لم أشعر فى تصريح طارق قابيل وزير الصناعة بشأن اعتزام شركة فرنسية كبرى لصناعة السيارات تصنيع بعض طرازاتها فى مصر أن المفاوضات التى جرت خلال الأسبوع الماضى تجاوزت مرحلة النيات الطيبة، ومع ذلك فإن الامر يستحق مزيدا من الاهتمام والحرص وتفعيل “نصف” الفرصة المتاحة وتحويلها إلى فرصة كاملة، فحلم إنتاج سيارة عالمية فى مصر يراود المجتمع الاقتصادى منذ ستينيات القرن الماضى، وعلى الجانب العملى فإن تحقيق هذا المشروع على أرض الواقع يمثل فرصة حقيقية لإنعاش الاستثمار الصناعى الذى يواجه صعوبات واضحة ليس أقلها إحجام المستثمرين المصريين والأجانب عن ضخ استثمارات معتبرة طوال السنوات الماضية للأسباب المعروفة ، ولاشك أن ظهور مشروع حقيقى لإنتاج وتصنيع بعض الطرازات المشهورة فى مصر بغرض التصدير فى المقام الأول سوف يمثل رافعة اقتصادية تحتاجها السوق بشدة لقدرتها على تشغيل مئات المصانع المغذية وتوفير عشرات الآلاف من فرص العمل وإحداث نقلة نوعية فى قطاع صناعة السيارات المحلية تمكنه من اللحاق بالتطور المهم فى هذه الصناعة بدول الجوار فى تركيا والمغرب وإيران. لقد بدأنا حلم صناعة السيارة المصرية منذ نهاية الخمسينيات وشهدت الأسواق عام 1960 أول سيارة جرى تجميعها فى مصر بالتعاون مع شركة فيات الإيطالية تحت اسم نصر 1100، ثم توالى بعد ذلك تجميع سلسلة من طرازات نصر اعتمادا على المورد الإيطالى دون تحقيق قيمة مضافة ذات بال ودون تعميق الإنتاج المحلى بصورة تدريجية تسمح بتوطين هذه الصناعة الحيوية إلى أن انتهى المشروع بالفشل فى التسعينيات بعد أن عجز عن المنافسة على أسس اقتصادية، وتوقف المصنع الضخم الذى أنشئ لهذا الغرض وأصبح هو والعاملون فيه عبئا على الموازنة العامة وعلى الاقتصاد. صناعة السيارات المصرية بدأت قبل مثيلتها الكورية بعدة سنوات، واليوم أصبحت كوريا الجنوبية ثالث أكبر منتج للسيارات فى العالم وتحمل إحدى شركاتها المرتبة الخامسة فى إنتاج السيارات من حيث الكمية وتقوم بتصنيع إنتاجها فى عدة دول موزعة على قارات العالم، فيما مُنيت صناعة السيارات المصرية بالفشل الذى أدى بها إلى الإفلاس فى النهاية. لا أحد يحب البكاء على اللبن المسكوب، ولكن تدارس التجربتين الكورية والمصرية يصبح ضروريا حتى لانكرر الخطأ نفسه مرتين، أو عدة مرات! فى كوريا استعانوا بالتكنولوجيا الأمريكية التى كانت الأكثر تطورا فى العالم ثم إنهم اختاروا بناء الصناعة عبر شراكة مالية وتقنية ضخمة مع الشركة الأمريكية الأشهر فى العالم. وفى مصر كان الخطأ منذ البداية حيث كان يتم المفاضلة بين عرضين أجنبيين للتعاون فى إنتاج السيارة المصرية، الأول من ألمانيا ويختص بإنتاج السيارة الشعبية الأشهر «البيتلز» بالتعاون مع «فولكس فاجن» التى كانت «وحش السوق» فى هذا الوقت، أو إنتاج طراز شعبى من إنتاج فيات الايطالية، ولاسباب معينة تحفظها ذاكرة خبراء صناعة السيارات انحاز الدكتور عزيز صدقى الملقب بابو الصناعة المصرية ومعه رئيس الشركة الاول للعرض الايطالى، وكان هذا هو الخطأ الاول ولكنه لم يكن الوحيد، فلاسباب