محملاً بإحساس كبير بالتقصير وفضول وطموحات أكبر، قمت بزيارة الواحات البحرية الساحرة، بدعوة كريمة من الشاعر عبده الزراع، مدير عام ثقافة الجيزة، للمشاركة فى مجموعة ندوات وعروض أدبية وفنية لأهالينا سواء فى المدينة العمالية بمناجم الحديد والصلب، أم فى الواحات الأم التى تبتعد عنها حوالى 40كم، وبعيداً عن تثمين هذا التوجه الجديد للثقافة الجماهيرية فى عهد سعد عبدالرحمن ومجموعة المثقفين الراقية التى تعاونه فى مختلف الإدارات ومنهم إضافة إلى الزراع الشاعر محمد أبوالمجد والروائى والباحث فؤاد مرسى وغيرهم، هذا التوجه الذى يعتمد على النزول إلى المواطنين البسطاء فى أماكنهم والتفاعل الحى معهم مباشرة بعيداً عن الغرف المغلقة والمكاتب المكيفة، ومهرجانات الحظيرة (إياها) فإن الزيارة أثارت قضايا جارحة عديدة، تمس المقومات الرئيسية لهذا الوطن، فإذا كان مربع مقومات الدولة المصرية فى الجمهورية الثانية هى المقومات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية والأمنية، والاجتماعية، فإن الأخيرة هى أهم أضلاع هذا المربع، بل قاعدته الأساسية لأن المقومات الاجتماعية وفى القلب منها الثروة البشرية هى التى يتوقف على كفاءتها وقدراتها العلمية والصحية والإبداعية والأخلاقية ومنظومتها القيمية، نجاح المقومات الثلاثة الأخرى لكن مع الأسف أكدت زيارتى للواحات البحرية أننا لانزال نتعامل بذات الذهنية العقيم والتى تستوفى الشكل التنموى دون المضمون، وتغرق فى الاستثمار فى الحجر على حساب الإهمال الجسيم للبشر، ففى المحطة الأولى للزيارة وهى مدينة عمال مناجم الواحات للحديد والصلب فوجئت بجدران ومساحات أراضى ومساكن أسمنتية غنية جداً مقابل خدمات لبشر هذه المساكن فقيرة جداً، ولا أتصور كياناً اقتصادياً بهذه الضخامة وهذا الثراء يترك برك المجارى تغرق مساكن العاملين، ولم يسلم منها حتى بيت الثقافة الذى لا يمكن الوصول إليه إلا عبر معابر خشبية، إلى حد أن المدينة بكاملها أصبحت مستنقعاً يمرح فيه أشرس أنواع البعوض والحشرات الناقلة للأمراض، ولا أفهم حتى الآن كيف ونحن فى القرن الحادى والعشرين يشرب المواطنون مياهاً حمراء أحياناً وصفراء أحياناً أخرى، وسوداء دائماً بسبب تلوثها بالمعادن الثقيلة مثل الحديد والفوسفات والنتيجة المؤكدة هى انتشار الفشل الكلوى وغيره من الأمراض الخطيرة بسبب تلوث المياه التى يفزعك مشهدها فور أن تفتح صنابير المياه فى البيوت، أما المحزن فعلاً فهو انتشار أكوام القمامة التى تدمر مساحات خضراء ليست قليلة، فضلاً عن عدم وجود وسيلة مواصلات واحدة لنقل الآلاف من سكان المدينة إلى الواحات وعليهم الاختيار المر بين أن يلقوا حتفهم وهم يحاولون إيقاف السيارات المقبلة من القاهرة على هذا الطريق الخطر كثير المنحنيات أو يحاولون قطع المسافة سيراً فى ظلام الطريق الدامس!! ولم يكن الوضع فى الواحات المدينة أحسن حالاً، فبالرغم من جمال المكان الساحر، وغناه بطبيعة فاتنة وكنوز أثرية نادرة، والأهم بمواطنين هم نموذج راق فى كرم الضيافة ونبل الخلق وحسن استقبال الضيوف، لكن ذلك كله لم يشفع لدى المسئولين عن الواحات فى حل مشاكلها وفى مقدمتها انتشار العمارة الأسمنتية القبيحة، والبناء العشوائى مما يهددها كمزار سياحى عالمى، كما أن صمت الأجهزة المحلية على تعديات بعض الأهالى على العيون الكبريتية والمزارات الأثرية يهدد بكارثة حقيقية لا تستطيع مصر تعويضها فضلاً عن تبوير مساحات واسعة من الأراضى الزراعية والسماح لبعض الشركات ولرجال الأعمال بالسيطرة على مساحات واسعة من أراضى الواحات دون تقنين قانونى، مما يضيع على الدولة ملايين الجنيهات، أما الأخطر فهو انتشار كابلات الكهرباء العارية وغير المطابقة لمواصفات الأمان مما يودى بحياة المواطنين ويتسبب فى الانقطاع المستمر للكهرباء إضافة إلى أزمات ما كنت أتصور أن أشاهدها فى الواحات البحرية من قبيل سوء رغيف الخبز والنقص الشديد فى السولار والبنزين وسوء حالة المستشفى الوحيد بها وغيرها من مشاكل. إن الواحات البحرية لو كانت فى دولة مثل إسبانيا لجعلت منها مزاراً عالمياً يجذب الملايين سنوياً، لكننا اكتفينا بجعلها مزاراً لجيوش البعوض وجبال القمامة وكأن ثورة لم تقم، وأرواحاً زكية لم تبذل، من أجل أن نعيد بناء مصر، المواطن والدولة، وإلا لكلف محافظ الجيزة نفسه، وقام بزيارة ميدانية إلى الواحات البحرية التابعة له، ليتفقد على الطبيعة أحوال مواطنيها، وإن كنت أنا شخصياً أعذره، فلربما سيؤدى واجب الزيارة عقب إصلاح الطريق الخطر، وردم برك المجارى ودعم المستشفى حفاظاً على سلامته، وعلى أهالى الواحات أن يقدروا هذه التضحية الغالية من سيادته وإلا ففى جبال الواحات متسع كبير للرءوس.