أتوقع عندما أصل بيروت لا أجد مسئولا يقول لى "مبروك الجائزة" - لا أعرف أروج لإنتاجى فى وقت أصبح فيه الأدب يعتمد بشكل كبير على العلاقات الشخصية حاز الروائى اللبنانى حسن داود على جائزة نجيب محفوظ، التى أعلن عنها بمقر الجامعة الأمريكية أول الأسبوع الماضى، عن روايته الطريق إلى الجنة "الصادرة عام 2013 هذه الرواية التى شرع فى كتابتها منذ عشر سنوات، لكن لسوء حظه سرقت المخطوطة منه أثناء وجوده بفرنسا وكانت النسخة الوحيدة، ليعود ثانية بعد حدوث ثورات الربيع العربى يستدعى ما فى ذاكرته لتخرج هذه الرواية ثانية، وكأنها تجسيد لفترة وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم وما تلاها، أحداث كثيرة تتخلل هذه الرواية التى لم تعرف طريقها إلى مصر ما جعل كاتبها يشعر بالحزن الشديد، معلنا عن رغبته الشديدة فى التواصل مع المثقفين المصريين بعد رحيل أصدقائه خيرى شلبى، وإبراهيم أصلان، وجمال الغيطانى فلا طعم للقاهرة بدونهم على حد قوله . فى هذا الحوار الكثير من التفاصيل الدقيقة عن عالم الروائى حسن داود، فهيا نفتح خزينة أسراره لنكتشف الجديد عنده. أجرت الحوار :حسناء الجريسى ماذا تمثل لك جائزة نجيب محفوظ؟ هى جائزة محترمة سواء كانت من جهة اللجنة المشرفة على اختيار الفائز أو من جهة زيادة الصلة الاجتماعية بالكاتب، فدائما أرى أن من يحكم فى اختيار الفائزين بالجوائز لابد أن يكون حكمه واختياره متجرد من أى علاقات شخصية أو أفكار مسبقة، أظن أن جائزة نجيب محفوظ كذلك، وأنا فخور جدا بحصولى عليها، فهى أتاحت لى الاتصال بالكتاب المصريين على نطاق أوسع عن ذى قبل، حيث كان لى أصدقاء كثيرين لهم باع فى الوسط الثقافى لكن توفاهم الله أمثال خيرى شلبى، إبراهيم أصلان، جمال الغيطانى وعبد الرحمن الأبنودي، كان العامان الماضيان مؤسفين، عندما جئت القاهرة لأتسلم الجائزة أحسست بفقدهم وكأن شيئا كبيرا يغيب عنها، فلا طعم للقاهرة بدونهم. هل هذه هى الزيارة الأولى للقاهرة ؟ ربما تكون الرابعة، جئت من قبل لحضور ملتقيات الرواية . فور حصولك على الجائزة قلت للأسف "روايتى الطريق إلى الجنة "غير موجودة فى مصر وألقيت باللوم على الناشرين.. مبررا ذلك بأن الدول العربية أصبحت تعيش فى جزر منعزلة كيف ذلك وهناك عدد كبير من الأدباء العرب تم نشر أعمالهم الإبداعية فى مصر سواء كان ذلك من قبل دور نشر خاصة أو مؤسسات ثقافية.. فلماذا لا تلوم نفسك أولا بالتقصير فى حقها؟ ضحك قبل أن يقول: صحيح فى الحقيقة ما فكرت فى نشر رواياتى فى مصر، برغم أنه كان دائما يخطر ببالى، القيام بهذا الفعل فترة وجودى فى مصر، لكن بمجرد أن أعود إلى لبنان ثانية أنشغل بالعمل الصحفى والكتابة التى دائما ما تسيطر على وقتي، لكن هذه المرة شعرت أنه لزاما عليا أن أقوم بهذه الخطوة، خصوصا ومصر حاضنة الرواية فى العالم العربي، كثيرا كنت أصدق ما تزعمه دور النشر فى لبنان، من أن كتبها تصل إلى القاهرة، لكن فى الحقيقة ما تبين لى أن هذا لا يحدث على الإطلاق، خصوصا أن الكثير من الكتاب قالوا لى إن روايتى "طريق إلى الجنة" التى حصلت من خلالها على الجائزة التى صدرت عام 2013 غير موجودة بالقاهرة وهذا أحزننى كثيرا. بمناسبة انشغالك بالعمل الصحفى هل أفادك فى عملك الإبداعى؟ العمل الصحفى يساعد الكاتب على أن يظل حاضرا، أرى أنه يجب أن يخاف الكاتب العزلة وانقطاع الاتصال مع مجريات العالم من حوله، فالكتابة دائما تحتاج إلى التواصل باستمرار مع الآخرين، وهذا ما يتيحه العمل الصحفى للمبدع، فالصحافة لا تعوق العمل الإبداعى على الإطلاق بل تنميه، فهى تتيح للكاتب المتابعة والقراءة المستمرة، فرغم عملى الصحفى، فإننى أعطيت اهتماما كبيرا للعمل الإبداعى لأنه أبطأ ويحتاج إلى مزيد من التركيز. ما رأيك فى الكتابات الكثيرة السريعة المتلاحقة التى أعقبت أحداث ثورات الربيع العربى خاصة وأنك ترى أن العمل الأدبى الجيد يحتاج إلى وقت كبير حتى يكتب؟ الحراك العربى والانتفاضة التى حدثت فيه، أتاحت لى قراءة العديد من الكتب والمقالات وليس فقط روايات، جئت مصر هذه المرة قاصدا الحصول على الكتب والروايات المصرية التى صدرت أخيرا، لكن فى كل الأحوال أميل دائما إلى التفاعل مع الكتابات المهملة المتعمقة، وأعتقد أن الكتابة عن الثورات الحديثة لم تكن نضجت بعد، لكن ما يمكن أن نقوله إن هذه الثورات سبق حدوثها كتابة روايات عديدة تتنبأ بهذا الحدث الجلل، فكل الشعارات التى كانت موجودة ويتداولها المصريون على أرض ميدان التحرير ذكرت فى روايات مصرية، قبل وقوع الحدث، ما يجعلنى أقول إننا لم نتفاجأ فكريا بحدوث الثورات حيث قرأت العديد من الروايات التى تحتج على السلطة والقمع، بل وتطالب بالتغييروكان ذلك من خلال الروايات والمقالات والشعر أيضا . رواية "لا طريق إلى الجنة " الصادرة عام 2013، أى بعد حدث ثورة 25 يناير وما تلاه من ثورات الربيع العربي، وما أعقبها من وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم تلك الرواية التى كتب عنها النقاد يقولون أنك نفيت وجود المدينة الفاضلة لتكشف أسباب تراجع الدول العربية المصحوبة بالدماء نتيجة خلط الدين بالسياسة نفهم من هذا أنها تجسيد لهذه الفترة؟ هذه الرواية كتبتها منذ عشر سنوات، لكن للأسف سرقت المخطوطه منى فى فرنسا، وكانت النسخة الوحيدة التى كنت أمتلكها، ما جعلنى أضطر لمحاولة اعادة كتابتها ثانية، طوال الوقت أحاول استرجاع الأحداث واستدعاءها من الذاكرة،كتبتها مؤخرا 2013 أى أن فكرتها جاءتنى قبل 12 عاما من الآن، لأن الأساسى فيها شخصية بطل الرواية الذى أرغم على أن يكون رجل دين وكان لا يفضل ذلك، ودائما يسعى بشكل متواصل للتخلى عن لباسه الديني، فهى تؤرخ لفترة السبعينيات التى كانت تشهد تراجعا فى الفكر الدينى فى الوطن العربى، فمازلت أذكر أن أبى كان يقول لى "فى السبعينيات لم نعد نشاهد رجل دين كما كان من قبل بعد فترة الفرد يموت ولا نجد من يصلى عليه"، كنت ألاحظ حين كتبت الرواية فى المرة الأولى أن الدين عاد ليهيمن ثانية وبدأت تشتد علاقة الدين بالسياسة، وما ترتب عليها من ظهور السلاح فأصبحنا لا نسير فى الخط المستقيم، فى وقت ظهرت فيه العلوم التكنولوجية ومفهوم الحداثة بشكل قوي. كيف ترى الجوائز العربية وما يدور حولها من لغط كل عام؟ وما السبب فى عدم وجود جوائز فى لبنان تصدر عن مؤسسات ثقافية كما يحدث فى بعض البلدان العربية، خصوصا أن أول جائزة لديكم كانت تابعة لمجلة الآداب وكانت من نصيب شعر التفعيلة هل هو تقصير من المؤسسة الثقافية اللبنانية أم ماذا فى رأيك؟ ليس فقط الجوائز اللبنانية لا تصدر عن المؤسسة الثقافية، فهى لا تتدخل فى الحياة الثقافية فى لبنان، أنا حصلت اليوم على جائزة نجيب محفوظ وهى مهمة أنت بالفعل تتوقعى أن من الطبيعى أنه بمجرد أن أصل أرض بيروت يتم الاحتفاء بى رسميا، أعتقد أننى سأصل بيروت ولا أجد مسئولا واحدا يفكر يهاتفنى ويقول لى "مبروك"، وأفضل ذلك لأننى أحب أن تكون حياتى الثقافية خارج الصندوق، أى عامة وليس حياة تابعة لمؤسسات . نعود للشق الثانى من السؤال كيف ترى الجوائز العربية؟ كنت أتمنى أن تكون هذه الجوائز أكثرا عمقا وتخرج عن حيز العلاقات الشخصية، فالمؤسسات التى تمنح الجوائز كل عام لم تذهب جوائزها إلى روايات قوية تستحق هذه الجائزة ، فكل الروايات التى فازت بجوائز خلال الأعوام السابقة لم تحدث أى تأثير فى الحياة الثقافية. أفهم من كلامك أنها أسيرة التربيطات؟ لا أملك أى دليل على ذلك، لكن من خلال متابعتى فهذا واضح جدا.. الكتابة الأدبية للأسف أصبحت عرضة للعلاقات العامة، الدعوات والشو الإعلامى. ماذا إذن عن الحراك الثقافى فى لبنان ؟ الوضع الأدبى فى ازدهار حيث أصبح هناك اتجاه واسع للإقبال على كتابة وقراءة جنس الرواية، وهذا جديد أذكر أنه فى الثمانينيات كنا ننتظر ثلاث سنوات حتى تصدر رواية واحدة اليوم تصدر العشرات فى العام الواحد، ما أحدث طفرة واسعة فى عالم الرواية حتى أصبحت فى البيست سيللر. أفهم من كلامك أنك تتفق مع وزير الثقافة الأسبق جابر عصفور عندما قال " نحن أصبحنا فى زمن الرواية "؟ نعم، بالتأكيد هذا زمن الرواية. عالم نجيب محفوظ كيف تراه؟ قرأت نجيب محفوظ منذ الصغر، قرأت بداياته الأدبية عبث الأقدار، كفاح طيبة، زقاق المدق والثلاثية، كان يتميز أنه استطاع عمل قفزة هائلة فى الكتابة الأدبية، بعدما أسس لأدبه الخاص، كتبه الثلاثة الأولى كانت تتحدث عن مصر الفرعونية ثم بعد ذلك انتقل إلى حاضر مصر بالثلاثية وزقاق المدق، اللص والكلاب كان يتناول الأحداث بفلسفة عميقة، محفوظ عمل نقله فى الكتابة الرواية، حيث تميز بعد أن أرسى أسلوبه القائم على أسس فلسفية، بعد روايته اللص والكلاب انتقل بشكل لافت آنذاك لاحظه قراءه، ثم عاد ليغير مرة أخرى، ما يدل على عدم رغبته فى الثبات بل كان متجدد ومتطور، مازال أثر ما قرأته له باقيا فى نفسى لاأستطيع نسيان أبطال رواياته أحمد عبد الجواد أو أمينة أو ياسمينا ولا حتى الأماكن السكرية وروض الفرج، استطاع رسم الأشخاص والأماكن بشكل تقنى عالى وضعهم ليظلوا أبنية راسخة فى أذهاننا . إلى أى مدى تأثرت به؟ تأثرت به بشكل أساسى فكان تأثيره تأسيسيا، خصوصا أننى قرأته فى سن مبكرة، تأثرت به فى علاقته بالمكان، وبالحس الدرامى الذى يتميز به، وهو ما يميز روائى عن آخر، يتعامل مع أبطال رواياته بحرفية عالية، يرسم مصائرهم بدرجة بشكل غير عادى أمات أحمد عبد الجواد بشكل يجعلنا نبكى على مشهد الاحتضار كأنه عواصف من التذكر والتألم صاحبتنا خلال قراءة هذا المشهد، فرواياته صنعت إدراكنا، حيث جعل من البشر العاديين بالمجتمع المصرى أبطال فى عالمه الروائي. هل ولوجك إلى عالم الأدب جاء مصادفة أم كنت تخطط لذلك؟ ربما جاءنى من تعلقى الشديد ببعض رجال الدين فى قريتنا، كانوا حاملى لغة رصينة، فضلا عن حبى الشديد للقراءة فى مرحلة مبكرة من عمرى، أذكر أنه فى بيت والدى حيث نشأت فى إحدى قرى لبنان ولم يكن فى بيت والدى كتاب واحد، سوى "القرآن" المصحف الشريف، أول كتاب دخل البيت كان بسببى، حيث قررت إنشاء مكتبة منزلية لرغبتى الشديدة فى التثقف، خصوصا أن أبناء جيلى كانت الخيارات أمامهم ضعيفة، فلم أجد أمامى سوى طريق الأدب. بدأت عالمك الإبداعى بكتابة الرواية ثم تلاها كتابة القصة القصيرة.. مارأيك فى القول بأن القصة القصيرة بداية تسخينية لمرحلة الرواية كما يزعم البعض؟ قد نشرت أربعة نصوص لقصص أدبية فى الجريدة التى كنت أعمل بها "سفيرا"، عندما بدأت كتابة الرواية كان عمرى 32 سنة وقتها أحسست أنى تأخرت كثيرا واعتقدت أنه عندما تبلغ السن بالكاتب.. طاقة الإبداع عنده تتضاءل، فهى ليست أبدية خصوصا وطوال الوقت هناك هاجس عند الكتاب وهو الخوف من نضوب إنتاجه فى مرحلة معينة . وهل يؤرقك هذا الهاجس؟ نعم . ألمس فى حديثك نبرة حزن؟ ضحك ضحة ملؤها الحزن قائلا: لا أعرف أروج لإنتاجى فى وقت أصبح فيه الأدب يعتمد بشكل كبير العلاقات الشخصية. الكتابة ماذا تعنى لك؟ كل شىء. لا أستطيع العيش بدونها فهى قدر الكاتب. هل تضع خطة معينة عند كتابة الرواية وترسم شخوصها ؟ لا أضع خطة للكتابة، أكتب الرواية كلمة كلمة كما لو كانت قصيدة، ولا أعرف ماذا ستكون الجملة التالية؟! مما يجعل الكتابة خطيرة وشيقة فى الوقت ذاته، مما يجعلنى أشعر طوال الوقت أننى فى امتحان. كيف ترى حال الدول العربية بعد الثورات الحديثة؟ الثورات كانت ضرورية فى مجتمعات ينخرها الفساد والترهل على جميع الأصعدة، فالسلطات لم تحقق أى نجاح ملحوظ خلال عقود طويلة مضت، هى انتفاضة لتغيير الأوضاع لكن لا نعرف ما آلها إلى أين، فالوضع ما زال ممسوكا بقبضات فشل! نظرا لهيمنة الطائفية على الكثير من البلدان العربية وفقدان الأمل فى المستقبل ما أدى لظهور وتوغل الدواعشة . أين المثقف الذى يشار إليه بأصابع الاتهام طوال الوقت بأنه فى عزلة عن المجتمع؟ ليس صحيحا، لكن يمكننا القول بأنه أصبح أقل ارتباطا بمشكلات مجتمعة، حيث سيطر عليه الشعور بأنه لا أمل فى إبراز الطبقة المثقفة، أما فيما يتعلق بداعش هم ليسوا منتظرين أن يناقشوا، فالنقاش لا يفيد معهم، هم لا يعرفون سوى ثقافة الدماء. السعودية أصدرت قرارا بمصادرة 80 كتابا للبنا وقطب والقرضاوى، فضلا عن طرد ناشرين ينتمون لجماعة الإخوان فى معرض الكتاب هناك؟ كل طرف يحق له أن يعبرعن أفكاره بطريقته، لكننى ضد أن يتدخل طرف لمنع فكر طرف آخر، على أن يكون الطرف الآخر مستعد لقبول الآخر، فالسجال الفكرى لا يؤدى إلى الخراب، لكن التشدد الفكرى هو ما يهدف إلى وجود بحور الدماء، لكن أرى أن المسائل لا تحل بالمنع . إذا كان هذا رأيك فى مصادرة كتب الإخوان ماذا تقول فيما يحدث كل يوم فى الدول العربية من إصدار حكم بإعدام شاعر أو محاولات جلد أديبة كما حدث مع رانيا مأمون فى السودان أو تكفير آخر ؟ هذه آخر درجة انحطاط وتراجع فكرى وتشدد من الممكن أن يصل لها المجتمع . ما الجديد حاليا عند حسن داود؟ أشرع الآن فى كتابة رواية جديدة.