أحمد محمود كنا فى الثمانينيات نستخدم مصطلح "فتح الدرج" وكان هذا كناية عن الرشوة، ولما كانت الرشوة من قبيل العيب فى ذلك الزمان لم يكن الموظف المرتشي ليجرؤ على طلبها، فكان عوضاً عن التصريح بذلك، يفتح درج مكتبه ليضع السائل مبلغاً من المال يقوم الموظف على إثره بحل مسألته لدى الدولة... ولما فسد الفساد ذاته لم يعد الدرج يُفتح، ذلك أن العيون والجيوب والأيدى فُتحت عوضاً عنه، وبات أمر الرشوة طبيعياً، فلم يعد يخجل منها لا القاصى ولا الدانى وعُير من لا يدفعها بنقص الفهم وفساد الدماغ ونقص الفهلوة والحداقة... ثم لما فسد الفساد، ظهرت عفاريت الأسفلت، وجابوا الشوارع فى كل أنحاء القاهرة، غير عابئين بنظام ولا قواعد المرور، خارقين لكل قوانينه دون ضابط ولا رابط، دون أن يفهم الناس لماذا يتم تطبيق قوانين المرور على السيارات الخاصة وحدها من دون هؤلاء العفاريت، مع أنهم هم السبب الحقيقي لكل هذه الفوضى فى شوارع القاهرة، يكفى مرور أى من الكرام على منطقة الإسعاف وما حولها، الترجمان ومنطقة بولاق ابو العلا، ليشاهدوا بأنفسهم أكبر مشاهد سقوط هيبة الدولة من اصطفاف للسيارات فى الممنوع، واحتلا الباعة لأرصفة الشوارع، وسيارات الميكروباص وخلافه من كل أشكال التعدى على الشوارع... وفسد فساد الفساد فجابت شوارع القاهرة مركبات "التوك توك" فى تطور طبيعى لفوضى الشوارع بعد أن بات من غير الممكن استيعاب أعداد جديدة من عفاريت السفلت، خاصة بعد ان احتل الباعة الجائلين وتجار الملابس أرصفة الشوارع، التى قامت الدولة بتعليتها لتمنع السيارات من الاصطفاف فوقها، وباتت تلك الأرصفة غير صالحة لسير المواطنين، الذين اعتادوا منذ ذلك الحين أن يسيروا وسط السيارات فى أنهار الشوارع وكأنهم تحولوا إلى سيارات بدلا من أن يكونوا سائرين... وفسد فساد الفساد أكثر وأكثر حتى فى الإعلام، الذى كان دوه ورسالته الأساسية هى تنوير الناس ورجال الدولة، حول الانتهاكات والخروقات، وفساد منظومات الحكم، وكل ما من شأنه أن يمس حياة المواطن البسيط، فرأينا رجال الإعلام يتقاضون أجوراً خيالية أشبه بما يتقاضاه لاعبو كرة القدم المحترفين فى أندية دورى السوبر، وبات التسابق بين هؤلاء حول من يصرخ أكثر، ويتهم أكثر، دون أن يقدم رؤية أو فكراً أو حتى دليل واضح على تلك الاتهامات، لتتحول فقرات الإعلام إلى فقرات مسلية، هدفها فى أغلب الأحيان إضحاك المشاهدين من أجل مشاهدات أكثر وإعلانات أكثر وأجور أعلى... لا أعتقد أن مصر سوف تستطيع أن تحل مشاكلها قبل أن تُغلق كل أدراج الفساد، ولا أظن أن الحديث عن الثورات معناه فقط أن يتم التخلص من القيادات السياسية أو حتى قيادات مؤسسات الدولة، ذلك أن استبدال تلك القيادات بآخرى دون القضاء على الفساد، لن يحقق أى تغيير، بل إن استمرار الفساد مع امكانية الإطاحة بأى شخص أياً كان انتماؤه سوف يفتح الباب على مصراعيه لأنواع كثيرة جديدة من الفساد مادام هناك من يستطيع أن يدفع أكثر، دون أن يكون هناك رقابة حقيقية من الدولة، أوتطبيق حاسم وسيادة حقيقية للقانون... سؤال لازال يلح على مخيلتى، بعد أن قمت بمقارنة بسيطة بين شركات الاتصالات فى مصر وهو: لماذ يتعثر دوماً مشروع إطلاق الشركة الجديدة للمحمول التى من المنتظر أن تتبع الدولة؟! حاول عزيزى القارئ أن تبحث عن إجابة بينما ننتظر جميعاً أن يتوقف من يثيرون العنف فى الشوارع عن سذاجتهم السياسية وتصوراتهم بإمكانية عودة عقارب الساعة إلى الوراء، وقصورهم عن فهم موازين القوى فى هذا البلد، تلك السذاجة التى تجعلنا نرفضهم أكثر، لا لأننا مختلفون معهم فى الأفكار السياسية، ولكن لأننا يوماً بعد يوم نتأكد من أنهم ما كانوا أبداُ يصلحون لقيادة أو لإصلاح هذا البلد بكل ما فيه من مشاكل تحتاج إلى قدرات سياسية متفردة بل وقرار حكيم بعد أن فسد فساد الفساد...