محمد هلال ضع أذن روحك على قلبك، فإن وجدته يرقص فاعلم أنه عامر بالحب، فليلة فى حضرة مولانا الحب - مولى القلوب - تعدل عمرا كاملا، وربما يزيد. وقديما قال الشاعر مخاطبا خالق القلوب ومقلبها: خلقت الجمال لنا فتنة وقلت أيا عبادى اتقون وأنت جميل تحب الجمال فكيف عبادك لا يعشقون
فالحب هو ماء السماء، به تربو الأرض وتهتز ويعظم حمل بطنها كما قال ربنا: «اهتزت وربت»، اهتزت فرحا وربت عشقا، حبلى بالخيرات من نباتات وورود وزهور ليسكر كل مخلوق فيها ويلتذ بذكر ربه، فكل شىء يسبح بحمده، فالحب أجنحة العاشق لنور محبوبه، يدور حوله كالفراشات حول ضياء النار. ترى هل هناك تعريف جامع مانع للحب، به نعرفه ونحيط بسره؟ لا أعتقد ذلك، فهو إن شئت جميل وجمال للبشر والحجر والمدر والبحار وما بها والأشجار وما عليها، والسماوات وما فيها.
وهو أيضا عذب العذاب ورائع الألم، وعلى رأى الشاعر الحنون المجنون كامل الشناوى، مؤلف أغنية «لا تكذبى إنى رأيتكما معا»: الحب جحيم يطاق، والحياة بدون حب نعيم لا يطاق.وما أخرج أبانا آدم من الجنة إلا الحب، لكنه الحب المحرم، حب الخلود كما أوهمه الشيطان.
ويدهشنا ما قال الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، بأنه لا فرق بين الحب الأرضى البشرى، والحب الإلهى: الحب صفة الموجود وما فى الوجود إلا الله، فإن الأصل فى المحبة أن تكون أنت عين محبوبك وتغيب فيه فيكون هو ولا أنت، ولهذا فإن الحق يغار على المحب أن يكون له وجود فى قلبه لغير محبوبه. يقول الحق فى حديث قدسى: «ما وسعنى أرضى ولا سمائى، ولكن يسعنى قلب عبدى المؤمن».ويكمل المعنى مولانا جلال الدين الرومى: دين العشق لا مذهب له كالثلج الذائب يغسل نفسه بنفسه، العاشقون أمة واحدة وإيد واحدة وهذا هو الله.وللصوفية قول لطيف يقول: لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق، وحالة الهيام، والذوبان هى ما جعلت قيس بن الملوح مجنون ليلى يزعق فى الفيافى والصحارى، وكذا وهو يتعلق بأستار الكعبة: أنا ليلى وليلى أنا، وذلك عين ما زعق به الحلاج شهيد العشق الإلهى: أنا الحق والحق أنا ودفع الثمن غاليا، وهو يضحك فرحان جذلان، بينما الدماء تسيل منه بعد قطع يديه ورجليه ثم رأسه بعد ذلك. وكأنى بسلطان العاشقين عمر بن الفارض المدفون بقرافة جبل المقطم وينشد شعره: فإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به شهيدا وإلا فالغرام له أهل وللشاعر العظيم وليم شكسبير مقولة فى ذلك: ما الحب إلا جنون، ولعل أجمل ما يباهى به أهل المواهب والفن والحب أنهم مجانين.
