نجوى العشرى توحد الفنان الرائد حامد عبدالله مع فرشاته، وقضايا وطنه، فأصبح ذاتا مبدعة يعيش الفن، ويرسم الحياة، وبهذا ظل صاحب إسهامات فنية وأدوار ثقافية وطنية لا تنكر، حيث استمر عطاؤه رائدا فى كليهما حتى رحيله. ولأن إحياء مسيرة الرواد فى مختلف مجالات الفن والإبداع أحد الثوابت المهمة فى تأكيد هويتنا الثقافية، وتواصل منجزنا الحضارى. من هنا تستمد هذه السطور أهميتها فى إعادة قراءة إبداعات الفنان الكبير الراحل حامد عبد الله وهو رائد التشكيل بالحروف والذى يحتفل قطاع الفنون التشكيلية به حالياً من خلال معرض بعنوان «ذكرى» بقاعة أبعاد بمتحف الفن المصري الحديث (ساحة دار الأوبرا المصرية بالجزيرة)، ويضم 27 لوحة فنية تمثل مراحل مختلفة في مشواره الفنى بعضها يعرض لأول مرة. الاحتفال لم يقتصر على المعرض، وإنما أيضاً أقيمت ندوة وأمسية فنية في افتتاح المعرض بحضور الفنان د. صلاح المليجي رئيس قطاع الفنون التشكيلية السابق وأرملة وأبناء الفنان حامد عبد الله الذين حضروا من باريس التي يقيمون فيها، وتحدث في الندوة الناقد الفنان د. عز الدين نجيب والفنان اللبناني ناصر السومي. عندما نستعرض مراحل الحياة الفنية للفنان الراحل الذي بدأ يحقق شهرة واسعة منذ صغره اعتماداً على موهبته الفذة،سنجد أنه في مرحلته الأولى التشخيصية كانت القامات الصرحية للإنسان بشموخها وسموها توحي وتستشرف وكأنما تتنبأ بمرحلته الأخيرة الحروفية على تباين بل تناقص التقنية بين المرحلتين، وفي كلتا المرحلتين كان يتجاوز مجرد المحكاة الواقعية أو نقل الظاهر المرئي إلى دور يجليه الفنان – بوسيلتين متغايرتين، لكن بينهما صلة عميقة ومضمرة هي النزوع إلى تبسيط الظاهرة المرئية واختزالها إلى جوهرها وليس الوقوف على عرضها، كما نرى في لوحات مثل في القهوة (1938) أو الدلوكة (1941) أو الخزف (1947) أو الصيادون في بورسعيد (1948) وحتى في لوحات البورتريه الصريحة - مثل تحية حليم (1941) والمفكر (1935). في المرحلة الوسطى نجد عنده حضور إيحاءات فولكلورية، حيث يقتصر الفنان هنا على الخطوط الخارجية التي تكاد تكون بدائية – أو طفولية لكنها تتسم بقوة وبساطة عن فكره وحسه بل توحي أحيانا بروح من السخرية. في تشكيلاته من الحروف العربية يهتم الفن بتحقيق تعبير تشكيلي من وحي الكلمة معبرا عن معناها ومضمونها بالألوان والخطوط، محاولا توصيل معناها للمشاهد حتى إذا لم يكن يعرف اللغة العربية. يقول عنه الأديب إدوارد خراط:«لا أظن أن فنانا مصريا استطاع أن يسيطر على مراحل فنه المختلفة بأستاذية وإلهام لا يخطآن مثله، على الرغم من تنوع المراحل واتساقها في آن مثلما فعل حامد عبد الله الذي أشار إليه قاموس بتي لاروس الشهير للفنون راصدا قدراته الخارقة على تطويع كل مفرداته وأسلوبه الشخصي». كان حامد عبد الله دائب الحركة فقد عرض في باريس، أمستردام، سوريا، نيويورك، اليابان، تايوان، الهند، كولومبو، طهران، العراق وبعد ذلك قرر الإقامة في باريس عام 1967 مع زوجته كرستين وأبنائه سمير وهو مخرج سينمائي حاز على جائزة أولى من المهرجان معهد العالم العربي عام 2000 ومؤنس وهو الابن الأكبر، ويعمل صحفيا ورث عن أبيه الثورة والتمرد وأنيسة عازفة بيانو. كان عام 1967 غريبا