فى مقدمة المشهد خريطة عبثية رديئة لشوارع وميادين غارقة فى طوفان من السلع الفاسدة، أو المقلدة، وأخرى مجهولة المصدر، من قطع غيار سيارات مغشوشة تحول العربات إلى نعوش طائرة، وأجهزة كهربائية بلا ضمان، وهواتف محمول لا تعمل أكثر من أيام معدودة، ونظارات من مخلفات القمامة تسبب العمى، وأغذية مخلوطة بالأكاسيد السامة، وزيتون بورنيش الأحذية، وألبان بالفورمالين القاتل، وحتى حلوى الأطفال لم تسلم من الغش بالألوان المسرطنة والصبغات المحظورة. على جانبى الخريطة ملايين الباعة الجائلين، يحتلون الأرصفة والطرقات بطول النيل وحجم الوطن، يضيئونها بالكهرباء المسروقة، ويفترشونها بالبضائع المهربة. أما فى القاع، فيرقد آلاف الضحايا جراء جرائم ترتكب يوميا من البلطجة والغش والنصب، وإغلاق الطرق أمام المرور، وغيرها من عشرات الأنشطة المشبوهة، فى ظل تقاعس مشين لمؤسسات الدولة، أو تواطؤ فاضح لمنظومات الفساد، وغياب تام للقانون . إنها منظومة «الباعة الجائلين» عنوان الفوضى وحصاد الفساد، الذين يعيشون على الهامش وللهامش، ومع إيماننا بحقهم فى الفرار من الجوع والفقر ولو إلى حضن الرصيف، ومحاولة ترميم واقعهم المتدهور، فإننا نؤمن أيضا بحق المواطن فى السير الآمن، والشراء العادل، والمعاملة المحترمة، وحق الوطن فى مظهر حضارى لائق، ومنظومة اقتصادية منضبطة. والأهم فى تحرك عاجل وجاد لحل أزمة الباعة الجائلين، قبل أن تنفجر هذه القنبلة الموقوتة قريبا، وقريبا جدا، فى وجه الجميع . يقول د. محمد عبد الفتاح مصطفى، نائب رئيس الاتحاد القومى لعمال مصر.. ومؤسس حركة «مخلصون» لتنمية المجتمع المصرى: الباعة الجائلون من الفئات المهمَّشة مجتمعياً بفعل فاعل، والمجتمع كله مسئول عن تفاقم المشكلة وهو أيضا الذى يدفع ثمنها، لكن هناك أطرافا مشتبكة مباشرة مع القضية، وهم: الباعة الجائلون أنفسهم وأصحاب المحال التجارية، والمواطنون، والدولة، وكل طرف مسئول بدرجة أو بأ خرى عن تحول المشكلة إلى أزمة، أوشكت أن تصبح كارثة، فى ظل الانفلات الأمنى، والأخلاقى، والغياب التام للدولة، وانتشار البلطجة والسلاح غير الشرعى. ويرى د. محمد عبد الفتاح إن واجبنا كمجتمع هو احتواء الظاهرة وليس مقاومتها بحلول أمنية لم تثبت جدواها فى حل مشكلة ذات جذور مجتمعية واقتصادية بسبب النزوح العشوائى للمدن من الريف والقرى الأكثر فقراً؛والتخطيط العمرانى غير المنطقى للمدن الجديدة؛ وقربها لدرجة التلاصق مع المدن الأقدم؛ مما أدى إلى انتشار مناطق، استغلها هؤلاء الباعة مع تفشِّى الفقر وانخفاض المستويات المعيشية . ويطالب المسئولين بالعمل على حل المشكلة على مستوى الأجل القصيرمن منظور وطنى ومجتمعى وقانونى، بسرعة إيجاد أسواق بديلة لممارسة نشاطهم، وتطبيق القانون بحزم بعد ذلك، لإنقاذ الشارع المصرى من كارثة حقيقية، ثم التخطيط بشكل إستراتيجى لحل المشكلة جذريا، وتحويل هؤلاء الباعة الذين يقدرون بالملايين، من فئة مهمشة وناقمة على المجتمع إلى فئة منتجة، من خلال وضع برامج تدريبية نموذجية لهم، ونحن فى حركة مخلصون باعتبارها مؤسسة تنموية أهلية وضعنا مع نخبة من خبراء الاتحاد القومى لعمال مصر عدة برامج تدريبية فى هذا الشأن. ويحذر د.