سياسية وشعبوية كان هناك اصرار على ان يحمل الإنتاج المصرى اسما محليا براقا، وكانت علامة نصر منتشرة فى ارجاء الصناعة المصرية الوليدة كما يتذكر المخضرمون، كذلك انصاع المفاوض المصرى لشروط فيات بأن يكون الإنتاج بنظام الترخيص مقابل دفع اتاوة توريد التكنولوجيا وقيمة توريد المكونات، بدلا من المشاركة الكاملة للجانب الايطالى فى كل تفاصيل المشروع المالية والتقنية، ثم كان الخطأ الكبير محصلة للاخطاء التى ارتكبت فى البداية حيث لم يتسن تصدير الإنتاج المصرى عبر 3 عقود سوى للعراق واليمن وبكميات محدودة للغاية، فلم يكن احد مستعد لشراء سيارة وليدة تحمل علامة تجارية مغمورة ومصنوعة فى بلد نام، وقد كان الامر سيتغير كليا لو حمل الإنتاج علامة الشركة الايطالية التى كانت مشهورة ورائجة فى هذا الوقت، كما فعلت تركيا والمغرب وجنوب افريقيا وغيرهم فى وقت لاحق. فى اليابان وكوريا أدى انغماس الشركاء الاجانب فى صناعة السيارات الناشئة إلى نتائج رائعة كما نرى الآن حيث اصبحت الشركات الاسيوية تنافس وتتفوق حاليا على موردى التكنولوجيا فى البدايات، وقد حدث كل هذا التطور الاقتصادى الهائل فى فترة لاتتجاوز اربعة عقود، وهى الفترة نفسها التى شهدت نشأة وتهاوى صناعة السيارات المحلية، وتحولنا إلى صناعة للتجميع الهامشى. البعض يتحدث عن وجود 15 مصنعا لتجميع السيارات فى مصر، ولن يحتاج الامر الا لزيارة واحدة لأى من هذه المصانع للتيقن من ان ما نراه لايعدو عمليات تركيبات نهائية او «تفنيش» للمنتج النهائى مع الاستعانة، لاعتبارات اقتصادية، ببعض المكونات المحلية مثل الزجاج والفرش وبعض قطع الغيار غير الاساسية. لقد أصبح معروفا فى السوق ان لجوء بعض الشركات العالمية لإنتاج طراز لها فى مصر هو بمثابة عملية التفاف حول الرسوم الجمركية لخفض السعر النهائى، ثم ان أيا من هذه «المصانع» لاتصدر إنتاجها المحلى للخارج بل هو يتم أساسا لتلبية احتياجات السوق المحلى. وقد كان هذا التوجه هو جوهر الخلاف مع شركة جنرال موتورز التى لوحت قبل شهور بوقف مصنعها فى مصر بسبب مشكلات النقد الاجنبى رغم ان الشركة لو كانت تصدر بعض سياراتها للخارج لكان لديها مايكفيها من دولارات لفتح الاعتمادات الاستيرادية لتمويل مكونات الإنتاج من مصانعها الام، وهذا هو ما يحدث مع كل صناعات التجميع الضخمة للسيارات التى تنتج طرازات مشهورة فى بلاد لا صلة لها بمنشأ الشركات العالمية المشهورة، ويتم هذا الإنتاج بشروط مختلفة الا انها تتفق فى الجوهر على تعميق التصنيع المحلى حتى ولو بصورة تدريجية لتعظيم الفائدة الاقتصادية من وجود هذه الصناعة فى الدول الباحثة عن النمو الجاد والسريع. أكثر من نصف قرن مرت على نشأة صناعة السيارات فى مصر وكانت الحصيلة محدودة للغاية، ولكن كانت هناك حصيلة ما فقد اصبح لدينا عدد مهم من الصناعات المغذية وبعضها يصدر إنتاجه للخارج، كما اصبحت لدينا درجة ما من المعرفة بفنون هذه الصناعة بما فى ذلك اقسام لهندسة السيارات بالجامعات ومعاهد لاعداد الفنيين العاملين بهذه الصناعة وهذه كلها بالاضافة إلى