوجستية والاتصالات, والقسم الأعظم من كل هذا يحتاج إلي استثمارات عامة. فالسوق تحتاج إلي أنظمة لإنفاذ العقود وحماية حقوق الملكية. كما تحتاج إلي قواعد تنظيمية تضمن اتخاذ المستهلكين لقرارات مستنيرة مبنية علي الاطلاع, وتحويل العوامل الخارجية إلي عوامل داخلية, كما تضمن عدم إساءة استخدام قوة السوق. وتحتاج أيضا إلي بنوك مركزية ومؤسسات مالية تعمل علي تفادي حالات الهلع المالي وتخفيف تأثيرات الدورة التجارية. كما تحتاج إلي توفير سبل الحماية الاجتماعية وشبكات الأمان من أجل إضفاء الشرعية علي نتائج عملية التوزيع. وبمجرد أن ندرك أن الأسواق تحتاج إلي كل هذه القواعد, فيتعين علينا أن نسأل أنفسنا من الذي ينبغي له أن يسن هذه القواعد. وقد أثبتت الأيام صحة ذلك, فكلما تدنت درجة شفافية وتمثيل النظام السياسي وقدرة الناس علي مساءلته, ارتفعت احتمالات اختطاف أصحاب المصالح الخاصة للقواعد. وفي كثير من الحالات, تخرب الديمقراطية الاقتصاد من خلال تفضيل مصالح بعينها علي حساب مصالح أخري. حتي كثير من الليبراليين المحدثين وعلماء الاقتصاد الذين حصلوا علي نوبل في الاقتصاد أدركوا أكذوبة السوق الحرة, فقبل بضعة أعوام فقط كانت إحدي الإيديولوجيات القوية الاعتقاد في قوامة الأسواق الحرة غير المقيدة, سببا في دفع العالم إلي حافة الهاوية. وحتي عندما كانت في أوج قوتها, منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين وحتي عام2007, لم تجلب الرأسمالية المتحررة من القيود علي الطريقة الأمريكية المزيد من الرفاهية المادية إلا علي أغني الأغنياء في أغني بلد في العالم. بل إن أغلب الأمريكيين لم يشهدوا علي مدي ثلاثين عاما من صعود هذه الإيديولوجية غير الانحدار أو الركود في دخولهم العام تلو الآخر.
علينا أن نعي الواقع الذي نعيشه, مصر لم تعرف حتي الآن اقتصاد السوق رغم كل ما كتب وكل ما صدر من قوانين تبجل اقتصاد السوق. مصر تعيش تلك الحالة التي عاشتها أوروبا في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر وهي ما عرفت بالنزعة التجارية التي عرفها قاموس العلوم الاجتماعية, الصادر عن اليونسكو, فإن'النزعة التجارية هي الاعتقاد بأن الرفاهية الاقتصادية للدولة لا يمكن ضمان تحقيقها إلا عن طريق تنظيم الحكومة للطابع القومي'. ويري آخرون ممن يؤكدون دور القطاع الخاص في النزعة التجارية, أنها' عرض وطلب لحقوق الاحتكار من خلال جهاز الدولة..' لقد كانت مجتمعات أوروبا في تلك المجتمعات مسيسة تسودها البيروقراطية وتهيمن عليها اتحادات إعادة التوزيع, ويغلب عليها الفقر. والتماثل بين مصر القرن الحادي والعشرين والنزعة التجارية الأوروبية في القرون السابقة تماثل صحيح. وكان نفوذ التجاريين هو الذي أدي أخيرا إلي إطلاق اسم' النزعة التجارية' علي السياسات التي انتهجتها حكومات تلك الأيام. وتميز النظام التجاري الأوروبي بقيام روابط وثيقة بين الدولة ذات الحضور الدائم وعصبة من منظمي المشروعات الذين خصتهم الدولة بالامتيازات واحتكار النشاط الاقتصادي. فهناك سمات مشتركة بين هذه الظاهرة وما يماثلها في مصر المعاصرة. ففرص الحصول علي المشروعات كان حكرا علي قلة مختارة. والسمة الثانية تظهر في التنظيم القانوني المبالغ فيه, مثلما هو الحال في مصر اليوم, كان التنظيم القانوني مبالغا فيه في الدولة التجارية. وحسبما يقول جريجوري كنج, عالم الإحصاء والديموجرافيا الانجليزي في القرن السابع عشر, فإن الحاجة إلي منازعة القوانين كانت ماسة للغاية حتي إنه في عام1688 كان ما يقرب من3% من سكان إنجلترا من المحامين. وتضخمت مجموعات القوانين بصورة مفرطة في البلدان التجارية. وفي فرنسا وضع كولبير, وزير مالية لويس الرابع عشر, مشروعات القوانين خلال الفترة من1666 وحتي1730 عندما أصبحت كل القوانين الخاصة بالإنتاج موجودة في أربعة مجلدات تتألف من2200 صفحة, عدا ثلاثة مجلدات تكميلية تشمل من الناحية العملية جميع الأنشطة الاقتصادية. واختلفت القوانين في ظل النظام التجاري عن القوانين السابقة عليها من حيث إن الملك لم يكن هو الذي يمليها, بل إنها أتت ثمرة مشاورات جرت مع الجماعات الاقتصادية صاحبة الامتياز أو التجار. ومن الصعب أن نتصور أن ملك فرنسا كان يعرف كم عدد أنواع الخيوط أو الإبر التي يلزم استخدامها في صناعة النسيج في مدينة أيون أو في باريس: لقد كان أصحاب المصانع هم الذين قدموا له هذه المعلومات. وتميزت القوانين في جوهرها بأنها آليات لمنع المنافسين من دخول السوق. وكان هناك سبب آخر للإفراط في التشريعات, هو الرغبة في إعادة توزيع الثروة القومية. وقويت شوكة البيروقراطية لأن مبرر وجود الدولة التجارية هو إعادة توزيع الثروة وفق مصالحها المالية والسياسية, ومن ثم, تشجيع أو إعادة أو حظر أنشطة وقوي اقتصادية مختلفة. أما السمة الثالثة فنجدها في اتحادات إعادة التوزيع ونقابات الطوائف التي أنشأت نوعا ما من البيروقراطية الزائفة من الوسطاء من القطاع الخاص, تضم محامين ومحاسبين وغيرهم, وكانت وظيفتها الرئيسية هي التقدم بالتماسات إلي الحكومة, وتشكيل نوع من أنواع اتحادات إعادة التوزيع من نقابات الطوائف- روابط المنتجين التي تشبه عندنا اليوم الاتحاد الاحتكاري للمنتجين أول الكارتيل. ولم يكن هدفها هو دعم التطور التكنولوجي للصناعات التي تمثلها, بل استخدام' سلطة الاحتكار, والسلطة السياسية عادة, لخدمة مصالحها!. وسعت إلي الحد من الدخول إلي مجال الممارسة القانونية لمهنتها أو نشاطها, وتقييد المنافسة قدر المستطاع وتثبيت الأسعار, وتنظيم السوق, والتحكم في ظروف العمالة مع إخضاعها لمعايير واحدة, وتوجيه السياسات التي تنتهجها الحكومة, بالتعاون مع الوسطاء, كلما أمكن ذلك. من هنا يجب أن نعترف أن السير علي هذا المنوال لن يقودنا إلي اقتصاد سوق حقيقي كما يرد البعض بل السير علي منوال النزعة التجارية الذي أدي إلي قيام الثورات في فرنسا وروسيا في حين سلكت بريطانيا الطريق الصحيح نحو اقتصاد السوق الحقيقي فنجت من الاضطرابات والثورات التي عمت مناطق متفرقة. المطلوب هو نموذج جماعي. وليس ترك الأمور للقطاع الخاص الرسمي بل يجب العمل علي تحويله إلي قطاع خاص حر يقود اقتصاد السوق. ففي اقتصاد السوق, يجري تشجيع القدرة علي الإنتاج لأن المنافسة هي العنصر السائد. لكن في الاقتصاد التجاري يتم تشجيع القدرة علي كسب الامتيازات واستخدام القانون لتحقيق المصالح الخاصة, وذلك لأن العامل المحدد هو التنظيم القانوني الذي تفرضه الدولة. وفي