إطلاق مبادرة "ازرع" في موسمها الرابع لدعم 250 ألف فدان من القمح    بعد قليل.. "الوطنية للانتخابات" تعلن القائمة النهائية الرسمية لمرشحى مجلس النواب 2025    أسعار اللحوم اليوم الخميس 23 أكتوبر في الأسواق    مصر والاتحاد الأوروبي يُوقّعان اتفاق المرحلة الثانية لآلية مساندة الاقتصاد بقيمة 4 مليارات يورو    محافظ الجيزة يبحث موقف مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي    أسعار النفط تقفز 3% صباح اليوم لذلك السبب    رضوى هاشم: دعم حكومي واسع لوزارة الثقافة وإطلاق تطبيقات رقمية للتراث    مصر والاتحاد الأوروبي يؤكدان أهمية حماية الأمن البحري وحرية الملاحة بالبحر الأحمر    هل ينتقل محمد صلاح إلى الدوري السعودي بعد فترة من التوتر داخل ليفربول؟    ب 5 أهداف.. صلاح محسن يتصدر قائمة الهدافين بعد انتهاء الجولة ال11 في الدوري    سيناريوهات تأهل منتخب مصر للسيدات إلى كأس الأمم الإفريقية    غلق مؤقت لبوابات الإسكندرية بسبب شبورة مائية كثيفة    حبس زوج ألقى زوجته من "الشباك" ببورسعيد 4 أيام على ذمة التحقيقات    اليوم.. نظر أولى جلسات محاكمة المتهمين بالاعتداء على محامية في المقطم    المخرج هشام الرشيدي: فيلم أوسكار نقلة في السينما المصرية نحو الخيال العلمي    «الإفتاء» توضح حكم بيع وشراء الحسابات داخل الألعاء الإلكترونية    وزيرا الصحة والتعليم العالي يفتتحان المؤتمر العلمي للجمعية المصرية للأمراض الصدرية والدرن    ما هي الشهادات المتوفرة الآن في بنك مصر؟ قائمة بأعلى العوائد    بهذة الطريقة.. طة دسوقي يحتفل بميلاد زوجته    سعر اليورو مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 23 أكتوبر 2025 في البنوك المحلية    طقس مصر اليوم: خريف معتدل على معظم الأنحاء مع تحذير من الشبورة المائية    فلسطين.. افتتاح قسم الجراحة العامة بعد الترميم في مستشفى الخليل الحكومي    «لازم تركز شوية».. أحمد شوبير يفاجئ نجم الأهلي برسائل نارية    «إنت عايز تهد نادي الزمالك».. ميدو يفتح النار على أسامة حسني    محمد صلاح يثير الجدل بعد حذف صورته بقميص ليفربول    على أبو جريشة: إدارات الإسماعيلى تعمل لمصالحها.. والنادى يدفع الثمن    سان دييجو أو اتحاد جدة أو الهلال.. من الأقرب لضم محمد صلاح حال رحيله عن ليفربول؟    ترامب يدعو مربي الماشية إلى خفض الأسعار ويؤكد استفادتهم من الرسوم الجمركية    تهديدات بالقتل تطال نيكولا ساركوزي داخل سجن لا سانتي    البابا تواضروس: مؤتمر مجلس الكنائس العالمي لا يستهدف وحدة الكنائس بل تعزيز المحبة بينها    «التعليم» تكشف مواصفات امتحان اللغة العربية الشهري للمرحلة الابتدائية.. نظام تقييم متكامل    الأصول أهم    رسميًا إعارات المعلمين 2025.. خطوات التقديم والمستندات المطلوبة من وزارة التعليم    علي الحجار يطرب جمهور الموسيقى العربية ويحيي تراث أم كلثوم بصوته    زوج رانيا يوسف: بناتها صحابي.. وكل حاجة فيها حلوة    بعد تداول فيديو مفبرك.. حنان مطاوع تنتقد استخدام الذكاء الاصطناعي في تشويه الحقيقة    الصحف المصرية.. حراك دولى لإلزام إسرائيل باتفاق وقف إطلاق النار فى غزة    رئيس الوزراء البريطاني: يسعدني انضمام أمريكا إلينا بفرض عقوبات كبيرة على شركتى النفط الروسيتين    خالد الجندي: الغنى والشهرة والوسامة ابتلاء من الله لاختبار الإنسان    وكالة: كوريا الشمالية تعلن تنفيذ تجارب ناجحة لصواريخ فرط صوتية    ليفربول يفك عقدته بخماسية في شباك آينتراخت فرانكفورت بدوري الأبطال    رئيس محكمة النقض يستقبل الرئيس التنفيذي لصندوق الإسكان الاجتماعي    4474 وظيفة بالأزهر.. موعد امتحانات معلمي مساعد رياض الأطفال 2025 (رابط التقديم)    رفض الطعن المقدم ضد حامد الصويني المرشح لانتخابات مجلس النواب بالشرقية    رئيس هيئة النيابة الإدارية في زيارة لمحافظ الإسكندرية    علي الحجار يتأثر بغنائه «فلسطيني» في مهرجان الموسيقى العربية    سيصلك مال لم تكن تتوقعه.. برج الدلو اليوم 23 أكتوبر    بدء غلق كوبري الأزهر السفلي أحمد ماهر 3 أيام لاستكمال تغيير الأرضية    والد المتهم تستر على الجريمة.. مفاجآت في قضية طفل الإسماعيلية يكشفها المحامي    10 رحلات عمرة مجانية لمعلمي الإسماعيلية    مسئول كبير بالأمم المتحدة: سوء التغذية في غزة ستمتد آثاره لأجيال قادمة    هترم عضمك.. وصفة شوربة الدجاج المشوي التي تقاوم نزلات البرد    مش هتنشف منك تاني.. أفضل طريقة لعمل كفتة الحاتي (چوسي ولونها جميل)    مع اقتراب الشتاء.. خطوات تنظيف اللحاف بسهولة    ضياء رشوان: الاتحاد الأوروبي يدرك دور مصر المهم في حفظ السلام بمنطقة القرن الإفريقي    داعية إسلامي: زيارة مقامات آل البيت عبادة تذكّر بالآخرة وتحتاج إلى أدب ووقار    مواقيت الصلاة في أسيوط غدا الخميس 23102025    هل القرآن الكريم شرع ضرب الزوجة؟.. خالد الجندي يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المفكر الألمانى يورغن تودنهوفر: الغرب ساعد الحكام العرب على قمع شعوبهم

بعد تفجر الثورة الفرنسية عام 1789 وما تلاها من ردات دموية لا تحصى، احتاجت فرنسا ثمانين عاما لتصبح ديمقراطية حقيقية، واحتاجت ألمانيا مائة وثلاثين عاما، أما الوطن العربى فقد احتاجت الثورة الفرنسية مائتين واثنين وعشرين عاما لتصل إليه.. لم يكن نشرالحرية والمساواة والإخاء وإدخال الديمقراطية إلى الوطن العربى جزءا من أهداف الغرب المحتل، فبالنسبة للغرب الحرية لا تعنى مطلقا (التحرر منّا). وعندما انتهت فترة استعمار الغرب المباشر للبلدان العربية، تحوّل الغرب إلى دعم الملوك والحكام المستبدين العرب الذين كانوا مستعدين لتبنى سياسات الغرب الخارجية مقابل حصولهم على السلاح والمال.
ولغاية بداية عام 2011 ساعد الغرب بلا خجل الديكتاتوريات العربية على قمع شعوبها، لا بل استخدم الغرب الأجهزة الأمنية للأنظمة الديكتاتورية العربية كمراكز متقدمة له لممارسة التعذيب، وقام سرا بنقل المتهمين بالإرهاب، وأغلبهم أناس أبرياء، إلى دول شمال إفريقيا لأن الغرب يعتبر حكامها الديكتاتوريين هم أفضل من يعذب المعتقلين. وكانت زنازين معمر القذافى مراكز تعذيب مشهورة. وبمقابل خدمات القذافى فى التعذيب استجيب لبعض نزواته: زوده ساركوزى بسيارة مصفحة تشبه سيارة المرسيدس الشبح من التى يحلم بها جميع قادة المافيا. أما تونى بلير فقد أرسل أحد معارضى نظام القذافى إلى حتفه، وألمانيا زودته بأحدث الأسلحة وكذلك فعلت بقية دول حلف الناتو وروسيا أيضا. ويشاء القدر أن ينفجر صاروخ من تلك الأسلحة على سيارتنا فى ليبيا ويحولها إلى كرة من نار ويقتل صديقى عبد اللطيف.
