زينب هاشم شارك نزار قبانى خلال تاريخه الفنى فى جلسات عمل كثيرة وحلقات نقاش حول أعمال فنية تركت بصمات واضحة عبر السنين، وما زالت علامات مميزة فى عالم الغناء العربى، وما بين اتفاقات واختلافات وآراء تثرى وتعلى الأعمال الفنية المختلفة دارت حوارات وجلسات نزار، وعدد من رموز الغناء مثل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ والفنان كاظم الساهر وحوارات مع مذيعات وحلقات كانت لها تأثير كبير على الجمهور العربى، واستطاعت أن تعطى صورة واضحة للجمهور العربى من هو الشاعر العظيم الذى كان شعاع ضوء فى حياة العاملين والمتعاملين معه على مر التاريخ؟
من بين جلسات العمل التى جمعت بين الراحلين نزار قبانى والعندليب كانت قصيدة قارئة الفنجان، والتى حاوطتها وجهات نظر متفرقة، ووجهت لها الانتقادات وهو كان مضمون الجلسة النقاشية التى تمت بين العملاقين، وجهة نظر حليم عنها قائلا إننا أعطينا انطباعا بأن هناك أبياتا مكسورة فى هذه القصيدة، وأن هناك انتقادات وجهت للقصيدة بينما أنا رددت عليها ومن جانب قبانى أجاب قائلا: إن القصيدة تعرضت لكثير من الشوائب وقد أرسلتها لك عام 1973، وطلعت للنور عام 1976 واشتغلنا عليها عبر الهاتف بين القاهرة ودبى، وكان الناتج أن هناك لعبة لعبتها بالقصيدة كانت لدوافع موسيقية ساخية وأنا احترمت رغباتكم، لكننى أعتقد أن القصيدة لم تكن كذلك بالأصل، وقلت لك ذلك عندما كنت فى دبى وقلت أيضا إنني أخشى أن تخسر القصيدة لاختلافها عن التشكيل والبنية الأولية لها. ويضيف قباني، خصوصا أنه أثير حول قارئة الفنجان كلام كثير ولغط أيضا، ربما كان ذلك لخطأ منا فى ترتيب اللحن، مما جعلنا نعطى انطباعا بأن هناك شيئا غير واضح أو مكسور فيه، لكنكم اختلفتم معى فى الرأي. وأنا احترمت رغباتكم وتركت القصيدة كما كانت من قبل، وقلت لك يا عبد الحليم أنا خفت القصيدة تخسر لأنك فنان تعلم أن القصيدة هى التشكيل الأول للعمل الفنى، وأنها هى بنيتها الأولية والقصيدة والدفقة التى تتحكم فى العمل، وذلك عكس اللحن الذى ما هو إلا عمل صناعى يأتى عليه فى الآخر لأى سبب سواء كان فنيا أم تلحينيا، وبالفعل أنا كنت ضد التغيير من الأول، لكننى استجابة لرغباتك ورغبات الموجي وكان رد العندليب قائلا: هناك أناس يأخذون المعنى السطحى للكلام، وهناك من يقول إن الأستاذ نزار قصد المعنى السطحى للكلام، والبعض يقول إن نزار يتكلم فيها عن حرية الإنسان، وأن الإنسان يأتى الدنيا ويرحل عنها ولا يأخذ منها شيئا حتى حريته، فلا يستطيع أن يأخذها فى أى مكان أو فى أى زمان. وكان رد قباني: أنت تعرف يا عبد الحليم أن قيمة الفن والقصيدة عندما تخرج من الشاعر تخرج من يده تماما وتصبح ملك الناس، وكل واحد يفكر ويفسر فيها على كيفه، وأنا لا أزعل من ذلك، وكما يقول المتنبى أنام ملء جفونى على جوارحها ويسهر الخلق جراها. من حسن حظ القصيدة أن الناس ليسوا كلهم بنفس الرأى، فوارد من فسرها على أنها مفهوم الحرية، ومن الناس من فسرها على أن المرأة مستحيل التى لا تطال والتى ليس لها وطن أو أرض أو عنوان، وكل ذلك صحيح، وكل واحد يأتى ويفسر من وجهة نظره، وكل ذلك مظبوط، وهذا غنى للقصيدة وليس تقليلا لها، وقاطعه العندليب قائلا: أنت تعرف أن جماهيرنا العربية تحب أن يفسر الشاعر أو المغنى كل شىء، وقاطعه نزار لكنها ليست وظيفتها، كذلك أنا أكتب وأنت تغنى، وكل واحد بالنسبة لدوره الثقافى ولأعماقه الداخلية هو الذى يفسر، والدليل على ذلك أنه يدخل معرض لوح لبيكاسو ورينوار عشرات الآلاف من المشاهدين كل واحد يرى الصورة من وجهة نظره، وهل لك أن تتصور أن ما يحدث عندما تغنى القصيدة، بأن هناك آلاف المستمعين فى العالم العربى كلهم يسمعونك وبالتأكيد كلهم ليسوا بنفس المفهوم الثقافى والفكرى . وما كان لحليم إلا أنه استسمحه بأن يوجه له سؤاله مستفسرا: وهل ترى أن محمد الموجي كملحن استطاع أن يصور كلماتك، كما أحسست بها