اقتصاد السوق, تجري خدمة المستهلك بكفاءة وبصورة اقتصادية, أما في الاقتصاد التجاري, فإن البيروقراطية العامة والخاصة هي التي تحظي بأفضل خدمة, وتأتي خدمتها عادة علي حساب بقية المجتمع. لكن في الاقتصاد القائم علي المنافسة, يتعين علي منظم المشروع أن يشبع حاجة زبون معني فقط بالثمن والجودة وسهولة الحصول علي السلعة المنتجة ولا يعنيه شيء من صفات منتجها. وفي الاقتصاد التجاري, ينفق منظمو المشروعات والعمال أوقاتا طويلة تتزايد باطراد في العمل السياسي, والشكوي والمداهنة, والتباحث. ويتعين علي الجميع أن ينتظروا في الطابور ليقابلوا المسئولين البيروقراطيين. ويجري استخدام مزيد من المحامين والوسطاء فضلا عن السعي لكسب تواطؤ مزيد من الصحفيين, بينما يتعين علي الحكومة أن تستخدم المزيد من البيروقراطيين وأن تجري المزيد من الدراسات حتي يتسني لها التعامل معهم وتبرير قراراتها. وهذا هو السبب في أن كثيرين من الناس, في ظل الاقتصاد التجاري, ممن كان في استطاعتهم أن يكونوا تجارا, يعملون بين صفوف البيروقراطية العامة والخاصة, وإنه لعار اقتصادي لأن البيروقراطيين وأعضاء جماعات الضغط, علي عكس العمال الحقيقيين, لا يستخدمون جهودهم لزيادة الإنتاج أو الاستثمار.
ولعل أكبر فرق بين النظامين يكمن في سهولة دخول السوق. ففي اقتصادات السوق يمكن لأي إنسان أن يدخل السوق, ينتج, يوزع, أو يحصل علي ترخيص حكومي دون تدخل طرف ثالث. أما في الاقتصادات التجارية, فإن دخول السوق مقيد, إذ يستلزم الأمر الحصول علي تراخيص أو تصاريح لكل شيء من الناحية العملية, مما يخلق حاجة مستمرة لطلب المساعدة من مجموعة من أصحاب الامتيازات في القطاع الخاص أو من السلطات التي تحرس بوابات الإدارة. وفي النهاية, أثار النظام التجاري قلاقل كبيرة في أوروبا, وذلك لأسباب عديدة, أهمها أن مؤسساته القانونية لم تعد قادرة علي الاستجابة لواقع حضري مركب ومتغير مما أدي إلي نشوب ثورات في بعض الدول مثل فرنسا وروسيا بعكس دول أخري اتخذت تدابير للانتقال إلي اقتصاد السوق, فانجلترا اتخذت عددا من التدابير التي نقلت تدريجيا سلطة صنع القرار من الدولة إلي المواطنين الخواص. وأعفت البلاد نفسها بصورة تدريجية للغاية من السلطات الاستبدالية الخاصة بإعادة التوزيع الاعتسافي, والقوانين والامتيازات العبثية, والضوابط المبالغ فيها, كما أسبغت الشرعية تدريجيا علي نشاط الإنتاج غير الرسمي, وأفسحت تدريجيا للناس إمكانات حصول الجميع علي مزايا النظام القانوني.
إن أي دولة تريد أن تبني لنفسها نموذجا خاصا بها في التنمية عليها أن تحتاط من دمج المال بالسياسة, هذا الدمج كان من الأسباب التي أدت إلي نشوب ثورات الربيع العربي. خطورة هذا الدمج أشار إليه جاغديش باغواتي أستاذ الاقتصاد من جامعة كولومبيا في مقال شهير تناول فيه الشئون الخارجية تحت عنوان' أسطورة رأس المال', تحدث عن عقدة' وال ستريت/وزارة المالية' التي أدت إلي الدمج بين المصالح والإيديولوجيات فكثيرا ما تتفاعل المصالح والإيديولوجية بشكل بالغ الدقة والدهاء إلي الحد الذي يجعل من محاولة الفصل بين الأمرين مهمة بالغة الصعوبة, وبالتالي يتسني للمصالح الخاصة فرض نفوذها من خلال إيديولوجية مقبولة علي نحو غير واع.