محمد عبد الفتاح من استمرار تجاهل هذه الأزمة سواء من المؤسسات الرسمية المعنية أو من الصفوة، أو من يدعون ذلك من رجال الأعمال، الذين يجب أن يؤدوا دورهم الاجتماعى والوطنى تجاه البلد الذين حققوا المليارات من خيراته، وعليهم أن ينتبهوا أن هؤلاء الباعة تحولوا إلى قنبلة موقوتة، إذا انفجرت لا قدر الله فستدمر الجميع، داعيا كل الوزارات والمؤسسات الرسمية المعنية بالقضية إلى العمل بنظام «بطاقات الأداء المتوازن» الذى يعتمد على الرؤية الشاملة والدراسة المتكاملة للمشكلة من جميع جوانبها، ووضع حلول عملية طبقا للاحتياجات الفعلية وإمكانات كل جهة معنية، والأهم المتابعة الدقيقة والعملية لتنفيذ هذه الخطط . من جانبه يوضح د. على مكى، أستاذ الاقتصاد التنموى بجامعة عين شمس، أن تفاقم ظاهرة الباعة المتجولين كنشاط اقتصادى غير رسمى يرجع إلى تراجع الأداء الاقتصادى الرسمى، وفشله فى توفير فرص عمل حقيقية ومنتجة خصوصا لفئة الشباب، وتقدر الإحصائيات حجم هؤلاء الباعة بنحو عشرة ملايين، يعملون فى حجم اقتصاد سنوى يقدر بنحو 100 مليار جنيه، معظمها تقوم على البضائع الرخيصة رديئة الجودة والماركات المقلدة والمهربة من الصين بلا جمارك أو رسوم، فضلا عن بعض القرارات الاقتصادية المسيسة والتى فاقمت الظاهرة، والنقلات الاقتصادية النوعية غير المدروسة وتطبيقها بسياسة الصدمات، كالانتقال من الاقتصاد الموجَّه وتراكماته وتاريخه وسنواته – فجأةً – إلى اقتصاد حر لدرجة الانفلات. وترك الحبل على الغارب للممارسات الاحتكارية التى أشعلت أسعار السلع، خصوصا الأساسية منها. ويلفت د. على مكى النظر إلى أن الخسائر الاقتصادية لا تقتصر على سرقة الكهرباء من الشوارع ولا تفاقم أزمة المرور وما ينتج عنها من إضاعة الوقت، وزيادة استهلاك الوقود، ولا فى التبعات الاقتصادية السلبية لنشر العنف والبلطجة داخل تجمعات هؤلاء الباعة، سواء من خلال صراعاتهم معا، أو بينهم وبين المشترين المتعاملين معهم، لكن الأخطر هو تسببهم فى خسائر فادحة للمحال التجارية الرسمية التى تسدد ضرائب، ورسوما، وتؤمن على العاملين بها، مما يفقد خزينة الدولة دخلا هائلا إلى جانب خسائر عدم تحصيل أية مستحقات للدولة من هؤلاء الباعة، فضلا عن الأضرار التى يسببونها للصناعة المحلية، بإغراق الأسواق ببضائع أرخص، وإدخال المنتج المصرى . ويطالب د. على مكى بسرعة وضع كود مصرى لجودة السلع المستوردة، أسوة بكل الدول المحترمة، ومحاربة منظومة الفساد الجمركى، ومواجهة الإغراق، والأهم استيعاب الباعة الجائلين وبسرعة ضمن منظومة الاقتصاد الرسمى . ويرجع د. أحمد الدمنهورى خبير التنمية البشرية، تفاقم الظاهرة إلى خلل التعامل مع الموارد البشرية فى مصر، والنظرة السلبية إلى القوى البشرية باعتبارها مجرد أفواه مستهلكة، وعمالة زائدة، وطاقة هدم للتنمية لا طاقة بناء، مشيرا أن الكثير من هؤلاء الباعة لديهم مؤهل متوسط أو جامعى، لكنه ليس مؤهلا لدخول سوق العمل الرسمى، الذى يحتاج إلى خبرات مؤهلة وجاهزة وقادرة على الإنتاج فورا. ويتهم د. أحمد الدمنهورى نظام التعليم، وكذلك برامج التأهيل والتدريب التى تطبق حاليا فى مصر، بالفشل فى مواجهة أزمة البطالة، التى تعد السبب الجوهرى وراء تفاقم مشكلة الباعة الجائلين . ويدعو د. الدمنهورى إلى اعتبار التعليم التطبيقى والتدريب الاحترافى ضرورة إنتاجية، مع مساعدة الملايين من الباعة الجائلين ضحايا الفقر والبطالة على الحصول على فرص عمل حقيقية داخل وخارج مصر. ويدعو المهندس طلعت زايد وكيل