وهناك العديد من القصائد والكتب والمقالات عن ماهية الحب على رأسها كتاب العالم والمفكر والفقيه ابن حزم الأندلسى «طوق الحمامة فى الألفة والآلاف». وبالحب يتغنى البشر ويرقص الطير والشجر، ومن الفرق المميزة فى هذا اللون الجميل من المدائح النبوية والإلهية «الإخوة أبوشعر» السورية، وهى فرقة عجيبة فى تكوينها، فالأسرة كلها قد وهبت نفسها للحب، الحب النبوى والإلهى، الأشقاء الستة قد وهبهم الله الصوت الشجى والحضور الإنسانى الراقى،، أبو بهجت وأبو ياسر وعبدالرحمن وأبو طارق وأبو محمود وأنس المعروف بضارب الإيقاع، والطريف أنها فرقة قد تجلت فيها عوامل الوراثة الفنية والروحية، فوالدهم هو الشيخ موفق أحمد إسماعيل أبو شعر، الذى كان منشدا فى دمشق، عالما بأسرار الأنغام وحلو الكلمات، وكانت الدعوة الكريمة منهم لحضور حفل عامر بالحب على ضفاف النيل بقلب القاهرة المحروسة.
وكان الأستاذ علاء العطار، رئيس التحرير والأستاذ الزميل أحمد أمين عرفات، قد استقبلا أبو ياسر وأبو بهجت نيابة عن الفرقة فى مجلة «الأهرام العربى»، وكانت ليلة حافلة تلتها الدعوة النبيلة لحضور الحفل الذى قامت على تنسيقه والاهتمام بمفرداته أختنا الجميلة نيفين عبدالعزيز وصورته الموهوبة الزهراء محمد.وامتلأت القاعة بالحضور، وبدأ الحفل بآيات القرآن الكريم، بعدها تحلقت طيور الحروف النورانية، والكلمات المشتعلة بنور الحب ونار الشوق وموسيقى التجلى فى المكان، وزاد المشهد جلالا رجال المولوية فى الخلف.
وما بين أصوات موشاة بالعذوبة والشجن، وجمهور كأنه فراشات تحوم حول نار العشق وتتعلق بأستار كعبة حب النبى الكريم، كانت حالة الجذب والمجاذيب، وكأنى بابن الفارض ينشد: إن الغرام هو الحياة فمت به صبا فحقك أن تموت وتعذرا وكأنى بالحضور يصرون على الموت عشقا، فما بين زاعق وباك ومتأوه، وما بين تارك لمقعده، وكأن الوجد قد طار به فى سماوات الإنشاد وسادت حالة السكر الحلال فى حانة «الإخوة أبو شعر» على أشعار الحسين بن منصور الحلاج شهيد التصوف: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسى ولا خلوت لى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثى بين جلاسى ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا إلا وأنت بقلبى بين وسواسى ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رأيت خيالا منك فى الكاس
وتحولت القاعة إلى ما يشبه المسجد الحسينى بعد صلاة الجمعة، حيث تشتعل الفرق الصوفية ذكرا بمناحى المسجد وهتاف الدراويش الله.. الله.. الله. بينما المنشدون يحلقون بكلمات نورانية فى مسجد سبط النبى وإن شئت قل ابنه، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: أنا حسين وحسين منى».. سيد شباب أهل الجنة - رضى الله عنه - فقد تخلى الجالسون عن جلوسهم سواء كانوا شبابا أم عجائز أو كبار السن من الرجال - لفظ العجوز لا يطلق إلا على المرأة فنقول : «امرأة عجوز» وليس عجوزة، وهاموا تمايلاً وتصفيقاً، وزعقوا بكلمات الإعجاب، واشتعلت حلقة الذكر والحب، بينما الإخوة أبو شعر تتجلى بهم الحالة، وكأنما جبل الطور يتجلى لجلال حب خالقه، وكأن قلوبنا موسى عليه السلام يخر صعقا. حقا لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
ما ترجمته تلك الحالة التى كان أكثرها من الشباب، هى أن القلوب عطشى للقول الجميل واللحن الرقيق والكلمات الساحرة، ولو توفر لها ذلك الفن الراقى ما ذهبت لغيره ووقعت فى شباك وحبائل الإسفاف، وذلك ما يكذب مقولة «الجمهور عايز كده»، فالحفل لم يكن بالمجان حتى نبرر كثافة الحضور، بل وسؤالهم عن موعد الحفل القادم.. وإنما جذبهم شراب الأرواح الذى ثملوا به وانتشوا فى حضرة مولانا الحب الإلهى.