سهير عبد الحميد فى كل مأساة عاشتها الشعوب خلال القرنين الماضيين، فتش عن القوى الإمبريالية العظمى التى أدارت الصراع الدولى وحركت الشعوب كقطع الشطرنج تنفيذا لسياساتها وتحقيقا لمصالحها، وفى القرن التاسع عشر فعلتها بريطانيا أكثر من مرة، إحداها كانت عندما قدمت كل الدعم للصهيونية وتوجته بإصدار بلفور 1917، والثانية عندما استغلت القضية الأرمينية بما يحقق مصالحها فى صراعها مع روسيا دون اعتبار لحرمة دماء الشعوب، فى المرة الأولى دفع العالم العربى الثمن غاليا متمثلا فى اغتصاب فلسطين، والأرواح التى أزهقت عبر حروب متتالية مع إسرائيل، والعيش مع شوكة فى الحلق زرعها الإنجليز لنجنى نحن الشوك، وفى المرة الثانية دفع الشعب الأرمينى الثمن فى ضياع أراضيه وتراثه ومليون ونصف مليون أرمينى. هذا ما كشفته دراسة مهمة ل على ثابت الباحث فى التاريخ الحديث والمعاصر بآداب المنصورة والباحث بالشأن الأرمينى وسكرتير تحرير مجلة إريك الأرمينية. فقد استخلص من الحوادث التاريخية أن بريطانيا استغلت القضية الأرمينية فى الصراع الدولي، فبريطانيا لها مصلحة فى بقاء الكيان العثمانى كدولة حاجزة للتطلعات الروسية، وتأمينا لاتصالاتها مع الهند، وروسيا هى أيضا لها مآربها فى الوصول للمياه الدافئة عبر الدولة العثمانية. ومع انفجار قضايا القوميات داخل الفضاء العثمانى، ظهرت القضية الأرمينية فى شرقى الأناضول – الذى يعتبره الأتراك جزءاً لا يتجزأ من وطنهم الأصلى – لتربك حسابات الإدارة العثمانية، وتفتح منفذا خطيرا للتدخلات الأوروبية، بيد أن الدولة العثمانية تتحمل جزءا كبيرا من وصول قضايا القوميات عموما والأرمن على وجه الخصوص إلى حدٍ هز كيانها. فقد كان أمام السلطان عبد الحميد الثانى (1876 – 1909) فرصة لإنهاء هذه الانقسامات التى ضربت كيان الدولة فى الصميم، حيث كان الدستور العثمانى (المشروطية) - آخر تطورات عصر التنظيمات – أفضل السبل لخروج الدولة من مأزقها، لأن الدستور كان يضمن مساواة كل مواطنى الدولة العثمانية فيما عُرف بالعثمنة، لكن السلطان أوقف العمل بالدستور بعد إعلانه بوقت وجيز مما أشعل فتيل الأزمة داخل الفضاء العثمانى، وعلى غرار ذلك تحولت أزمة الأرمن فى الدولة العثمانية من شأن محلى إلى شأن شبه دولى، اكتملت صورته فى مؤتمر برلين 1878. لقد التقطت بريطانيا القضية الأرمينية خلال تسويات الحرب الروسية العثمانية 1877 – 1878، والتى تمخض عنها معاهدة سان ستيفانو المبرمة فى 3 مارس 1878 ، حيث حصل الأرمن على المادة (16) التى تنص على:"أن خروج جنود روسيا من إرمنستان وإرجاعها للدولة العثمانية يُمكن أن تنجم عنه المناقشة والاختلاف فيما بينهم، فلهذا يتعهد الباب العالى بإجراء الإصلاحات على حسب الاحتياجات المحلية فى الولايات التى يسكنها الأرمن، وتأمين المسيحيين من تعدى الچراكسة". بيد أن، بريطانيا رفضت هذه المعاهدة، لتعارضها مع مصالحها، وقد نجحت