عاصفة النار لعقود طويلة تعرضت الشعوب العربية للظلم والإذلال من حكام ما بعد الفترة الاستعمارية. هذه الأنظمة الظالمة دأبت على قمع الانتفاضات التى تحصل بين الحين والآخر بوحشية وبلا هوادة. وفى بلدان مثل سوريا وليبيا والعراق والجزائر تعايش كثير من الناس فى النهاية مع تركيبة السلطة هذه، والبعض منهم استفاد منها. وهكذا كان على الشعب العربى أن يرزح تحت أعباء 222 سنة من الاستعمار وما بعد الاستعمار والديكتاتوريات. لم أر بحياتى شعبا بمثل هذا الصبر! تنقلت بين البلدان العربية خلال الخمسين سنة الأخيرة، حتى أصبحت وطنى الثانى تقريبا. فى عام 1960 كنت فى مدينتى الجزائر وقسنطينه شاهدا على حرب الجزائر، وكنت شاهدا على الأزمة الدموية الفرنسية – التونسية فى بنزرت عام 1961، وعبرت صحراء الجزائر على ظهور الإبل، وكتبت كتابا عن حرب العراق وأنا مقيم فى أطراف صحراء المغرب، ولمرات لا تحصى زرت سوريا ومصر، وخصوصاً خلال العقد الماضي، ولم يكن هناك شيء ينبئ بأن العاصفة قادمة. انطلقت فجأة رياح الثورة وبما يشبه المعجزة أو كحرائق الغابات بين مجموعة من البشر تعدادها مائة أو ألف أو عشرة آلاف من المستضعفين الذين طغى عليهم شعور يصعب وصفه وغير قابل للتفسير المنطقى بالقوة الجماعية التى لا تقهر.
وهكذا تمكنت جرثومة الديمقراطية والحمّى الثورية المصاحبة لها من الجماهير ولم يعد ممكنا الإفلات منها. وبرغم حقيقة أن الثوار لم يكونوا أغلبية، فأغلبية الشعب نادرا ما تكون ثورية، ولكن روح الثوار المعنوية المؤمنة بالنصر انتشرت بين الجماهير كالنار فى الهشيم، وأصبحت مثل عاصفة النار أو الزوبعة أو الطوفان أو مثل الوباء ينتشر من مدينة إلى مدينة ومن بلد لآخر. من كانوا مستضعفين مهمشين أذلاء ها هم اليوم يتحدّون حكامهم وهم أنفسهم مندهشون من هذه الشجاعة والقوة التى اعترتهم فجأة. فى البداية اعتقدت أن الثورة التونسية كانت استثناء ولكن عندما نزل مئات الآلاف من الناس إلى الشوارع فى مصر وطالبوا بالحرية والديمقراطية شعرت بأن اللحظة التى انتظرتها طويلا قد أتت أخيرا. لقد قرر الشعب العربى أن يتخلص من نير الديكتاتورية، ولذلك سافرت فورا إلى القاهرة ومنذ ذلك الوقت قضيت مع مجموعة أربعة أشهر فى تونس ومصر والمغرب وليبيا وسوريا، وكنت دائما بجانب الثوار.
وجدت أن الكثير من الأشياء التى أعرفها عن الثورات الأوروبية تكرر نفسها هنا فى شارع الحبيب بورقيبة فى تونس العاصمة وفى ميدان التحرير فى القاهرة وفى ساحة التحرير فى بنغازي، حتى الرموز وصور الأطفال والمراهقين وهم يلوحون بالأعلام كانت متشابهة، بل وحتى أعمال التخريب كانت متشابهة ولا تشكّل استثناء، مثلما حصل فى ليبيا عندما قام الثوار فى فورة الانتصار بتدمير النصب والتماثيل والأبنية وقطع فنية لا تقدر بثمن، متناسين أنهم أصبحوا الآن مالكين لها. عندما ذبح الثوار القذافى كما يذبح الكلب الضال فإنهم بذلك لم يكونوا أفضل من جلاّديهم، فقبلهم تنكّر ثوار الثورة الفرنسية لمبادئهم بطريقة مشابهة. لا عقلانية الثورة الثورة العربية، مثل جميع الثورات، تشبه المعجزة بقوتها وتأثيرها السحرى والصوفى وحتى الديني. وبرغم مكابرة الكثيرين فلابد من إقرار حقيقة ألا أحد يمكنه أن يدعى القدرة على تفسير ما حدث، ولا حتى الحكام ولا الثوار أنفسهم. من الصعب أن يفسّر أحدنا بشكل دقيق ما حدث ويحدث فى تونس ومصر وليبيا وسوريا.
