عبد الرحيم رجب عزيزي القارئ كم رأيت من الأشخاص عبر حياتك فشعرت نحوهم بمشاعرٍ سلبيّةٍ أو إيجابيةٍ منذ الوهلة الأولى لرؤيتهم؟! وبمرور الوقت يتأكد لك صدق إحساسك ومشاعرك تجاه هؤلاء الأشخاص؟! كيف وأنت لم تراهم قبل ذلك؟! وكيف لك أن تحكم عليهم وأنت لا تعرف عنهم شيء؟! إنها الفِرَاسَة؛ نعرِفُ بها بواطن الأشياء من ظواهرها، ونستدلل بها على الصفات الداخلية للإنسان من خلال تكوينه الخَلْقي ويكون ذلك بالبحث في ظواهره الخارجية، وبالتالي نستطيع التوصل إلى سلوكيات الفرد ورغباته وردود أفعاله ونظرته للأشياء وكل ما يصدر عنه من تصرفاتٍ وسلوكياتٍ سلبيَّةٍ كانت أم إيجابية، وبذلك نصل إلى دوافع هذه الأفعال في شخصية هذا الفرد. وقسم العلماء الفراسة إلى ثلاثة أنواع: 1- فِراسَة إيمانية: وهي عبارة عن نور يقذفه اللَّه في قلب عبده، يُفرِّقُ به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب، فهي عبارة عن خاطر يهجم على القلب، ينفي ما يضاده، فيثب على القلب وُثُوبَ الأُسْد على الفريسة، وتكون هذه الفِراسَة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيمانًا، كان أحدُّ فِراسَة، وعن كيفية الوصول لهذه الفِراسَة قال العلماء: من غضَّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمّر باطنه بالمراقبة، وظاهره باتباع السُّنة، وتعوّد أكل الحلال، لم تخطئ فراسته. وكان الصديق أبو بكر أعظم الأمة فِراسَة، ومن بعده عمر بن الخطاب، ووقائع عمر في الفِراسَة كثيرة ومشهورة، منها موافقتُه للوحي في الكثير من المواضع، فلقد نزل الكثير من آيات القرآن الكريم موافقًا لرأي الفاروق عمر، وعن ذلك يقول ابن عمر: "ما قال الناس في شيءٍ وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر". 2- فِراسَة الرياضة: وتكون بالجوع، والسهر، والتخلي، فإن النفس إذا تجردت عن العوالق صار لها من الفِراسَة والكشف بحسب تجردها، وهي فِراسَة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على قوة الإيمان ولا على الولاية من الله، وكثير من الناس اغتر بها، ويكون كشفها جزئي، وأشهر من يتصفون بها هم القادة، ورجال الشرطة، وأصحاب تعبير الرؤيا، والأطباء، فجزء من عملهم يقترن بالفِراسَة مقرون بها التجربة والخبرة. 3- الفراسة الخَلْقية: وهي التي اجتهد فيها العلماء وكتبوا فيها العديد من المؤلفات؛ فاستدلوا بالخَلْق على الخُلُق؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة اللَّه، فاستدلوا بصغر الرأس على صغر العقل، وبكبره على كبر العقل، وبسعة الصدر على سعة خُلُق صاحبه، وقوة احتماله وبساطته، وبضيقه على ضيق خُلُقه وهكذا في باقي الصفات الجسدية، ومن أشهر المواقف المروية في ذلك ما روي عن الإمام الشافعي حين قال: خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفِراسَة، حتى كتبتها، وجمعتها، ثم لمّا حان وقت انصرافي مررت على رجلٍٍ في الطريق، وهو مُحتبٍ بفناء داره أزرق العين ناتىء الجبهة سنّاط، قال الشافعي: وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة –وهو يدل على البخل وسوء الخُلُق- فقلت له: هل من منزلٍ؟فقال: نعم،-فتعجب الإمام الشافعي!!-، ويقول: فرأيته أكرم ما يكون من رجل، بعث إليَّ بعشاءٍ، وطيبٍ، وعَلفٍ لدابتي، وفراشٍ، ولحافٍ!!، فلم ينم تلك الليلة الإمام الشافعي؛ لأنه على حسب الكتب التي كتبها وجمعها وظل يدرسها لمدة ستة أشهر والتي تقول ببخل وسوء خُلُق هذا الرجل!! وهو لم ير منه إلا كل خير، فانتهى الإمام الشافعي بعد طول تفكيرٍ إلى إن يُلقِى بهذه الكتب التي جمعها عن الفِراسَة فهي لا تَهدِي إلى خيرٍ أو صواب، فلما أصبح ركب فرسه ومرَّ عليه، وقال: إذا قدمت مكة، فاسأل عن محمد بن إدريس الشافعي، فرد الرجل عليه، وقال: أمولى لأبيك أنا؟! –أي: خادم إبيك- ، فيرد الشافعي، ويقول: لا،فيقول الرجل: فهل كانت لك عندي نعمة؟! –أي: هل أنت من أصحاب الفضل عليّ-، فيرد الشافعي، ويقول: لا، فيقول الرجل: أين ما تكلفته لك البارحة؟فيقول الشافعي: وما هو؟فيقول الرجل: اشتريت لك طعامًا بدرهمين، وإدامًا بكذا، وكذا، وعطرًا بثلاثة دراهم، وعلفًا لدابتك بدرهمين، وكراء الفرش، واللحاف درهمان!!ولم يكتف ذلك الأعرابي بما أخذ بل طلب أجرة لاستضافته في بيته، قائلًا: فإني قد وسَّعتُ عليك، وضيَّقتُ على نفسي،فأعطاه الإمام الشافعي كل ما طلب من مالٍ، وقال له هل بقي من شيء؟ فيرد الرجل على الشافعي، ويقول: امض أخزاك الله، فما رأيت قط شرًّا منك!! ويقول عن ذلك الشافعي: "فغبطت بتلك الكتب"، أي: لقد فرح بها لأنه أيقن أنها على صواب. كيف تكتسب الفِراسَة؟ · تكتسب الفِراسَة بمراقبة الإنسان لله تعالى في جميع أحواله. · التقرُّب من الله تعالى واتِّباع تعاليم شرعه الحنيف. · اتِّباع هدي وسنة النبي –صلى الله عليه وسلم-، في جميع أقواله وأفعاله. · أكل الطيب من الرزق؛ وهو حلاله. · تطهير الإنسان لظاهره وباطنه. · صحبة الصالحين والتعلم من سيرة السلف الصالح. · تعلّم العلوم الشرعية؛ فالعلم نور ونور الله لا يهدى لجاهل. · غض البصر، والتخلُّص من أمراض القلوب كالحقد والحسد وغيرها. فوائد الفِراسَة.. · الفِراسَة تساعد على معرفة صفات الآخرين وكيفية التعامل معهم بكل سهولة ويُسر. · الفِراسَة تفيد صاحبها في حكمه على الشخصيات المحيطة به. · الفِراسَة ندرك بها كل ما نفعله ويفعله غيرنا من أفعال إيجابية أو سلبية ومعرفة أسبابها ونتائجها. · الفِراسَة تجعل من صاحبها قائدًا ، متميزًا. · الفِراسَة تسهل على صاحبها سهولة تعلُّم الأشياء والتطوير من نفسه دائمًا.