الضغوط البريطانية فى توقيع اتفاق بريطانى روسى فى 30 مايو 1878 بموجبه وجود بريطانيا بشكل فعال فى مجريات القضية الأرمينية، حيث نص على:"الأمور المتعلقة بأرمينية الغربية - الولايات الست – لا تخص روسيا وحدها والتى أقرتها المعاهدة الابتدائية سان ستيفانو، بل تشمل بريطانيا أيضا"، ونتج عن هذا الاتفاق أن سارت بريطانيا جنبا بجنب مع روسيا فى أية أمور تخص الأرمن العثمانيين حرصا على تأمين مصالحها فى تلك المنطقة. وعلى خط متواز سعت بريطانيا للحصول على موقع يوازى الوجود الروسى فى الولايات الأرمينية، فلم تجد أفضل من جزيرة قبرص، ولهذا، أبرمت معاهدة دفاعية مع الدولة العثمانية فى 4 يونيو 1878، حصلت بريطانيا بموجبها على جزيرة قبرص، والتى أصبحت فيما بعد موقعا خطيرا استغلته لمراقبة الأحداث فى مصر. الإصلاحات الأرمينية فى المؤتمرات الدولية وعلى أية حال، عُقد مؤتمر برلين بعد مساعى القوى الكبرى فى الفترة من 13 يونيو حتى 13 يوليو 1878، وفيه استطاعت بريطانيا تقليل المكاسب الروسية بشكل كبير، وكذلك الحفاظ على الدولة إلى حد ما، وتعويض الأرمن عن المادة (16)، بمادة عائمة خلاء منها قوة التنفيذ التى كانت فى سان ستيفانو، حيث وافق المؤتمرون على اقتراح ممثل بريطانيا بشأن القضية الأرمينية الذى تبلور فى المادة (61) والتى تنص على أن: «يتعهد الباب العالى – وبدون أى تأخير – بإدخال التحسينات والإصلاحات التى تستلزمها المتطلبات المحلية فى الولايات التى يقطنها الأرمن، وضمان أمنهم تجاه الچراكسة والأكراد، كما يتعين على الباب العالى من حين لآخر أن يُحيط القوى الكبرى – التى ستقوم بالإشراف على تنفيذ الإصلاحات – علما بأى أمر يتعلق بذلك»، كما أصرت بريطانيا على إخلاء الولايات الأرمينية العثمانية من القوات الروسية، ومن ثم، عززت بريطانيا مصالحها شرقى الأناضول، وفوتت على روسيا أية ذريعة للتدخل فى الدولة العثمانية. أما عن الإجراءات التى اتخذتها بريطانيا نحو حل القضية الأرمينية، ففى أعقاب مؤتمر برلين صعد إلى سدة الوزراء فى بريطانيا السير جلادستون - المعروف بتعاطفه مع قضايا المسيحيين فى الدولة العثمانية - وعلى إثر ذلك بدأت الحكومة البريطانية تتخذ سياسة نشطة تجاه القضية الأرمينية، فتم تكليف لايارد سفيرها فى الآستانة بالسعى فوراً و دون إبطاء للحصول على التزام السلطان العثمانى بإصلاح أوضاع شرقى الأناضول، ثم عاودت الإدارة البريطانية عن طريق سالسبرى وزير خارجيتها للضغط على الباب العالى من أجل تطبيق الإصلاحات الأرمينية التى أقرها مؤتمر برلين، وتوالت المشاريع البريطانية لتنفيذ الإصلاحات، وعلى خط متواز كانت الوعود التى قطعها الباب العالى ما هى إلا لمرواغة القوى الأوروبية، وخصوصا بريطانيا. وجدير بالتسجيل، بأن التحركات البريطانية لم تتوقف عند هذا الحد، بل واصلت فى ظل شراكة أوروبية، فقد سفراء الدول الأوروبية الست بالآستانة (بريطانيا – روسيا – فرنسا – ألمانيا – إيطاليا – النمسا المجر ) مذكرة للسلطان عبد الحميد الثانى فى 11 يونيو 1880 طالبوا فيها بتطبيق المادة (61) نظراً لتدهور الأوضاع بشكل سيئ فى الولايات الأرمنية. وعلى هذا النحو، باءت المحاولات البريطانية لتنفيذ الإصلاحات الأرمينية بالفشل فى هذا التوقيت، لأن بريطانيا أولت مصالحها اهتماما كبيرا على حساب الأرمن وقضيتهم، وخصوصا أن هذا هو عُرف العلاقات الدولية المصلحة أولاً وأخيرا، بذلك أصبح الأرمن بين أحد أمرين، إما أن تضيع قضيتهم فى غمار المصلحة البريطانية والتسويف العثمانى، أو يقوموا بعمل يُجدد دماء قضيتهم ويجعلها فى المقدمة، وخصوصا أن هناك نماذج تكاد تكون نجحت إلى حد ما فى الحصول على الحكم الذاتى أمثال (بلغاريا – الجبل الأسود – صربيا)، كل هذا سيتمخض عنه تعزيز الروح الثورية لدى الأرمن ضد الإدارة العثمانية. ثورة الأرمن ووصلاً لما سبق، تصاعد المد الثورى الأرمينى ضد الإدارة العثمانية، وتجسد ذلك فى ظهور الجمعيات السرية وتطورها لكيانات سياسية منظمة مُمثلة فى ثلاثة أحزاب (الأرميناجان والهنشاك والطاشناق)، ونظرا لأن الحركة الثورية قد اختمرت خارج أرمينية العثمانية - ما عدا الأرميناجان – فتأثرت بحركة العمال فى روسيا، وصبغت بصبغة اشتراكية، وهذا لايتفق مع سياسة بريطانيا أو توجهها، ولهذا، حاولت الإدارة البريطانية رصد تحركات الأرمن الروس فى تفليس - منبع الثورة الأرمينية - لمحاولة إيجاد آلية لمواجهة أية تأثيرات على الأرمن العثمانيين. مما جعل الحركة الأرمينية الثورية شوكة فى حلق المصالح البريطانية ذات التوجهات الرأسمالية، وكذلك الحكومة القيصرية صاحبة ذات التوجه، ففكرة اتحاد الأرمن الروس مع الأرمن العثمانيين، قد يؤثر بشكل سلبى على المصالح البريطانية والروسية، فعملت القوتان على إجهاض الثورة الأرمينية، بل أكثر من هذا، بدأت بريطانيا تبحث عن آلية سياسية تواجه هذا المد الاشتراكى وتحقق قبولاً لدى الأرمن، فتأسست الجمعية الإنجليزية الأرمينية عام 1888 لتُمثل التوجهات السياسية البريطانية إزاء الملف الأرمنى. المذابح الأرمينية فى الحقبة الحميدية كذلك تمخض عن توتر العلاقات الدولية وبُعد القوى الأوروبية عن قضية الإصلاحات الأرمينية، وخصوصا بريطانيا، ترك الأرمن وحدهم فى مواجهة الإدارة العثمانية، مما جعل الأمور تتفاقم حتى وصلت لمنعطف خطير تبلور فى مذابح عامّى 1894- 1896 . وعلى خط متوازٍ، أجبرت المذابح القوى الأوروبية على العودة لفتح ملف الإصلاحات الأرمينية، فقدمت بريطانياوفرنساوروسيا مذكرة للباب العالى فى 11 مايو 1895 يطالبون فيها القيام بإجراءات محددة فى الولايات الست خاصة بوضع آليات من شأنها إنهاء حالة القمع والتوتر، والعمل على استقرار الأرمن العثمانيين، لكن هذه الإرهاصات تمخض عنها خاسر واحد ووحيد ألا وهو الشعب الأرمينى، فقد راح ضحية هذه المذابح ما بين 100 و 150 ألف أرمينى.