الطبيب والمؤرخ الفرنسى غوستاف لوبون كان أول من عمل تشريحا عقلانيا لما أسماها (ساكولوجية الجماهير) واستنتج أنها تتجاوز أى منطق عقلاني. لنتذكر الثورة السلمية فى جمهورية ألمانيا الديمقراطية أو ما سميت (معجزة توحيد ألمانيا)، ألم نشعر وقتها بأن ما حصل تجاوز كل منطق؟ فالاندفاع الذى يشبه الصحوة الدينية للجماهير فى ألمانيا جعل جميع القادة السياسيين تقريبا يقفون عاجزين، قليل منهم فقط استطاع ركوب الموجة المعجزة للثورة والادعاء فيما بعد أنهم (آباء الثورة) و(آباء الوحدة الألمانية) متناسين كيف كانت مواقفهم قبل التغيير. حتى لو احتاج التغيير فى العالم العربى إلى عقود، أو أكثر، كما حصل فى أوروبا، فإن زمن الملوك والسلاطين والحكام غير المنتخبين والحكام الذين يعينون أنفسهم وصل إلى نهاية مؤكدة، ولم يعد لهم مكان على المسرح السياسى الدولي. لا يمكن إيقاف انتصارات الديمقراطية. الديمقراطيات العربية الجديدة ستواصل مسيرتها مع ما يعتريها من آثار وتركات الماضى التى تتخفى تحت أسماء وأقنعة جديدة لا تتوافق مع مفاهيمنا الدستورية. إن إزالة ظلم الماضى لا يكفى لوحده لنجاح الأشكال الجديدة للحكومة.
الديمقراطية لا تأتى بالضرورة بإنجازات سريعة ولكنها بالتأكيد تملك أفضلية حاسمة على الأشكال الاستبدادية للحكم، فهى تسمح بتنفيس الإحباط، وفيها دائما بديل لعنف الثورة ودمويتها وهذا البديل هو التصويت السلمى لإسقاط الحكام أى هزيمتهم بالانتخابات بدلا من تقديم خمسين ألف ضحية لتحقيق هذا الهدف كما حصل فى ليبيا. الثوار التحدى الأكبر أمام الثورات العربية هو البطالة والشباب الخريجين الذين يجدون آفاق المستقبل مغلقة أمامهم. هؤلاء الشباب غالبا ما يكونوا متأثرين بالغرب أو حصلوا على تعليمهم فيه. بعض الثوار الذين التقيتهم فى ميدان التحرير فى ذروة الثورة المصرية كانوا يتحدثون الألمانية، وظهر لى أنهم يشاهدون التليفزيون الألماني، أحدهم هتف بى وبمرافقيّ فى وسط الجماهير المحتشدة قائلا (يا سيد تودنهوفر شكرا لمشاركتك فى ثورتنا) وكنت بالغ الاندهاش، ثم فهمت منه أنه شاهد قبل أسبوع أحد البرامج الحوارية الألمانية التى شاركت فيها وكان النقاش حول مصر. وسائل الإعلام حوّلت عالمنا إلى مجتمع صغير، أو النقل على الأقل أصبح العرب يعرفون الغرب جيدا. كان الشباب العربى خلال التظاهرات يخبروننى بآخر نتائج مباريات الدورى الألماني.
