د. ياسر ثابت فى الثورات والأزمات، فتش عن الظلم الاجتماعى والتفاوت الطبقى والتعسف الأمنى. ربما لهذا قد تموت السياسة وتغيب الديمقراطية فى بلدٍ لكن أهله لا يثورون، لكن المصير معروف بالنسبة لأى بلد،ٍ يشعر فقراؤه بأن الدولة تحابى الأغنياء، ويكتشف أبناؤه أن الغنى لا يفعل ما يكفى لتحقيق التكافل الاجتماعى وإحداث التوازن المطلوب فى مجتمع على حافة الفقر والعوز المادى. وفى مصر، هناك من يظن أن الوطن سلسلة مفاتيح، فيستخدم مفتاحًا لإنشاء مشروعات استهلاكية وثانيًا لافتتاح فروع محال تجارية، وثالثًا لإقامة معارض أثاث أو سجاد أو سيراميك، ورابعًا لتشغيل توكيلات أجنبية، وكلها أساليب مشهورة لجنى المال فى أسواق غير منتجة أو بأسلوب اقتناص الريع، وتداول الأصول المعروضة بدلاً من الإنتاج. المفتاح الغائب فى هذه السلسلة، هو ذلك الذى يتعلق بمشروعات وأعمال خيرية تهدف إلى تعليم الناس الصيد بدلاً من إعطائهم سمكة. لم نسمع، وسط صخب الصراع السياسى واستغاثات خبراء الاقتصاد، عن رجال أعمال يتبنون مشروعات قومية توفر المزيد من فرص العمل وتدعم جهود التنمية، ولم نر من يقيمون مشروعات لتطوير قرى أو أحياء، أو توفير التعليم المهنى والصناعى الذى نحتاجه بشدة هذه الأيام، ولم نقرأ عن مبادرات من أصحاب المال والأعمال لدعم المشروعات الصغيرة بتوفير التمويل اللازم وإقامة مؤسسات اجتماعية ومنح قروض بدون فوائد للمساعدة فى إقامة ورش ومحال تقلل من معدلات البطالة. لقد انشغلنا بالصراع عن البناء، وتورطنا فى التناحر ونسينا مسئوليتنا عن التنمية البشرية. والتنمية التى نعنيها لا تقوم على الصدقة التى ندسها فى جيب فقير، أو التبرعات لمحتاج، أو المساعدة فى تجهيز العرائس، وكل ذلك جهدٌ مشكور، لكنها ليست التنمية التى نقصدها ونتطلع إليها. إنها أوسع نطاقًا من ذلك، وأعم فائدة، ثم إنها أبقى أثرًا. وربما غفل أصحاب المال والأعمال عن حقيقة وجود شريحة فى المجتمع ليست أصلاً بحاجة إلى كيس أرز أو سكر مما تقدمه الجمعيات الخيرية أو بعض القوى السياسية والأحزاب فى مواسم الانتخابات، بل هم بحاجة ماسة إلى مساكن تلائم دخلهم المحدود، وتعليم يمنحهم معرفة وأملاً فى المستقبل، وفرصة عمل كريمة تساعد على التعفف عن مد أيديهم طلبًا للمساعدة. وربما نسى هؤلاء أن المجتمع ليس بحاجة إلى بناء دور العبادة، وهو العمل الخيرى المحبب لدى كثيرين، بقدر حاجته إلى تنويع الأعمال الخيرية لتشمل إنشاء عيادات علاج الأمراض المستعصية، ومراكز غسيل الكلى، وعلاج مرضى الكبد، إضافة إلى لجان توفّر الأطراف الصناعية والمستلزمات السمعية والبصرية للمعوقين. عن المسئولية الاجتماعية لرجال الأعمال نتحدث فى أواخر عهد مبارك، ومع انسحاب الدولة من قطاعات رئيسة تخدم المجتمع، شهدت مصر ما يوصف باقتصادات السمسرة والإحسان، التى تقضى بإفقار الشعب ثم التصدق عليه. هكذا تبَّنى النظام عددًا محدودًا من مليارديرات الربح السريع، لهم نصيب الأسد من الثروات، يتبرعون بين الفينة والأخرى فى طقوس احتفالية وإعلانية أقرب إلى المظهرية، بالإعالة والإعانة، تخفيفًا للضغوط على الفقراء بدلاً من انتشالهم. انتشرت فى السنوات الأخيرة جمعيات البر مثل بنك الطعام