والنقطة الثانية وهي المتعلقة بالانتخابات والديمقراطية, فلقد أثبت المصريون أن الديمقراطية لا تأتي علي أسنة الرماح الغربية, ولكن علي الرغم من أن الدافع إلي التغيير الديمقراطي كان محليا وأصيلا, وبعض المراقبين يتخوفون من بعض النتائج, حيث إن الحكومة المنتخبة ديمقراطيا سيكون لزاما عليها أن تعالج نفس المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي أسهمت في سقوط النظام السابق, وعلي رأس هذه المشكلات تأتي الحاجة إلي خلق الوظائف وتوفير الفرص للشباب.. وظائف حقيقية وليست وظائف علي أوراق انتخابية, فاستمرار هذا النهج المهيمن القائم علي توزيع' الهبات' لم يعد قابلا للدوام, وإذا استمر فسوف يؤدي في الأغلب إلي تفاقم المحنة الاقتصادية الحالية. ذلك أن الثروات الاقتصادية لا تخلق بقرار حكومي, بل تأتي من الوظائف المنتجة التي تخلق السلع والخدمات ذات القيمة لدي الناس. والواقع أن ضمان الحكومة لوظيفة ما يعني أن ناتجها ليس مطلوبا. ومثل هذه الوظائف تشكل عبئا علي المجتمع وليس أصلا له. ومن خلال تجارب الماضي القريب نستطيع أن نقول إن الانتخابات ليست كافية إذا ما أردنا للديمقراطية أن تسود. فالانتخابات قد تؤدي إلي تسليم السلطة إلي أنظمة ديمقراطية غير ليبرالية, بل وما هو أسوأ. لذا, فلابد أن تكون الانتخابات جزءا من إطار عمل مؤسسي أكثر تعقيدا, وهو ما أستطيع أن أسميه بالنظام الليبرالي. والمظهر الأول من مظاهر النظام الليبرالي يتلخص في عدم تسامح الأنظمة الديمقراطية مع أولئك الذين يأخذون علي عاتقهم مهمة تخريب الديمقراطية. فبعض البلدان, مثل ألمانيا, لديها من القوانين ما يجعل من الممكن حظر قيام الأحزاب السياسية التي يتبين من خلال برامجها السياسية أنها مناهضة للديمقراطية. في الماضي كانت القوانين تستخدم لكبح الأحزاب سواء من اليسار المتطرف أو اليمين المتطرف. ولقد ساهم هذا علي نحو واضح في منع أي إشارة تدل علي عودة محتملة إلي أساليب الحكم الشمولي التي سادت خلال القرن العشرين. صحيح أن الديمقراطية من الناحية النظرية هي أكثر النظم رشادة في عملية صنع القرار واختيار السياسات لأنها تسمح بعرض وغربلة الآراء المختلفة ومناقشتها تمهيدا لاختيار الحل الأفضل. ولكن هذا الأسلوب يمكن أن يكون ضياعا للوقت والجهد والموارد إذا تعصبت الأغلبية لأفكارها, وتصبح إهدارا أيضا إذا تفشت بين الأحزاب روح تصفية الحسابات القديمة. كما أن تدخل المال في الانتخابات سحب البساط من تحت الديمقراطية وجعلها ديمقراطية الأغنياء وخاصة بعد القرار الذي صدر مؤخرا عن المحكمة العليا في الولايات المتحدة بتوسيع حرية الشركات في الإنفاق علي الحملات السياسية والمرشحين. بالإضافة إلي أن التعجيل بإرساء الديمقراطية قبل انقاذ الاقتصاد هو ضياع للوقت والجهد وفي المقابل, فحين بذلت المحاولات نحو التحول إلي الديمقراطية في بيئة اقتصادية هشة ومغلقة كانت النتائج أسوأ إلي حد كبير. هكذا أصبح العالم الغربي ديمقراطيا في القرنين التاسع عشر والعشرين. حيث أتي التحرير الاقتصادي أولا, ثم التحرير السياسي لاحقا.