الشباب الثورى يتلقى الدعم من الطبقات الفقيرة من سكان أحزمة الفقر حول المدن الذى سبب تفكك البنى التقليدية للمجتمع وتوسع المدن إفقارا متواصلا لهم. الطبقة الحاكمة التى كانت فى السابق تعتبرهم رعاعا، أخذت الآن تغازلهم، لكن فقراء المدن فضّلوا التحالف مع الشباب الأكاديمى الذى يشتركون معهم فى صفة البطالة والتهميش. هناك حقيقة أقر بها حتّى (مترنيخ) وهى أن الثورة الديمقراطية فى جانب منها حرب الفقراء على الأغنياء. قبل أيام من الانتخابات البرلمانية فى مصر التى جرت أواخر نوفمبر2011 عدت من جديد إلى ميدان التحرير فى القاهرة، وهذه المرة كان أغلب المتواجدين فيه من الطبقة الفقيرة، وكانوا يحملون حنينا وشوقا إلى تلك اللحظات من القوة المطلقة ليوم الحادى عشر من فبراير 2011 عندما استطاع من لا أسماء ولا وجوه ولا أهمية لهم أن يسقطوا الفرعون مبارك.
وتماما كما حصل فى الثورة الفرنسية التى قامت قبل 222 عاما، فإن الثورات العربية فجّرها أناس لا انتماء سياسيا محددا لهم، إنهم من نخبة البرجوازية الصغيرة: مثقفون وشباب وأطباء ومهندسون يدعمهم، فى الغالب، مواطنون يعيشون فى الخارج وكذلك القوى الأجنبية المهتمّة. فى القاهرة أنشأ الأطباء مستشفيات مؤقتة فى قلب ميدان التحرير يقدمون فيها الإسعافات الأولية لجرحى المتظاهرين ويشدّون من عزيمتهم. شاب ليبى طالب فى الدراسات العليا فى القانون هو الذى نظّم مؤتمرى الصحفى مع الثوار فى بنغازي. فى دمشق تحدثت حتى آخر الليل مع شاب فنان يسافر بانتظام إلى أوروبا لينقل رسائل الثوار إلى المعارضة فى الخارج. هذه النخب الصغيرة أخذت المبادرة وحرّضت الجماهير ونظّمت المظاهرات وأدامت الاتصالات مع الإعلام ومع الدول الخارجية. نادرا ما تبدأ الأمة ثورتها بنفسها. الجماهير بحاجة إلى قيادة وتوجيه هذه المجموعة الصغيرة من النخبة وبدونها ستفقد الجماهير الفرصة. الشعوب لديها أحلام ولكنها لا تعرف السبيل لتحقيقها.
لسنين طويلة صوّر إعلامنا المجموعات الإرهابية المتطرفة المتكاثرة، كالقاعدة، على أنها الخصم الخطير للحكام المستبدين فى الدول العربية، والهدف من ذلك هو شرعنة دعمنا لهذه الأنظمة. هذه المنظمات الإرهابية لم تكن جزءا من الثورات العربية. قلت لثائر ليبى شاب مظهرك يشبه مقاتلى القاعدة، فأبدى انزعاجه لمقارنته بمجرمى القاعدة وقال إن أى ثائر ليبى لا يقبل هذه المقارنة وإنه لم يحلق لحيته لأنه أصلا لا يملك الوقت الكافى للنوم ولا يهتم بأمر اللحية. فى الحالات النادرة التى خرج فيها الإرهاب من جحوره لركوب الثورة استطاعت الثورة تنحيته جانبا. الثورة لم تكن ضد الحكام المستبدين فحسب بل كانت ضد الإرهابيين الذين تجاسروا وتحدثوا باسم العالم الإسلامي، وهى بالنتيجة ثورة ضد الصورة المشوهة التى صنعها الغرب بعناية عن بعبع سمّاه الإسلام. تأثير الإعلام جرى تسريع دوران عجلة الثورات وامتداد تأثيرها بشكل هائل من قبل الإعلام الحديث، وهذا ليس أمرا جديدا، فحتى فى أيام الثورة الفرنسية كان هناك حديث عن دور الإعلام فى الثورة ولعبت المئات من الصحف والمجلات والكتيبات والملصقات والبوسترات والرسوم الكاريكاتورية، التى انتشرت بشكل فجائي، دورا مؤثرا فى الثورة الفرنسية. واليوم، أصبحت سلطة الإعلام أكبر، ففى شمال إفريقيا اعتمدت الثورة بالدرجة الأساس على التليفزيون، الذى كان دوره فى (المليونات العربية) أكثر أهمية من الإنترنت. ففى ليبيا، على سبيل المثال، جرى قطع خدمة الإنترنت كليا فى أيام الثورة، وكان التنظيم والاتصالات تجرى من خلال الهواتف النقالة والمساجد والتليفزيون.
