سهير عبد الحميد فى سطور حياة جلال أمين دروب عديدة تستطيع أن تتطرق إليها وتبحر بها دون ملل، لأنك فى كل خطوة تكتشف المزيد حتى إن مذكراته التى صدرت فى جزءين، ربما لم تتسع لكل التفاصيل التى روى لى فى السطور المقبلة الكثير منها لتصبح انفرادا أفوز به. وأقصد بها تفاصيل علاقته بحزب البعث والمشاكل التى وقع فيها بسبب هذا الانتماء بعد حل الوحدة بين مصر وسوريا. ومراحل تطور فكرة القومية العربية التى ظل مخلصا لها من البداية. وكيف لا وهو نجل أحمد أمين، الذى أرسى قواعد الثقافة العربية الحديثة فكان بديهيا أن ينشأ جلال أمين ويعيش مخلصا للقومية العربية كفكرة ومبدأ ومستقبل حياة. كتبت ذات مرة وهو ما تسبب لك فى مشكلة فيما بعد مع النظام، أن البعثيين سبقوا عبد الناصر فى طرح مفهوم الوحدة العربية؟ بالضبط ولقد سبق حزب البعث فى طرح فكرة القومية العربية مفكر وكاتب سورى مهم هو ساطع الحصرى، وقد طبع مركز دراسات الوحدة العربية حديثا فى بيروت أعماله وكتاباته. ما زلت أذكر كيف كتب بعد حرب فلسطين محللا سر الهزيمة فى الصفحة الأولى من الكتاب قائلا إن الناس يتعجبون كيف لثمانية جيوش عربية أن تنهزم أمام جيش واحد. ثم أضاف تلك هى المسألة، فقد كان يقصد أن التشرذم هو السبب وراء الهزيمة. وكان الحصرى محاورا قوى الشخصية وكان يعلق آمالا كبرى على وحدة اللغة بين الشعوب العربية.وأفل نجمه بعد أن تأسس حزب البعث عام 1942 ثم بعد أن تولى عبد الناصر زمام الدعوة إلى الوحدة العربية. ذكر أكرم الحورانى مؤسس الحزب العربى الاشتركى، الذى اندمج مع البعث فى حزب سياسى واحد، فى مذكراته أنهم كانوا مغتبطين بانضمام ابن أحمد أمين وأن اسمه حسين للحزب..هل انضم شقيقك أيضا أم أن الحورانى أخطأ ؟ لا هو أخطأ، فحسين لم تكن له أى علاقة بالبعث. هو يقصدنى فقد تعرفت على حزب البعث وكنت طالبا فى كلية الحقوق من خلال الطلاب البعثيين فى الجامعة والذين كانوا حريصين على ضم طلاب مصريين للحزب، فقد كان ميشيل عفلق يقول إنه لا أمل للحزب ونجاح أفكاره إلا إذا تم افتتاح فرع له فى مصر. وقد كنت من أوائل المصريين الذين التحقوا بالحزب، وقد أقنعنى بالالتحاق به تحديدا صديقى الدكتور على مختار رحمه الله، وقد كان شابا دمث الخلق قوى الشخصية وكنا أصدقاء منذ المرحلة الثانوية. وبرغم وجوده فى الحزب قبلى فإن الشباب العربى المنتمى للبعث فى جامعة القاهرة اختارنى رئيسا للحزب فى مصر، لأن عليا لم يكن قد أنهى دراسته بعد فى كلية الطب. بينما كنت أنهيت دراستى بكلية الحقوق. هل انضمت فيما بعد أعداد ضخمة من المصريين إلى حزب البعث؟ على الإطلاق..فقد تراوحت الأعداد وقت حل الحزب بعد الوحدة بين مصر وسوريا 1958 من 200 إلى 300 شخص فى تقديرى المتواضع. وكانت تضم مجموعة من الفلاحين والعمال المستنيرين سياسيا بالإضافة إلى الطلبة.. من من الشخصيات المعروفة فى مصر انضمت إلى حزب البعث ومن الذين قمتم بالاتصال بهم ؟ اتصلنا بشخصيات عديدة ومنها من انضم للحزب رسميا ومنها من ظل على تعاطفه مع الفكرة ومن هؤلاء أحمد بهاء الدين الذى ظل وفيا للفكر القومى العربى دون أن يلتحق بحزب البعث. واتصلنا بعصمت سيف الدولة الذى كان يكبرنا فى السن وقد قال لى ذات مرة مازحا "انت وعلى مختار خفتم أدخل الحزب أبلعه منكم " وقد كان فى حديثه شيء من الصواب، فقد كان رحمه الله شخصية مسيطرة وخشينا أن يسيطر فكره على مجريات الأمور. كما اتصلنا بسليمان فياض ورجاء النقاش. وأتذكر أن طارق البشرى التحق بالحزب أياما معدودة ثم تركه. هل ظللت فى الحزب حتى تم حله أم أنك استقلت كما ذكر البعض؟ لقد ظللت فى الحزب حتى تم حل حزب البعث فى مصر وذلك بناء على الاتفاق الذى تمت بمقتضاه الوحدة، حيث أوجب حل الأحزاب. وقد علمت بنبأ حل الحزب بينما كنت على المركب فى طريقى إلى انجلترا لإتمام البعثة. لكنى وبينما كنت هناك فى إنجلترا التقيت عددا من الطلاب البعثيين لم تعجبنى أفكارهم وطريقتهم التى تعتمد على السفسطة، فتقدمت رسميا باستقالتى إلى الحزب الذى كان مازال مستمرا فى العمل فى بعض البلدان العربية. هل كانت رغبة منك فى التخلص من أى ضغوط قد تتعرض لها من النظام المصرى ؟ على الإطلاق فعندما تقدمت باستقالتى كانت العلاقة بين الناصريين والبعثيين فى أحسن حالاتها عقب الوحدة، وقد تنامى إلى أن ميشيل عفلق شعر بالضيق من استقالتى. لكن كنت أريد التركيز فى البعثة. بالإضافة إلى عدم رضاى عن طريقة البعثيين العرب فى لندن فى التعاطى مع الأحداث السياسية. على ذكر ميشيل عفلق..كيف كانت حدود علاقتك به؟ لقد التقيت به مرارا فى مصر وكان يستأجر شقة فى ميدان مصطفى كامل. كنت كثيرا ما أجلس إليه ومعنا فاروق شوشة وكان ميشيل يملى علينا جل كتاباته ونحن نكتب وراءه لأنه كان يحب أن يتحدث لا أن يكتب. كان عميق الفكر وشخصية جذابة للغاية. هل كان ميشيل عفلق مخلصا لفكرة القومية العربية أم أنه كان يتخذها مطية لتحقيق حلم الزعامة ؟ ميشيل عفلق لم يكن يحب الزعامة على الإطلاق، لكنه كان زعيما بسبب حلاوة روحه وبراءته وإخلاصه التى كانت تدفع كل من يقابله إلى حبه. التقيته آخر مرة قبل أن أسافر فى البعثة قبيل تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا، ويومها دخل علينا وقال أخيرا عبدالناصر وافق على الوحدة، واستشفيت من حديثه أنه كانت هناك مداولات عديدة لإقامة الوحدة وأن عبد الناصر ربما يكون متحفظا عليها. بعد التحاقى بالبعثة انقطعت أخبار عفلق عنى تماما وقيل إن صدام حسين وضعه تحت الإقامة الجبرية رغم أن صدام كان يتحدث للشعب العراقى زاعما أنه يسترشد بأفكار عفلق، لأنه كان يعلم مدى شعبية عفلق وكثرة أعداد البعثيين.لكنه كان يكذب. لكن ليست لدى معلومة مؤكدة عما حدث لعفلق خصوصا أننى ظللت فى إنجلترا لمدة ست سنوات ولم أكن أتابع جيدا ما يحدث. كان عفلق إذن على اتصال قوى بناصر وكان السوريون بالفعل يريدون الوحدة؟ بالتاكيد لقد كانت فكرة القومة العربية راسخة فى سوريا، وكانوا فى عراك مع الشيوعيين وزعيمهم خالد بكداش. وكان الروس يساندون الشيوعيين فى روسيا للوصول إلى الحكم. وكان هذا أحد أسباب حماسة البعثيين لإقامة الوحدة مع مصر وقيل إن أحد أسباب عبد الناصر قبول الوحدة أن يمنع وصول الشيوعيين للحكم، وقد قرأت فى مذكرات عبد اللطيف البغدادى أن أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة اعترض على الوحدة فقال له ناصر ساخرا "اسأل أسيادك الأمريكان " فالأمريكيون كانوا مؤيدين للوحدة أيضا لمنع الشيوعيين من الوصول إلى سدة الحكم. وكيف انقلب شهر العسل بين البعثيين وناصر إلى خصام وعداء فى تقديرك ؟ هناك تفسيرات عديدة يمكن طرحها : عبد الناصر وضع رجل له فى سوريا يدعى "عبد الحميد السراج"والذى مارس الديكتاتورية بأسوأ أشكالها. كما أن عبد الناصر أوفد إلى سوريا موظفين مصريين وإداريين عملوا بمنطق الموظف المصرى ولم يكونوا مؤمنين بفكرة الوحدة ولم يجتهدوا لإنجاحها. من جانب آخر أدت قوانين الإصلاح الزراعى والتأميم إلى مشكلة حقيقية لأنها لم تناسب المجتمع السورى. من جانب آخر كره البعثيون الاستبداد الغبى فانقلبوا على عبد الناصر، وهو للحق أعطى تعليماته برجوع المصريين دون إطلاق رصاصة واحدة. وماذا بعد ؟ بعد الانفصال بنحو عامين عاد ميشيل عفلق للتفاوض حول الوحدة مع ناصر خصوصا بعد حدوث ثورة فى العراق ورغبة النظام الجديد فى قيام وحدة ثلاثية تجمع مصر والعراقوسوريا. ونقلت لنا الإذاعات وقتها فى لندن مفاوضات العودة للوحدة بين ناصر وعفلق. ويومها قال ناصر وصفا على عفلق جرحنى للغاية، حين قال "الراجل اللى بيتهته "وذلك لأنى كنت أقدر عفلق للغاية. وأعلم جيدا أنه كان يعشق فكرة الوحدة ويعلم أنها لن تتم بدون مصر فأراد استعادتها ولكن بطريقة ديمقرادطية. إلى أى مدى تعنت الأمن المصرى مع كل من انتمى يوما إلى البعث؟ الأمن المصرى كان متخيلا أن المنخرطين فى صفوف البعث منظمين وأعدادهم كبيرة برغم أن الواقع كان بخلاف ذلك، لذا بمجرد موافقة ناصر على الوحدة تم حل البعث وقد أغضبنا ذلك للغاية وتعرض كثيرون منا لمضايقات أمنية ومنهم على مختار الذى سجن لمدة أسبوعين. إنت شخصيا تعرضت للتعنت من الأمن المصرى وكدت تحرم من السفر إلى أحد المؤتمرات فقط لأنك كنت بعثيا؟ فى عام 1963 دعيت لحضور مؤتمر للطلبة العرب فى لندن، وقدمت فيه محاضرة انتقدت ميثاق عبد الناصر الذى أصدره 1962 وامتدحت فى تلك المحاضرة البعثيين مؤكدا أنهم سبقوا عبدالناصر فى طرح الوحدة العربية وبينما كنت عائدا إلى مصر تم استقبالى فى المطار بشكل سيىء. وبينما كنت مسافرا 1966 لمؤتمر قابلتنى مشكلة فى الحصول على تاشيرة خروج فلجأت إلى خالد محيى الدين وكان صديقا لشقيق أحد الأصدقاء، وعندما ذهب للقاء شعراوى جمعة أخبره أن الإجراءات المتخذة ضدى ترجع لأنى بعثى وفوجئت بخالد محيى الدين يخبرنى أن السماح لى بالسفر يشبه الولادة المتعثرة، وكنت دائما تحت أعين النظام فقد فوجئت بعد حصولى على الدكتوراه بأحد الأساتذة يخبرنى أن النظام يريد أشخاصا مثلى، يتعاونون معه والتقيت بالفعل بأحد المسئولين فى منظمة الشباب الذى تناقش معى فى عدة أمور وعرفت بعدها أنه قال لزميلى "أنت جايب لى واحد بعثى " لا أعتقد أن هناك فوارق ملموسة بين فكر البعثيين والفكر الناصرى؟ لا توجد فروق مطلقا، لكن عبد الناصر كان رجلا عمليا ولم يكن رجل فكر. فكرة القومية العربية تعيش كبوة خطيرة لا تنذر بالتفاؤل ولا تشى بأن تحقيق التكامل والانسجام العربى أضحى ممكنا. هل تتفق معى فى ذلك؟ إن استرجاع تاريخ القومية العربية خلال الخمسين عاماً الماضية لا بد من أن يقوى شعورنا بالقنوط. فبعد فترة من الازدهار بين أواسط الخمسينيات وأواسط الستينيات من القرن العشرين، من حيث ازدياد قوة الشعور بالولاء، أو ارتفاع درجة النشاط من أجل تحقيق الوحدة والاستقلال، أصيبت القومية العربية بضربات فى النصف الثانى من الستينيات، ثم توالت عليها الضربات من كل اتجاه طوال الأربعين عاماً التالية، حتى كادت الدعوة إلى الوحدة، بأى صورة من الصور، تختفى من جداول أعمال السياسيين العرب وخطبهم، وأصبحت المقارنة بين مشاعر شبابنا اليوم من الوحدة، ومشاعر جيلى عندما كنا فى مثل أعمارهم، تدعو إلى الأسى والدهشة فى الوقت نفسه. غير أننى أريد أن أزعم أن قراءة تاريخ القومية العربية لفترة أطول من خمسين عاماً، أى خلال قرنين كاملين، يمكن أن تخفف من هذا الشعور بالقنوط. كيف ذلك؟ لقد مرت القومية العربية خلال القرنين الماضيين بثلاث مراحل باهرة من الازدهار، تلتها ثلاث مراحل من التدهور، وكانت أولى هذه المراحل فى العقدين الثانى والثالث من القرن التاسع عشر، وقد قام بالدور الناصع فيها، والى مصر محمد على وابنه إبراهيم باشا، فمحمد على كان يطمح بلا شك إلى إقامة إمبراطورية عربية، ونجح فى فتح السودان وضمها إلى مصر فى سنة 1821، واستمر ذلك ثلاثين عاماً حتى وفاته فى سنة 1849. وتحالف محمد على مع الأمير بشير الثانى الشهابى الذى حكم لبنان نحو خمسين عاماً حتى سقط معه فى سنة 1840، ودان الحجاز لمحمد على بالولاء، إلى أن ضُرب (محمد علي) فى سنة 1840. ودخلت حركة التوحيد العربى فى حالة انحسار طوال الربع الثالث من القرن التاسع عشر، ثم التهبت المشاعر من جديد ونشطت حركة المناداة بالتوحيد فى العقدين الأخيرين من القرن وخلال الحرب العالمية الأولى، فتعددت منذ سنة 1875 الجمعيات السرية والعلنية التى راحت تنادى بالاستقلال للعرب، وبإحياء حضارتهم، وتحقيق وحدتهم، وأسهم فى هذه الدعوة كتّاب ومفكرون مسلمون ومسيحيون كعبد الرحمن الكواكبى ونجيب عازورى، حتى تحولت الدعوة إلى ثورة ضد الإمبراطورية العثمانية قادها الحسين بن على شريف مكة، ثم ضُربت الفكرة والحركة والثورة العربية ضربة قاصمة، كما هو معروف، بخيانة الحلفاء لوعودهم وقيامهم بتقسيم غنائمهم العربية بين بريطانيا وفرنسا، وقد انشغلت دول المشرق العربي، فى فترة ما بين الحربين، وكذلك مصر، بتحقيق الجلاء عن الأقطار العربية. ثم دبت الحياة من جديد فى حركة القومية العربية فى أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، وأسهم فى إذكاء هذا الشعور كتابات ساطع الحصرى، والمفكرون القوميون العرب ومنهم قسطنطين زريق، وكذلك مفكرى حزب البعث العربى الاشتراكى، واقترن انتعاش الفكرة القومية هذا بتتابع الثورات والانقلابات فى دولة عربية بعد أخرى، وبإعلان كثير من هذه الثورات والانقلابات إيمانه بالوحدة العربية، بل إن بعضها نجح فى تحقيق أشكال مصغرة من الوحدة، على أمل أن تتسع فى المستقبل فتشمل الدول العربية كلها. كان أكثر صور التوحيد نجاحاً وطموحاً اتحاد مصر وسوريا فى سنة 1958، حين ظهرت الجمهورية العربية المتحدة إلى الوجود، على أمل أن تكون نواة لوحدة عربية تزداد اتساعاً. بعد ذلك، أصاب الانتكاس الحركة القومية من جديد، وتلقت ضربات متتالية، من انفصال سوريا عن مصر فى سنة 1961، ثم فشل محادثات الوحدة التى تجددت فى سنة 1963 بين سورية ومصر والعراق، واشتداد هجوم الدول العربية "المحافظة" على الدول العربية "الثورية"، وزيادة التباعد والجفوة بين الفريقين، إلى أن أصيب الجميع بضربة قاصمة فى سنة 1967، عانى جرّاءها الثوريون والمحافظون معاً، كما أصابت فى الصميم حركة القومية العربية، وأضعفت بشدة الشعور بالانتماء والولاء لأمة عربية كبيرة نتيجة الضعف الذى أصاب الأمل بتحقيق أى هدف من الأهداف القومية الكبرى، ولا يزال هذا الضعف فى حركة القومية العربية وفى الولاء القومى سائداً حتى اليوم، الأمر الذى طبع بالإحباط والقنوط أى تفكير يتعلق بمستقبل القومية العربية هل نستطيع القول إن سيطرة نموذج الزعيم الأوحد هو الذى أضعف كل تجارب الوحدة العربية؟ هناك نقطة ضعف أساسية ومشتركة بين التجارب القومية الثلاث السابقة: تجربة محمد على، تجربة الحسين بن علي، تجربة جمال عبد الناصر. فهذه كلها كانت حركات قومية تُلقى على الناس من علٍ، وتقودها شخصيات قومية وملهمة وقادرة على تجميع الناس حول هدف الوحدة، أو على الأقل على إجبار الناس على قبوله، إلا أنها كانت بطبيعتها غير مؤهلة للصمود طويلاً فى وجه عواصف آتية من الخارج. ومهما يكن الأمر، فإنه ليس من المستغرب أن يكون للعوامل الخارجية دور فى تحديد مصير القومية العربية، حتى الآن على الأقل، أكبر مما تؤديه أى عوامل داخلية، فالدول العربية ظلت طوال المائة والخمسين عاماً الماضية على الأقل، دولاً تابعة، بمعنى أو آخر، لقوى خارجية. وكانت تجربة محمد على قد بدأت قبل أن تتم أى دولة أوروبية ثورتها الصناعية، ومن ثم قبل أن يكون لأى من هذه الدول أطماع ذات خطر على أى بلد عربي، لكن هذه الأطماع اكتملت ودفعت الدول الأوروبية إلى إيقاف محمد على عند حده، وذلك قبل أن يكتمل، للأسف، مشروعه فى إقامة إمبراطورية عربية، ومنذ ذلك التاريخ أى منذ سنة 1840، وقفت القوى الخارجية بالمرصاد للعالم العربى، فأصبح هو التابع، وهى المتبوع، فكيف يمكن أن نتوقع أن يكون التطور الداخلي، سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، هو الحاكم الرئيسى لمسار القومية العربية. أعود لأسألك كيف يولد الأمل من رحم القنوط فى تحويل الشعور القومى العربى إلى واقع معاش؟ إن الباحث عن سبب للتفاؤل بمستقبل القومية العربية سيجد أن الأمر المدهش فى الوضع الراهن للعرب ليس فشلهم فى تحقيق وحدتهم، ولا دوام انقسامهم وتفرقهم، وإنما استمرار وجود الشعور القومى العربى فى نفوسهم، وأن أمل الوحدة لا يزال يطوف بأذهانهم بين الحين والآخر، على الرغم من كل ما تعرضوا له طوال المائة والثمانين عاماً الماضية، المدهش أيضاً، هو أن المجتمعات المدنية فى هذه الأمة التى تبدو كأنها تمر بأحلك أيامها، والتى يبدى حكامها استهتاراً بالروابط القومية، بل مقاومة للتيار الداعى إلى تقريب العرب بعضهم من بعض، ويتخذون خطوات متتالية للتقارب مع إسرائيل، فإنها (المجتمعات) لا تزال ترفض خطوات التطبيع مع إسرائيل، وهى مستعدة لتحدى الحكومات العربية من أجل مساندة الفلسطينيين ودعمهم. وعلى الرغم من الجهود طوال 180 عاماً لتقطيع أوصال الأمة العربية، فإن الكتاب العربى الذى يصدر فى الجزائر أو فى تونس، يقرأه أهل الكويت والبحرين، وما يكتبه الشاعر الفلسطينى أو السورى يتحول إلى أغنيات يتغنى بها المصريون والسودانيون. كما أن الحركة القومية العربية، بعد أن كانت تتصدى فى الماضى للاحتلال العسكرى أو للسيطرة السياسية والاقتصادية، أصبح مستقبلها اليوم يتوقف على مدى نجاحها فى التصدى لقضية الوجود نفسه، أى الهوية الثقافية هكذا أنظر إلى ما تتعرض له القومية العربية اليوم من تهديد، فالغضب ممّا يحدث للغة العربية حالياً، أشبه بالغضب من الاعتداء على الشرف، ومن تسميتنا بغير أسمائنا، ومن تغيير المقررات المدرسية، الأمر الذى ينطوى على تزوير للتاريخ من أجل إجبارنا على التنازل عن هويتنا، والتسليم عن طيب خاطر بما يقوله أعداؤنا عنا، وقبول ثقافتهم كأنها ثقافتنا، ومعاييرهم فى الصواب والخطأ كما لو كانت معاييرنا.