ومصر الخير، التى إذ تعكس رحمة قطاعات كبيرة من أبناء المجتمع بالقطاعات المحتاجة، فإنها فى ذات الوقت تكشف عجز الدولة وماكينتها الاقتصادية عن تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين. حبة الإسبرين لا تشفى مرضى القلب ومع شيوع الثرثرة الفكرية والسياسية والاقتصادية فى دوائر النخبة المصرية، وعدم المبالاة، وسيطرة ظاهرة يطلق عليها البعض «الأنامالية»، غابت المسئولية فى مدلولاتها العامة المرتبطة بالصالح العام، الذى ينتمى إلى الأمة ككل، لصالح الأثرة فى أكثر مدلولاتها سلبية . وأوضح مثال على ذلك هو غياب الدور الاجتماعى لرجال المال والأعمال. ليس المرء بحاجة إلى أن يُجهد عينيه وعقله، للوقوف على الفارق بين أثرياء اليوم والأمس الذى كان. فجولة صغيرة ربما فى أصغر قرية مصرية ستكشف عن وجود مسجد أو مدرسة، أو سبيل أو مصحة، بناها أو تكفل بها أحد أثرياء عهودٍ مضت. بل إن كثيرًا من لمسات الجمال والذوق العمرانى فى القاهرة تنتمى إلى تلك العهود، وثروات رجالها، ممن أطلقوا مبادراتٍ حملت مصر من العجز إلى الإرادة، ومن التوقف إلى المسير، ومن الهروب إلى الإقدام، ومن الجمود إلى التغيير. لقد تباينت طبائع إنفاق الثروة لدى بعض أشهر أصحاب الثروات فى تاريخ مصر، فرأينا من أوتى الحكمة (الأمير عمر طوسون صاحب الأيادى البيضاء)، ووجدنا من ينفق على تحرك وطنى (الشيخ حسن طوبار ومقاومة الحملة الفرنسية)، أو مشروع أهلى (الأميرة فاطمة إسماعيل وإنشاء الجامعة المصرية)، أو آخر نهضوى (الأمير يوسف كمال وإنشاء مدرسة الفنون الجميلة)، أو عمل خيرى (نفيسة البيضاء وإنشاؤها سبيلاً وكُتابًا يحملان اسمها)، مثلما ألفينا من ينفق على الذات.. والملذات. ومن الصنف الأخير، نماذج لا تخطئها العين ولا تغفلها الذاكرة. على استحياء، شهدت السنوات الأخيرة نشوء مؤسسات تدعم الثقافة وتساند المبدعين مثل مؤسسة ساويرس، التى أسس من خلالها أنسى ساويرس فى عام 2001 برنامجًا للمنح الدراسية بالتعاون مع هيئة «أمديست» تعمل على توفير المنح الدراسية السنوية للطلاب المصريين فى جامعات هارفارد وستانفورد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، كما رعت مؤسسة ساويرس الخيرية مئات الجمعيات والمبادرات المهمة. وظهرت جمعيات أهلية بهدف تقديم المساعدات المالية والعينية لغير القادرين، ورعى فريد خميس إنشاء أكاديمية رعاية الموهوبين، وأسهم د. حسن راتب فى إنشاء جامعة العريش. وشاركت جمعيات أخرى لرجال الأعمال فى توفير مسكن مناسب للشباب، مثل جمعية رجال الأعمال للتكافل برئاسة د. حسام بدراوي، التى سعت إلى دعم الطلبة المتفوقين والتبرع لجمعيات مرضى الأورام والسرطان، وتنمية وتطوير الأحياء الشعبية المتدنية المستوى الخدمى والمعيشي. غير أن الجهود الفردية المبعثرة لعددٍ من رجال الأعمال ظلت مجرد بذور خيرية محدودة ، ولم تتحول إلى مؤسسات متكاملة ومستقلة تواجه الأزمات، مثلما يحدث فى المجتمعات الرأسمالية الحقيقية، التى تعتبر العمل المدنى والاجتماعى جزءًا من واجب الأثرياء، وتنتظر منهم - على سبيل المثال لا الحصر - لعب دور فعال فى حماية البيئة والقضاء على التلوث، وتبنى أفكار الموهوبين ودعم الإبداع