كان الناس يتظاهرون خلال النهار وفى الليل يشاهدون وقائع الثورة على شاشات القنوات الفضائية التى تنقل أخبار الثورة بشكل مستمر، وإن تحولت عنه فيكون ذلك لنقل أخبار بطولات دورى كرة القدم الأوروبية أو أية أحداث كروية مهمة. إن الفهم السائد فى الغرب بأن الثورة المصرية كانت (ثورة فيسبوك) هو فهم يثير السخرية وخصوصا لدى الشباب المصريين. فى البدايات الأولى للانتفاضة لعب الفيس بوك دورا مهما كوسيلة للاتصال، ولكن كانت هناك وسائل اتصال أخرى كالهواتف النقالة والمنشورات والإعلام الشفاهي. وكما حصل فى جميع التظاهرات اللاحقة تحول الفيس بوك إلى وسيلة من ضمن وسائل عديدة أخرى من وسائل الاتصال، مع أن الفيس بوك وسيلة اتصال مجانية لم تجن منها شركات التسويق التجارية العالمية أرباحا. أمّا قناتا (الجزيرة) و(العربية) فقد كانت أهميتهما استثنائية، فهما الموجهتان الرئيسيتان، عن قصد، للمليونيات العربية. أمير قطر هو الموجّه لقناة الجزيرة ثمّ تحوّل إلى أكبر مزود للثورات العربية بالأسلحة.
لم تعد (الجزيرة) و(العربية) قنوات إخبارية، ولكن محركاً ويداً ضاربة للثورات طالما أن هذه الثورات ليست موجهة ضد المشايخ فى الخليج أو ضد السعودية. قطر هى فى المقام الأول قاعدة أمريكية جيوستراتيجية، وفى المقام الثانى هى دولة عربية صغيرة تعدادها عدة مئات من الآلاف من السكان. تعمل (الجزيرة) و(العربية) بالتناغم مع بعض الشبكات الإخبارية الغربية لصب الزيت على النار، فهى تضخّم الثورة وتعطيها حجما أكبر وأقوى من حجمها الحقيقي، وتطلق رسائلها وتقاريرها الثورية بشكل يومى بطريقة الحملة المنظّمة لتصل إلى بيوت الناس فى الوطن العربي. هى فى أحيان تكون القوة الدافعة وفى أغلب الأحيان تكون القوة التى تنشر المبالغات عن الثورة. أحيانا استنادا إلى سياسة المحطة نفسها، ولكن فى أغلب الأحيان بناء على حسابات سياسة القوة الدولية. ومعلوم أن الثورات تزدهر بدعم الإعلام بمبالغاته عنها وبشيطنته للحكام الظالمين وبالتفريق السطحى بين الأخيار والأشرار. هناك من يرى أن الظالم يجب ألا يعامل بعدل وموضوعية وصدق، وهكذا فى الثورة كما فى الحرب تكون الحقيقة هى الضحية الأولى ويجرى تجاهلها بلا تحفظ بينما تزدهر روايات المجازر والرعب وأحيانا تختلق إذا دعت الضرورة لذلك. الدعاية الثورية تكون دائما أحادية الجانب والجرائم تنسب دائما إلى الطرف الآخر فقط، بينما جرائم الثوار يتم تجاهلها. أفلام (اليو تيوب) يجرى التعامل معها على أنها حقائق دامغة وأصيلة مع أنها لا تعتبر دلائل أو قرائن فى أية قاعة محكمة محترمة.