أما بالنسبة للنقطة الثالثة وهي الخاصة بالاستثمار الأجنبي, حيث تغيرت في الماضي أساليب التناول المختلفة للمسائل المتصلة بالاستثمار الأجنبي المباشر, ومن الممكن أن تتغير من جديد في المستقبل, وذلك تبعا لنظرة الحكومات إلي كيفية إيجاد التوازن بين التكاليف والفوائد. ولا يشتمل هذا التوازن علي العوامل الاقتصادية فحسب, بل هناك أيضا اعتبارات أخري مثل الأمن ورغبة كل دولة في التحكم في تنميتها الاقتصادية, الأمر الذي سيؤدي لا محالة إلي النزوع إلي الحماية. ولكن سيكون من قبيل المفارقة علي أي حال أن تتولي الدول المتقدمة الآن قيادة عملية الارتداد عن الاستثمار الأجنبي المباشر بعد أن كانت هي ذاتها قد تولت قيادة موجة تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر خلال العقدين الماضيين, فبموجب القانون الجديد الذي أقره مجلسا النواب والشيوخ يحق للجنة الخاصة بالاستثمارات الأجنبية, فرصة الوصول والحصول علي مراجعات الحكومة ووجهات نظرها بالنسبة للاستثمارات الأجنبية المقترحة التي يمكن أن يكون لها تأثير محتمل علي الأمن الوطني الأمريكي. وتقوم اللجنة بإجراء ودراسة ومراجعة الاستثمارات والتدقيق فيها. ويوسع القانون صلاحية لجنة الاستثمارات الخارجية في الولايات المتحدة بحيث يمكنها مراجعة تملك مشاريع توليد الطاقة والمواني والطرق الخاضعة لجباية الرسوم وغيرها من المنشآت الحساسة. ومن ثم يجب الاقتداء بهذا النموذج لتشكيل لجنة عليا لفحص الاستثمارات المقبلة التي قد تؤثر علي الأمن القومي, وقد بادرت بعض الهيئات الدولية بإصدار تقارير يعتد بها في المجال الاقتصادي تنصح الدول الفقيرة ذات الموارد الغنية بأن أفضل سبيل عملي للدول الفقيرة هو أن تفادي كلية الصناعات الاستخراجية الموجهة صوب التصدير'. وخلاصة القول إن التنمية التي ننشدها ليست عمل الاقتصاديين فحسب وإنما هي عمل كل التخصصات العاملة في المجتمع من اقتصاديين واجتماعيين وتربويين وسياسيين كذلك التنمية تعمل لصالح الإنسان فالإنسان هو هدف التنمية. إن سر نجاح الذي حققته الخطة الخمسية الأولي يرجع إلي التحول نحو مبدأ القيادة الجماعية. لقد عكس الإعلان الدستوري, بشأن التنظيم السياسي للدولة في عام1962 ذلك الأمر باشارته إلي مبدأ جماعية القيادة وضرورة إيجاد مؤسسات جماعية يستند إليها نظام الحكم. وبناء علي ذلك فقد قرر رئيس الجمهورية أن يعطي سلطات منصبه إلي مجلس للرياسة يعتبر الهيئة العليا لسلطة الدولة يتولي رسم سياستها وتخطيط الوصول إليها. وعلي هذا كان لابد من إضافة مواد جديدة في الدستور, فأقرت م/8 من دستور1962 دور مجلس الرياسة الذي يقر السياسة العامة للدولة في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية ويراقب تنفيذها. وأن يتولي المجلس التنفيذي م/10 تنفيذ السياسات العامة للدولة وفقا للقوانين ولما يقره مجلس الرياسة ويمارس جميع الاختصاصات اللازمة لذلك. ومع التغيرات المحلية والدولية التي أصابت كثيرا من القواعد والأسس التي نشأنا عليها, فنحن في حاجة إلي قاعدة توحدنا وتضمنا