وزارة الصناعة السابق، وأمين عام الاتحاد العربى لحماية حقوق الملكية الفكرية، إلى استغلال أسفل الكبارى فى القاهرة وعواصم المحافظات بعمل منافذ حضارية ولو بصفة مؤقتة، وبتكلفة بسيطة، ويمكن التعاون مع وزارة الصناعة فى هذا الشأن للإشراف على تنفيذ منافذ بيع حضارية، تناسب طبيعة كل منطقة، كما يمكن تنفيذ هذه المنافذ فى ورش المصانع الحربية مثلا، وكذلك استغلال المتخللات الفارغة بعمل منافذ بيع معدنية مؤقتة بنظام الفك والتركيب بعيدا عن الطرق الرئيسية والميادين، وذلك كحلول مؤقتة لحين وضع حلول دائمة بنقل هؤلاء الباعة إلى أسواق حضرية خارج كتلة الكثافة السكانية، مع توفير خطوط مواصلات ونقل جماعى لها على غرار ما حدث فى مدينتى السادات والقنطرة . من جانبه يرى حسن مصطفى رئيس لجنة المتابعةالسابق بمجلس محلى الجيزة، أن منظومة الفساد خصوصا فى المحليات وراء تحول مشكلة الباعة الجائلين إلى كارثة تستعصى على الحل، لأن معظم هؤلاء الباعة يسددون «رشاوى» يومية، وأسبوعية وشهرية، للعاملين فى إزالات الإشغالات، لأن معظم العاملين بهذه الإدارات، وبنسبة تزيد على 80% هم عمالة موسمية، ويتقاضون أجرا قدره «مائة جنيه» فقط شهريا، ويمكن الاستغناء عنهم فى أية لحظة، ومؤهلاتهم ما بين إعدادية ودبلومات، بل إن عددا غير قليل منهم كان يمارس البلطجة سابقا، واختيارهم تم بناء على قوتهم الجسدية، وعند خروج الحملات العادية لا يقترب هؤلاء من الباعة الذين يدفعون الرشاوى لهم، ويطبقون القانون على الجدد فقط.. أما إذا كانت الحملة كبيرة برئاسة المحافظ أو مدير الأمن، يسارع رجال الإشغالات بالاتصال فورا بمن يدفعونه لهم سواء باعة أرصفة أو محال تشغل الأرصفة . ويلقى مصطفى بالمسئولية أيضا على إدارات المتابعة الميدانية، الجهة الثانية المسئولة عن قضية الباعة الجائلين فى الأحياء، التى تقوم بتحرير محاضر المخالفات وهى أيضا لا تقوم بعملها كما يجب، ومعظم أعضائها يتقاضون «رشاوى»مؤكدا على ضرورة تطهير المحليات من الفساد، ومطالبا باستغلال الأراضى الفضاء وتأجيرها بمقابل رمزى للباعة الجائلين . وعن الرؤية القانونية للمشكلة، يرى المستشار القانونى خالد حمدان حمادة، أن المنظومة القانونية فى مصر تعاملهم كمجرمين وتضع لهم الحلول البوليسية ومصادرة البضائع، وبما يفتح مجالاً للفساد من بعض القائمين على هذه الضبطيات والحملات من ضعاف النفوس، وبالتالى فشل القانون سواء فى حل أو التخفيف من حدة الأزمة من ناحية، والأخطر فقدانه لوظيفة الردع، حيث يتدفق العشرات يوميا على منظومة الباعة الجائلين، ليحتلوا مساحات أوسع، وأماكن جديدة، إلى حد أن الزائر إلى القاهرة مثلا يشعر كأنها مجرد سوق عشوائى ضخم بشع لا أكثر . وعن قانونية إنشاء نقابة مستقلة للباعة الجائلين فى مصر، رغم أنه نشاط غير رسمى بقول: من حق هؤلاء الباعة أن يقيموا نقابة تدافع عن مصالحهم، وتطالب بحقوقهم، باعتبارهم أعضاء بها، لا باعتبارهم يمارسون نشاطا غير رسمى. ويقترح خالد حمدان إلغاء النسبة القانونية المحددة لرؤساء الأحياء ومساعديهم وإدارات الإشغالات على مجمل مبالغ الغرامات المحصلة من الباعة الجائلين، لأنها الباب الخلفى لترسيخ الظاهرة واستمرارها، داعيا إلى وضع منظومة قانونية عاجلة تسهم من خلال قوانين راعية تحقق إلى جانب العقاب والردع مظلات حماية مجتمعية وإنسانية لهؤلاء الباعة.