وكنت تقصدها، وأجابه قبانى: طبعا نجح فى ذلك جدا، وكذلك بدا تعبك يا حليم وحبك للأغنية، لكننى أرى أيضا أنه كان لابد للحن أن ينضبط أكثر من ذلك، حتى وإن خرج مع الموجي بهذا الشكل، وبالفعل كان شيئا عظيما جدا، وأصبح بالفعل العمل متكاملا، واختتم قبانى وحليم حوارهما بهذا النقاش حول قارئة الفنجان، وكيف كان من الممكن أن تخرج بشكل أفضل لو اتفقا الجانبان فى نفس الرأي. ومن العندليب إلى كاظم الساهر الذى جمعته أيضا جلسة عمل أخرى بنزار قباني حول قصيدة أشهد، حيث جلسا يغنيان منتشيين يردد قبانى أبيات قصيدته إلا أنت التى غناها الساهر، لكن قبانى اصطفى منها أربعة أبيات كان يراهم الملخصة لملاح وأهداف الأغنية وهي نوارة عمري، مروحتي قنديلي بوح بساتيني مدى لى جسراً من رائحة الليمون وضعينى مشطاً عاجياً فى عتمة شعرك وانسيني أنا نقطة ماءٍ حائرةٌ بقيت فى دفتر تشرين زيدينى عشقاً زيديني يا أحلى نوبات جنوني من أجلك أعتقت نسائي وتركت التاريخ ورائي وشطبت شهادة ميلادي وقطعت جميع شراييني فانا من بيت التكوين ابحث عن وطن يجابيني عن شعر امرأة يقتلنى فوق الجدران. مؤكدا قبانى رأى الراحل محمد عبد الوهاب الذى لا يريد لعمل فنى أن يقف، وكانت جملة عابرة بين الجمل بعدها قضى الساهر وقبانى جلساتهم يتحدثون عن هذه القصيدة، وكيف كانت من وجهة نظرهما، وبالفعل شهدت هذه القصيدة تحديدا جلسات عمل كثيرة بين الراحل والفنان كاظم الساهر، خصوصا أنه كان يبحث من خلالها عن حرية المرأة وملامحها وشعرها وليست فقط هذه القصيدة التى شهدت اهتماما بالغا، بينما أيضا شهدت قصيدة زيدينى عشقا نفس الاهتمام، فكانا يجلسان يغنيان ويشعران بكلمات القصيدة، وقصائد أخرى لقبانى التى كانت لها الفضل الأول والأكبر فى مرور كاظم الساهر واختراقه لقلوب جماهيره الكبيرة. كما جمعت أيضا قبانى لقاءات وسهرات كثيرة بإعلاميين كانت من بينها لقاء حمل عنوان لقاء ينير القلوب والعقول وبين الحق بحثا عن الحقيقة، وهو المضمون الذى حاورت الإعلامية كوثر البشراوى قبانى حوله، حيث بدأت حوارها معه قائلة: أنت شاعر قاتلت خمسين عاما من أجل الحب والحرية والحقيقة، فهل بلغت مناك؟ وأجابها قبانى قائلا: وظيفة الشاعر أن يغير العالم، وفى كل مرة أشعر أننى قتلت الخرافة وليس لى سوى مطلب واحد وهو الحق والحقيقة. بعدها تحدث قبانى بتمعن عن بلدته سوريا قائلا: أتيت من دمشق العاصمة العابقة بكل عطور المجد والحقيقة، فهى دمشق الرحم الأول الذى تشكلت فيه وتشكلت فيه أبجديتى، وقد لعب بيتنا فى سوريا دور البطل فى قصائدى، لأنه أعطانى كل المواد الأولية التى ساعدتنى على أن أكون شاعرا، كان بيتنا فى دمشق خرافة لا تحدث إلا فى الخيال، ومن يعرف سوريا وضواحيها وقراها يعرف جيدا معنى السكنى فى قارورة العشق فى أعماق الأحياء الشعبية، ويكفى أن تبدأ حياتك بسيمفونية الأبيض والأحمر والماء وهديل الحمائم والياسمين والفل، وكل الظروف الملائمة للعشق، فهذا البيت كان الأساس فى شاعريتى أعطانى عدة ألوان وقال لى ارسم لوحة. ويمضى قبانى فى الحديث قائلا: الحقيقة أن دمشق تلاحقنى، حيث ذهبت ورائحة الياسمين لا تزال حتى الآن تتكمش فى ثيابى وقصائدى، والشاعر حتى يبدع لابد أن تتوافر له المواد الأولية أولها أمى التى كانت تشبه وزيرة الزراعة، كان عندها كل أنواع الزرع، فكان لديها خمسون صفيحة، فهل هى ثروتها القومية ورثت عنها هذه الصفة وهى حب الجمال والعشق؟ أما أبى فى الحقيقة فكان طليعيا وتقدميا كان رجلا متميزا فى عينيه، كنت أرى فيروز البحر وجنون العاصفة، كان مزيجا من الماء والنار، أخذت عنه هذه الصفة المتطرفة، إما أن أكون ماء أو نارا وليست منطقة وسطى، أبى كان يصنع الحلوى والثورة، إضافة إلى عمله فى المصنع كان بيتنا مركزا الملبس والسكاكر، الذى كان يملكه كان مركزا للتجمعات الشعبية، وكذلك ورثت عن أبى المهنتين صناعة الحلوى والثورة، كما أنه كان دائما ثائرا فى شعرى.