يمتلك الروائي اللبناني حسن داوود، الفائز مؤخرًا بجائزة نجيب محفوظ، حسًا أدبيًا خاصًا لايتبدى من خلال نصوصه فقط، وإنما يظهر كذلك في شخصه، الذي وإن بدت عليه طبائع الهدوء إلا داخله مسكون بالقلق ومشغول بالكتابة وأسئلتها. أصدر داوود ثلاث مجموعات قصصية وعشر روايات، وعن أعماله الأولى ووجهة نظره في الكتابة كان لبوابة الأهرام معه هذا الحوار: قلت في كلمتك أنك "بالجائزة تجد نفسك وقد أُدنيتُ مسافة أخرى من نجيب محفوظ" فما الذي يعنيه نجيب محفوظ أدبيًا؟ - نجيب محفوظ هو الروائي العربي الوحيد حتى الآن الذي يستحق جائزة نوبل، لأنه يملك مشروعا متكاملا، كما أنه لم يسقط تحت سطوة الأيديولوجيا، فروايات نجيب محفوظ لا تسقط تحت كلمة الكلاسيكية بالمعنى المعروف، ففي كتابته نوع من الحداثة الخفية، ومثال ذلك غرابة بعض الشخصيات عنده، ففي الوقت الذي نرى فهمي في الثلاثية شخصية عادية فى ثوريتها، نرى ياسين شخص مركب، ومن علامات ذلك ميله نحو الجنس غير المشروط على الإطلاق وهذا قلما تعرفه الرواية العربية الكلاسيكية. ومحفوظ كان يتميز بأنه يتحلى بفهم ما للدراما، ففي كتابته عن موت السيد أحمد عبد الجواد كتبه فى صفحات عديدة كأن يحب أن يصل إلى لحظة الذروة الدرامية ويحب أن يبقى فيها، فما يتميز به الروائيون عن غيرهم، هو نزعة الفهم الدرامي، هناك شيء ثالث، هو أن أعمال "محفوظ" عمل مجسد درامي للقاهرة في زمنه، فلا يمكن أن ترى القاهرة بدون نجيب محفوظ. في نهاية كلمتك أبديت تعجبك من " كيف سمّى محفوظ الأمكنة بأسمائها ذاتها، ولماذا؟".. كيف تتعامل مع ماهو شخصي وماهو تخييلي أثناء كتابة الرواية؟ - الرواية الأولى عادة ماتغلب عليها السيرة الشخصية لكاتبها، لكنه كلما كتب رواية بعد أخرى، تصير حصة الحياة الشخصية أقل فأقل من حيث الظهور، لأنك لن تظل تكتب حالك دائمًا، على العكس يضع الكاتب نفسه رهن اختبار حول "كيف سيتجاوز ذاته". روايتي "غناء البطريق"، تدور عن شخص رأيته مرتين بحياتي، لكن أحداثها تدور كلها حوله، هذا النوع من الناس الذين يحولهم الكاتب إلى أبطال لرواياته، لديهم القدرة على إلهام من يراهم، وتكمن قدر الكاتب في استنباط سمات لتلك الشخصية، بل واختراع عمقًا لها. كافكًا لم يزر أمريكا يومًا، ولكنه كتب كتابًا كاملًا عنها، والغريب أن كافكا أعطى صورة صحيحة عن أمريكا، الكاتب غير مطالب بإعطاء صورة مطابقة للشيء الذي يكتب عنها، وفي مثالنا عن كافكا، المهم بالنسبة للكاتب أن يعطينا صورة خاصة به عما يفترض أنه أمريكا. على ذكر العمل الأول.. تلقى جمهور الأدب روايتك الأولى "بناية ماتيلد" باحتفاء ضخم.. فكيف استطعت أن تتجاوز ذلك النجاح ومواصلة الكتابة في حين أن كتاب آخرين لم يستطيعوا فعل الأمر نفسه مع رواياتهم؟ - هناك أسئلة أحسب أن إجابتها معقدة لدرجة استحالتها. الأمر صعب، فالرواية الأولى الناجحة خطرة وقد تجعل الكاتب إما عاجز عن تخطيها فيتوقف عن الكتابة أو يكرر نفسه، فالكتاب الأول يضع ركائز أسلوبية ولغوية في ذهن كاتبه؛ فيصير مجاله اللغوي الذي يكتب من خلاله محدود بما صنعه في الكتاب الأول، وبالنسبة لي؛ فإنني عندما أجد يدي وقد كتبت الجملة بسهولة كأنها صارت "جملتي" أتوقف وأقول "بدي غيرها". إذا الأمر كذلك فما رأيك بانتشار ورش الكتابة الإبداعية حاليًا في الوطن العربي؟ - كتبت مؤخرًا عن رواية أنجزت خلال ورشة للكتابة الإبداعية، وهي رواية جيدة. ولكن الكتابة عمل انعزالي؛ هي سر الكاتب نفسه، وهو شيء لا يمكن تعليمه منهجيًا. وحدث أن وُكِلَ إليَّ تعليم صف بجامعة الألبا في بيروت "الكتابة الإبداعية"، ولكني قصرت الدرس على تعليمهم كيفية تذوق النص الأدبي لا أن يكتبوه. صدر من روايتك "بناية ماتيلد" طبعة مصرية ضمن سلسلة "آفاق الكتابة" منذ سنوات طويلة، فلماذا لم تكرر التجربة ثانية خاصة وأن كتبك شبه نادرة في القاهرة؟ - قبل حضوري إلى القاهرة ذهبت إلى ناشري وطلبت منه أن تكون هناك طبعة مصرية من رواياتي، فرفض خوفًا من أن تؤثر تلك الطبعة على توزيع الروايات خارج مصر، فأخبرته أن العقد سيحدد ذلك، وانتهى بيننا الكلام حتى هذا الحد، لكني سأستأنفه مجددًا معه فور رجوعي إلى بيروت. رغم أن بيروت تعتبر عاصمة النشر العربية يبدو حديثك وكأنك تواجه متاعبًا مع الناشرين؟ - علاقتي دائمًا سيئة بدور النشر... فور أن أعطيهم الكتاب أجدهم يطالبوني بأن أنشر كتابي القادم أيضًا معهم.. "طب وين صار القديم" ماذا حدث له؟ بعتوه؟ أين وزعتوه؟ هل قرأ كفاية؟ لاجواب.. هناك دار نشر لبنانية كبيرة طبعت معهم كتابين ويقضي العقد فيما بيننا أن تنفذ الطبعة الأولى تمامًا حتى تصير حقوقه ملكًا لي، ولما مرت عدة سنوات لم تخبرني فيها الدار عن أحوال كتابي قررت شراء باقي النسخ المتبقية منه حتى تنفذ الطبعة وتعود حقوقه لي، وقدر ثمن النسخ المتبقية بحوالي 7500 دولار، وأعطتني الدار إقرارًا بأنه لم يعد هناك أي نسخ من الكتاب، وبعد عام من تلك الواقعة ذهبت إلى إحدى المكتبات فوجدت نسخًا لاتزال من كتابي. ذكرت لي قبلا أنه كان لديك تخوفًا من المشاركة بروايتك في ظل سطوة التيارات الدينية في مصر، خاصة وأن عنوانها هو "لا طريق إلى الجنة". لكن الرواية فازت، وكانت مصادفة أن تتسلم الجائزة في يوم يحاكم فيه كاتب مصري آخر هو أحمد ناجي بتهمة خدش الحياء العام. - هذا غير مقبول بالطبع وهي مصادفة محزنة في الحقيقة، وإذا لم تكف أمتنا عن مسك العصا في وجه الإبداع لن تتطور أبدا، فالبلاد التي تطورت، جرى التطور فيها متزامنا مع الحرية الفكرية، فالتقدم نظامي، بمعنى أن الأمور كلها تسير متزامنة معا، فالنظام التقدمي في الصناعة مرتبط مع الفكري. هناك أيضًا تضييق ديني في بيروت على الإبداع مثلما حدث مؤخرًا مع مجلة السمندل. - تراجع الدور الثقافى فى بيروت بسبب القمع، وهذا القمع لا تقوم به الدولة هذه المرة، لكن تقوم به أطراف أخرى داخل المجتمع، فهناك المؤسسات الدينية، لكنها لا تخيف لدرجة كبيرة، فما يخيف حقًا هي الجماعات المسلحة المتطرفة، لأنها تقتل وتغتال وتنفذ أحكامها بشكل مباشر، وقد قتل عدد كبير في لبنان بسبب ما قالوه. طالما نقارن بين الواقعين اللبناني والمصري.. فكيف ترى الكتابة بعد الأحداث الكبرى في ظل تجربتك مع حرب لبنان، وما حدث من انفجار كتابي بعد ثورة يناير فى مصر؟ - من الصعب مقارنة ما حدث فى مصر 2011 بما حدث فى بيروت من حرب أهلية، فما حدث من بيروت حرب بدأت إرهاصاتها من 1969 وقامت الحرب فى 1975 وظلت حتى 1991 وبخضم هذا الزمن تأسست الكتابات الروائية وليس بعد انتهائها، فقد كتبت أنا ورشيد الضعيف الرواية 1982 وكانت الحرب ما زالت مشتعلة. لكن ما حدث فى مصر ليس توليد فكر جديد لكنه إتاحة الحرية لفكر جديد في أن يظهر، لازلت أتذكر صديقي الراحل هاني درويش، ذلك الشاب المصري النابغ، والذي كان ملمًا بكافة التفاصيل الدقيقة التي تحدث فى مصر، كنت أظن هذه ميزة اختص بها وحده، لكني لما رأيت الشباب في الثورة وجدت أنهم كلهم مثل هاني، فهذا الإدراك هو الذي وصل بالشباب المصري إلى ميدان التحرير، والانتماء لمصر لا يشبه الانتماء للبنان، فاللبنانيون لا يعرفون كيف يحبون وطنهم، لدرجة أنهم لا يعرفون ماهية الوطن، بينما المصريون عندما يتحدثون عن وطنهم فكأنما هم يتحدثون عن شخص حاضر، يبادلونه العاطفة، فالعلاقة بين مصر وشعبها "علاقة عاطفية" حقيقية.