لا يختلف اثنان في أن أكثر الناس «رفضا» لأحقية نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب، هو المرحوم الدكتور يوسف إدريس، الذي أعلنها صراحة أمام الملأ: «أنا أولى منه..» وتساءل الناس عن السبب الذي جعل سيد القصة العربية يخرج عن وقاره ولا يكظم غيظه، وبدل أن يفرح الناس لفوز محفوظ صاروا يطاردون إدريس، وهكذا استطاع صاحب «الفرافير» و«النداهة» و«جمهورية فرحات» أن يقتسم الحدث مع «سي السيد». وأذكر أنني كنت مدعوا إلى مهرجان المربد الشعري ببغداد في نهاية حرب الخليج الأولى 1988، مع وفد من شعراء الجزائر، وكانت رحلتنا (الجزائر- باريس- بغداد) ذهابا وإيابا.. وفي عاصمة الرشيد المنتشية بانتصار ثمنه مليون قتيل، كان أبرز المدعوين يوسف إدريس الذي مُنح جائزة صدام مناصفة مع جبرا إبراهيم جبرا، واعتبرها الإعلام آنذاك تعويضا له عن خسارة نوبل. كان الصحفيون، وكنت واحدا منهم، يطاردون يوسف إدريس من مكان إلى آخر طمعا في حوار أو تصريح، بينما كان رحمه الله يتمنع ويرفض الإدلاء بأي تصريح في موضوع الجائزة وموقفه من محفوظ... ولأن الله وهبني شيئا من الفطنة والحيلة ، فقد اهتديت إلى فكرة، فاتصلت بمُرافق وفدنا، السينمائي طالب عبد الأمير وقلت له: “هل يمكنني أن أبدل بطاقة سفري من (بغداد- باريس- الجزائر) إلى (بغداد – القاهرة–الجزائر) يوم الثلاثاء على العاشرة ليلا"، فقال: “ماكو مشكل عيني.."، ودون أن يعلم أعضاء وفدنا حزمتُ أمتعتي، ولم أخبرهم بالأمر سوى قبل ثلاث ساعات من الرحلة ودون أن أذكر لهم سببا لذلك.. أما السبب فهو وجود الدكتور يوسف إدريس في الرحلة نفسها، وكنتُ سألتُ عن تاريخ سفره من هيئة التنظيم، ومن حسن الطالع أنني وجدتُ نفسي وحدي معه في القاعة الشرفية، فاقتربت منه، وسلّمت عليه ثم قدمت نفسي له: “أنا صحفي جزائري احتال على زملائه ليظفر بالكاتب الكبير يوسف إدريس طمعًا في إجراء حوار معه لجريدته “الشعب" الجزائرية.." فابتسم وقال لي: “ومن قال لك إنني سأقبل بإجراء حوار معي؟.."، فصمت ثم قلت له: “حلم وأردت تحقيقه.."، فابتسم ثانية وقال لي: “ما دمت صادقا فيما تقول، سيكون لقاؤنا في الطائرة.."، فشعرتُ بسعادة كبيرة، إذ إنني قبل شهر حاورتُ نجيب محفوظ واليوم أحاور “غريمه" وهو أمر لا يمكن تحقيقه بسهولة.. قبل أن نصعد الطائرة جاء أحد موظفي أمن مطار بغداد، وأخبرنا بأن هناك أمورا يمنع نقلها على متن الطائرات، كالولاعات والبطاريات، ففزعت من مكاني، ثم تمالكت نفسي لأنني لن أجريَ الحوار دون بطاريات في المسجّل.. فما كان مني إلا أن وضعت بطارية في كل جورب، وتوكلت على الله، ولأن نيتي صادقة جدا لم ينتبه أحدٌ إلى ذلك، وتمكنت من نقل مادة ممنوعة على متن الخطوط العراقية أيّام صدّام، والحمد لله أنّ ذلك وقع في زمن لم يكن فيه شيء اسمه القاعدة.. ولا قاعدة الرافدين. جلستُ إلى جانب الدكتور يوسف إدريس وسحبت البطاريتين من جواربي وهو ينظر إليّ ضاحكا، ثم قال لي: “أمامنا ثلاث ساعات سل ما شئت.."، وبدأنا الحوار من ذكرياته مع الثورة الجزائرية وهو ما كنت أجهله، برغم إدراكي لموقف مصر التاريخي، إلى أن وصلنا مسألة جائزة نوبل، وكيف حُرم منها، وكان موعودا بها، إذ عملت هيئة “بروتا" للترجمة، التي تديرها الدكتورة سلمى خضراء الجيوسي، على نقل أعماله الأدبية إلى اللغات الإسكندنافية ودارت حولها نقاشات جمة، أهلته لأن يكون المرشح الأول لهذه الجائزة التي لم يسبق أن نالها الأدباء العرب قبل 1988. كان يتحدث بهدوء أحيانا وبعصبية أحيانا أخرى، وبكثير من الحكمة عندما يدرك أن طلقة نوبل خرجت ولن تعود.. فرحت كثيرا بالحوار الذي امتد إلى قضايا مختلفة، وعندما وصلنا إلى مطار القاهرة فاجأت الدكتور إدريس بأنني لا أملك تأشيرة دخول الأراضي المصرية، وهذا سيعرضني إلى متاعب كبيرة، ورجوته أن يتدخل، فقال لي: “سأحاول.." غير أن المفاجأة كانت عندما قدمت جواز سفري لشرطة الحدود بمطار القاهرة الدولي، إذ نظر إليّ الشرطي وسألني عن التأشيرة، فأجبته بأنني لم أتمكن من تحصيلها في بغداد لضيق الوقت، فابتسم وقال لي :"يمكنك أن تدخل، لأن التأشيرة بين مصر والجزائر أزيلت اليوم، وأنت أول من يدخل دون تأشيرة"، فعلق الدكتور يوسف إدريس: “يا ابني أنت محظوظ.."، فعقبت بسرعة بداهة: “لكنني لست محفوظ !! “، ثم ودّعته وأنا أزداد سعادة.. عدت إلى الجزائر ونشرت الحوار على ثلاث حلقات، وجد فيها الجمهور الشيء الكثير من المتعة والفائدة والإثارة.. وحدث أن قام صحفي عربيّ بالسطو على الحوار كاملا ونشره في إحدى المجلات بأوروبا دون أن يذكر المصدر، ولم أكن على علم بذلك، حتى علمتُ من كاتب جزائري مقيم في القاهرة، أنّ الحوار وقع في يد الدكتور يوسف إدريس، فكتب مقالا بدأه بالجملة التالية: “هذا حوار أدليت به لصحفي جزائري ناشئ، طاردني في الأرض فوجدني في السماء.."، ورفع دعوى قضائية على المجلة السارقة وكسب القضية مع اعتذار له، ولي أيضا، ورحم الله من أسماها مهنة المتعة.. والمتاعب.