جميعا من أجل عمل مشترك يضع اللبنات الصحيحة لنهضة مصر ويرسم أسس النموذج المصري للتنمية التي يكون الإنسان هو المحور الأساسي له. فبالرغم من كل الشعارات الكبيرة القومية التي تطرح من أجل مضاعفة الدخل القومي أو زيادة الإنتاج أو تحقيق خطة اقتصادية, إلا أن الإنسان في أي مجتمع يبقي غاية كل ذلك. من أجل هذا الإنسان رحبت كثيرا بالصيغة التي أطلقها كل من عبدالرحمن عوض رئيس مجموعة المركز العربي الإفريقي للتسويق والاستشارات والمهندس عزمي مصطفي لحماية الوطن والرئيس من خلال ما يعرف بالقيادة الجماعية. فيقظة الخطر المحدق بنا تدعونا للتفكير بمنهج حذر' مبدع' علمي' خلاق' لصياغة المستقبل, منهج يراعي أولا وأخيرا مصلحة الوطن والمبادئ والقيم التي لا خلاف عليها, منهج لا يسترضي الآخر ولكن يأمن شره, منهج يكسب مزيدا من الأصدقاء ويحيد الأعداء والمنافسين الحاقدين. فإذا كانت رموز وشيوخ وحكماء الوطن قديما قد اتفقوا عندما أبلغ' عمر مكرم' القائد' محمد علي' برغبة المصريين, وكما اختار مجلس قيادة ثورة يوليو' عبدالناصر الزعيم' فإن الحكمة تقتضي أن نحصن اختيار قائدنا ونؤمن هذا المسار.
تأمين المسار وتحصين الاختيار يتأتي بحماية الوطن من المكائد, وحماية القائد من المصائد, والحل' نظام حكم جماعي' بديلا لمطلب' المجلس الرئاسي', وهذا النظام لن يتعارض مع الدستور, حيث يتقاسم الرئيس مسئولياته التنفيذية مع رئيس وزراء قادر ومؤهل ووطني ومؤمن بقدرات مصر والسلطات التنفيذية كما في الدستور بجانب' رئيس ائتلاف وطني' يجمع الأحزاب المصرية التي تمثل غالبية المصريين والجبهات الشبابية والعمالية والفلاحية التي تستهدف رفعة الوطن, رئيس ائتلاف مسيس, خبير, حكيم, مخلص, مساعد للرئيس. هذه الصيغة تحمي الوطن والرئيس القائد, يتفرغ القائد للمهام الإستراتيجية, وتتوزع المسئولية جماعية علي المستوي الاستراتيجي والسياسي والتنفيذي فتحمي الوطن من مكائد ومصائد الإرباك من الداخل والخارج ويحتار المتآمرون فيمن يستهدفون. وهذه الصيغة الجماعية للحكم للمرحلة المستقبلية تتناسب مع طبيعة الوضع المصري الحالي كما تتناسب مع انتقال العالم من ثنائية قطبية أمريكية- روسية الي آحادية أمريكية- غربية متغطرسة الي جماعية بظهور قوي كمجموعة' البريكس' جماعة وأفرادا. وتشبه هذه الصيغة نظام الحكم القوي والمستقر الثلاثي( رئيس الدولة, رئيس الحزب, رئيس البرلمان) للاتحاد السوفيتي, الذي فور تغيره في فترة الحرب الباردة الي نظام رئاسي أحادي مع جورباتشوف ثم يلتسين سقط الاتحاد السوفيتي, وأخطر ما في هذا السقوط كان استهداف الرئيس الفرد جورباتشوف أو يلتسين بطريقة أو بأخري عجلت بالسقوط. فهذه القيادة الجماعية للمرحلة القادمة غير أنها تؤمن الوطن والقائد فإنها تضمن التنوع والمشورة, كما أنها تحمي مصر مما يسمي' الاحتلال المدني', هذا الحق الذي يراد به باطل, فالمجتمع المدني شريك في المسئولية والسلطة برضاء الشعب, لكنه ليس مقوضا للسلطة أو مخربا للوطن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.