والابتكار والبحث العلمي، وبخاصة لدى الجيل الصاعد. وأنت تجد فى الغرب مثلاً متاحف، وجامعات، وكراسى علمية داخل الجامعات، ومراكز أبحاث، ومؤسسات اجتماعية لرعاية ذوى الاحتياجات والأيتام، وصولاً إلى ما هو ميكروسكوبى كالكراسى الخشبية فى الحدائق العامة والأسوار الحديدية والخشبية المحيطة بالمماشى المطلة على البحار والأنهار، وكلها تبرع بها أو أنشأها أصحاب الأموال والضياع والمصانع. وفى تقديرنا أنه يجب على جميع الأثرياء - سواء أكانوا من رجال الصناعة والتجار أو حتى لاعبى الكرة ونجوم الفن- القيام بدور مؤثر فى خدمة قريتهم أو مدينتهم أو حتى المحافظة التى ينتمون إليها، وذلك فى إطار المسئولية الاجتماعية التى تقع على عاتقهم. ولا بدَّ أن تتم معظم هذه المساهمات من خلال الجمعيات الأهلية كما يحدث فى أمريكا وأوروبا، لضمان الشفافية وحُسن الإدارة وتعميم الفائدة. والسؤال هو: أين الكبار الذين كانوا نجومًا فى نظام مبارك، من رجال صناعة السيراميك والأسمنت والعطور والاستيراد والتصدير وتجار الأخشاب وأساطين الموانئ؟ أين الذين أخذوا الأراضى بالملاليم وحصلوا على دولارات المعونة الأمريكية بربع قيمتها وتحالفوا مع الاستبداد ليقيموا إمبراطورية الفساد المستبد أو الاستبداد الفاسد، وأحدثوا طفرات هائلة فى أسعار الأراضى والمبانى وأُثروا بالمليارات، فى بلد تسأل الأغلبية فيه ربها حق كسرة خبز؟ أين المليارديرات الذين يصنفون فى قوائم أغنى أغنياء المنطقة، وأين الذين تعهدوا بالنزول بثقلهم إذا زال عهد الإخوان؟ أين هؤلاء جميعًا بينما الرأسمالية الخليجية تبادر للوقوف بجوار مصر وشعبها أكثر من رجال المال والأعمال فى مصر؟ إننا نتابع كل يوم أخبارًا عن أصحاب الثروات الطائلة ممن يتصدرون قوائم عربية ودولية لأكبر أغنياء الشرق الأوسط، وفى الفترة الأخيرة حل رجال الأعمال المصريون فى المركز الثانى بعد الأثرياء السعوديين، متفوقين بذلك على رجال الأعمال والأغنياء فى الإمارات، الذين حلوا فى المركز الثالث. بقيت ترجمة هذا الثراء العريض فى الشارع المصرى غائبة، إذ ركز هؤاء أموالهم على دعم وتمويل حملات وإعلانات لهذا المرشح أو ذاك، بدلاً من إقامة مشروعات تخدم المواطنين وتسهم فى تحسين نوعية الحياة للمصريين سواء على مستوى الخدمات الصحية أو التعليمية أو توفير المرافق الأساسية من مياه شرب وخلافه، فضلاً عن التدريب والتأهيل وتوفير فرص عمل مناسبة تصب فى نهاية المكاف فى مصلحة الوطن والمواطنين. لقد تخلى معظم رجال الأعمال المصريين عن إقامة مشروعات خيرية أو وقفيات واعدة، بل إنهم توقفوا عن مساندة الثقافة والفن، وذلك بعد أن تغيرت طبقة الأغنياء المصريين من أغنياء مثقفين مولعين بالفن إلى أغنياء علاقتهم بالثقافة والفن محدودة أو حتى هم رافضون للفن، وروح التبرع والعطاء للعمل العام غير موجودة عندهم. فى عام 1920، ظهر رجالٌ أمثال طلعت حرب حاولوا تأسيس صناعة وطنية فى مواجهة المستعمر البريطاني، فأقاموا بنك مصر. اليوم، نحتاج هذا الحس الوطنى والحرص على رد الجميل للمجتمع والوطن ككل، من أولئك الذين علا صراخهم فى أروقة السياسة وعلى شاشات التليفزيون، وخفت صوتهم فى عالم العطاء الاجتماعى المطلوب.