على الفنان، حيث استقر في البلد الذى أحبه لكن تأتي هزيمة 1967 العسكرية على مصر، فرفض حامد عبد الله مثل كل المثقفين هذه الهزيمة وتتجلى مرحلة الحروفية في أعماله، والحروفية هنا تعبيرية وليست حروفية خطية، فهو لم يكتب خطا بأي شكل من أشكاله، لكنه طوع الخط إلى فكر تعبيري رسم الحرف مدموجا مع الأرض والبشر أو مستخرجا الحرف من باطن أشكاله عالج حامد عبد الله الحرف العربي على أرضية ذات تقنيات عالية الأداء، اللوحة مشققة مثل الأرض الجرداء ورمادية اللون، حيث أدمج الفنان الألوان الزيتية مع ألوان الأكرليك ليخلق عجينة لونية أو تراكيب من طبقية اللون الخاص به ثم دخل من هذه المرحلة إلى أخرى بعد الانتصار العسكري في عام 1973، حيث بدأ يدمج الألوان الأكرليكية مع الورق بعد طحنه في شكل عجائن جديدة على سطح اللوحة وبدأت الألوان تعود إلى المراحل الأولى من شبابه، حيث بدأ الأحمر والأصفر يزحفان بقوة مع الأزرق النيلي وعاد الحب للوحة وبدأ عنتر يعانق عبلة في تلك اللوحات، كما بدأ الفلاحون والحدادون وأبناء الأحياء الشعبية يعودون لكن بشكل أكثر اختزالا في اللوحة ذات البناء المعماري المميز، وبدت الحروفية مثل قوة تعبيرية ذات أساس وعمق فكري وجداني تغيرت أسماء اللوحات إلى «الحب» ومن نفس الكلمة يرسم رجلا يصارح امرأة فتتحول الكلمة إلي ليلة عرس وتتحول اللوحة إلى حالة فرح عام للوطن، وأقام بهذه المجموعة معرضا بالمركز المصري في باريس عام 1975، «إن الحب والإرادة والانتصار والقوة والحرية ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» عبارات تأتي كرسم مباشر مثير وتستمر رحلة الحرف عنده حتى العام 1976 حيث ينغلق على نفسه إلى حزن شديد بتأثير الأحداث السياسية بزيارة السادات إلى إسرائيل، فيصاب بالسرطان وظل يحمل لوحاته ويسافر إلى تونس ، بغداد، دمشق، المغرب لا يشعر أحد بأحزانه لأنه يخفيها خلف كبرياء الفنان وتحت معطفه الأسود كان رجلا شامخا كريما وهنا يقول حامد عبد الله بنفسه «الفنان المعاصر عليه ألا يخضع للتراث أو يكون عبدا له، بل عليه أن يتناوله بالنقد المعرفي والفن الإسلامي والفرعوني هما مجال خصب للمبدع الذي يستوعبه، انظر إلى لوحات جوجان الذي نقل لوحة فرعونية بدقة شديدة لكنها ملونة بعالم جوجان ضروري التعامل مع التراث، لكن مع العلم بأننا في عصر الكواكب وغزو الفضاء فلابد من أن نكون في مستوى العصر». والفنان التشكيلي الراحل حامد عبد الله «ولد في 10 أغسطس عام 1917 وتوفى في 31 ديسمبر 1985» ولم تكن له مرجعية فنية، فوالده كان مزارعا أميا من سوهاج ثم استقر في منيل الروضة بالقاهرة في قطعة أرض زراعية صغيرة، وألحق ابنه حامد بقسم الحديد المشغول في معهد الفنون التطبيقية، لكنه تمرد على أسلوب التدريس، واكتسب من الحديد الصلابة وقوة الإرادة، طحنته ظروف الحياة للكدح عاملا حتى يتمكن من تدبير نفقاته، ولم تمر أعوام قليلة حتى بدأ نضجه الفني يؤتي ثماره، فالتحق بمعهد الفنون والزخارف (فنون تطبيقية) عام 1931، درس الطرق على الحديد وتخرج عام 1935، ثم أقام أول معارضه عام 1938، وأقام أول معرض خاص لأعماله بالقاهرة عام 1941، وأقام معرضا شاملاً لأعماله بأرض المعارض بالجزيرة عام 1956، وبلغ عدد معارضه 100 معرض.