الموقع الجغرافى والقرب من الاسواق المستهلكة تمثل مزايا تراكمية تجعل من مصر مكانا مثاليا لتوطين صناعة السيارات وتتحقق فيها مصالح الاقتصاد الوطنى مع مصالح الشركات العالمية التى تفرض التغيرات الاقتصادية عليها ان تبحث عن نقاط لإنتاج سياراتها اقل تكلفة واقرب لنقاط تسويق واستهلاك هذه السيارات. لو كان الامر يتعلق بالاعتبارات الاقتصادية ولغة المصالح لكنا سبقنا كثيرا من الدول حولنا فى مجال توطين صناعة السيارات ولكان لدينا إنتاج يتراوح بين 3 و5 ملايين سيارة سنويا مع ما يعنيه هذا من نهضة صناعية وتنموية نتطلع اليها منذ زمن . الان تركيا تنتج 3 ملايين سيارة سنويا وإيران وهى تحت الحظر كانت تنتج 1.6 مليون سيارة سنويا وتتطلع الان لمضاعفة الرقم بعد رفع الحظر، والمغرب التى لم تعرف صناعة السيارات الا قبل سنوات قليلة توشك على بلوغ رقم المليون سيارة منتجة محليا وتصدر إلى الشرق الاوسط وافريقيا واوروبا. وفى الكواليس السياسية يتردد ان اكثر من شركة عالمية حاولت خلال السنوات العشرين الاخيرة جس النبض فيما يتعلق باعتماد مصر نقطة لتجميع منتجاتها والتصدير لاوروبا وافريقيا، ولكن هذه المحاولات لم تكتمل لاعتبارات بعضها يتعلق بكفاءة القوانين والمفاوضين.. وبعضها يتعلق بالفساد! الحقيقة الاساسية ان المناخ الاقتصادى فى بلادنا مناسب تماما لتوطين هذه الصناعة، وعلى الجانب الاخر تبحث الشركات المصنعة لا سيما الاوروبية عن طرق لخفض تكلفة الإنتاج المرتفعة هناك للاستمرار فى المنافسة مع السيارات الاسيوية المتألقة. وبالنسبة للفرنسيين فقد جربوا المغرب ونجحوا هناك وتمكنوا من تحديد اسعار منافسة لإنتاجهم المغربى، ولاشك ان السوق المصرى أكثر إغراءً سواء من حيث التاريخ والخبرة او كفاءة العمالة ورخص تكلفة الإنتاج فضلا عن قناة السويس والعناصر الجغرافية المعروفة. بقى فقط ان تدار المفاوضات بكفاءة وعقلانية حتى يمكن التوصل إلى اتفاق مع التسليم ان الفرنسيين مفاوضون من طراز صعب ويعرفون حجم المزايا التى ستعود على السوق المصرية جراء نقل نقطة تجميع ضخمة لسياراتهم إلى احدى المدن المصرية . شرطان فقط يجب على المفاوض المصرى ألا يتنازل عنهما مع الفرنسيين او اى من الشركات الاخرى التى يمكن ان تنجذب للعمل فى مصر اولهما ان تخصص النسبة العظمى من الإنتاج للتصدير، والثانى ان يصل حجم الإنتاج فى السوق المحلى إلى مليون وحدة فى اسرع وقت ممكن، فقد كان حجم الإنتاج المتواضع هو مقتل شركة النصر للسيارات. نحن لسنا فى حاجة إلى مزيد من الصناعات التجميعية بالمعنى الذى نراه الآن فى الخمس عشرة شركة التى تركب إنتاجها محليا، ولكننا فى حاجة إلى شركة كبرى قادرة على ضخ استثمارات كبيرة تنشئ بموجبها سلسلة مصانع قادرة على إنتاج مكونات جوهرية فى السيارة محليا ثم بعد ذلك تضع علامتها التجارية على المنتج النهائى «السيارة» وعلى أطرافها عبارة صنع فى مصر. نجاح تجربة شركة سيارات واحدة فى مصر سوف يغرى الآخرين بالقدوم كما حدث مع تايلاند والهند وجنوب إفريقيا وهنا سيتحقق الحلم .. ولو كان متأخرا 60 عاما.