منذ الثورة الفرنسية كانت الثورات أفضل فرصة لمروجى القصص الكاذبة أو (حكواتية العصر الحديث). ادّعى مدعى عام المحكمة الجنائية الدولية السيد مورينو أوكامبو وادّعت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة السيدة سوزان رايس أن جيوب جنود القذافى كانت مليئة بالفياجرا من أجل اغتصاب النساء، والحقيقة لم تكن كذلك، وأصلا القتلة ومغتصبو النساء لا يحتاجون للفياجرا، وهكذا اختفت رواية الفياجرا من عناوين الأخبار بعد ان أدّت غرضها لتبرير قيام قوات الناتو بتدمير دبابات القذافى فى مداخل مدينة بنغازي، بالضبط كما حصل فى كذبة (حاضنات الأطفال) الكويتية التى استخدمت ضمن مبررات شن حرب الخليج الثانية. خلال الأسابيع الأربعة التى قضيتها فى سوريا فى شهرى يونيو ونوفمبر 2011 كنت شاهدا على الكثير من التقارير الكاذبة التى لو أردت تدوينها لملأت صفحات كتاب. فى أحد الأيام فى شهر نوفمبر أذاعت قناة الجزيرة خبرا يقول إن خمسة قتلى مدنيين نقلوا إلى المستشفى العام فى مدينة حمص، فهرعت فى الحال إلى المستشفى المقصود فأخبرنى الأطباء بأنهم لم يستقبلوا أى جريح أو قتيل، وكذا الأمر مع بقية مستشفيات المدينة، ولما اخبرت أحد الأطباء أن مصدر هذا الخبر الكاذب هو قناة الجزيرة أشاح بوجهه عنّى ولم يعلق. لقد تحولت الجزيرة منذ وقت طويل إلى إعلام تابع لقوى دولية. لربما شعر هذا الطبيب الرائع أنه يجب ألا يشغل نفسه بالرد على تقارير كاذبة، ومع ذلك فإن هذا لا ينفى حقيقة أن هذا الطبيب كان شاهدا على وفاة عدد غير محدود من الأبرياء فى بقية الأيام، إنهم ضحايا القتل المجانى من كل الأطراف.
فى نوفمبر 2011 تحدثت الصحافة العالمية عمّا ادعته كارثة إنسانية نتيجة نقص المواد الغذائية فى حمص فذهبت فورا إلى لأجد دكاكين المدينة مليئة باللحوم والخضار والفواكه. وفى رحلة تالية إلى المدينة تحدثت مع أحد الثوار عن هذه الأخبار الملفقة فضحك وقال لى لا تلم قناة الجزيرة فقد كنت أنا واصدقائى من زودها بهذه المعلومات. لا شك أن الحكومة السورية تتحمل أيضا حصتها من المسئولية عن هذه الفوضى الإعلامية. التقارير الإعلامية المضللة وأفلام اليوتيوب وصلت ذروتها عندما منعت الحكومة السورية وكالات الأنباء الأجنبية من دخول البلاد. ولا مناص من أن نذكر هنا أن مصداقية التليفزيون الرسمى السورى ليست بأفضل من مصداقية (الجزيرة) و(العربية). دور القوى الإقليمية والقوى الكبرى تحاول القوى الإقليمية والقوى الكبرى دائما أن يكون لها دور فى سياق الثورات وأن توجهها من أجل أن تكون لها الكلمة الأخيرة فى تحديد المنتصرين. بعد أن فوجئت الولايات المتحدة بأحداث تونس ومصر حاولت أن تجعل من الربيع العربى فرصتها التاريخية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق تصوراتها. ومعلوم أن الهدف الأساسى للولايات المتحدة ليس الديمقراطية بل تعزيز وحماية مصالحها فى شرق أوسط كبير موالٍِ لها. حلفاء أمريكا مثل السعودية والبحرين ليس لديهم ما يخشونه من الغرب طالما أنه يسمح لهم بمواجهة الحركات الديمقراطية فى بلدانهم بالهراوات.
وبالمقابل يتصرف الغرب بطريقة مختلفة عندما يتعلق الأمر بالثورات فى دول معادية له، فهى تعطيه الفرصة للتخلص من الأنظمة التى تضمها قائمته للأنظمة المارقة، كما هى الحالة إزاء القذافى ثم الأسد، كما أنها تعطيه الفرصة، من جديد، لحمل لواء الدفاع عن حقوق الإنسان وتشكيل تحالفات (مقدسة) للدفاع عن الديمقراطية، وهو بذلك يكرر ما فعلته القوى الأوروبية الكبرى فى القرن التاسع عشر عندما أنشأت (التحالف المقدس) للدفاع عن الأنظمة الملكية. وبنفس الحماسة الزائفة يقوم الغرب بدمج هدفى الديمقراطية والتدخل الأجنبى فى عملية قذرة واحدة تطير بجناحى الكذب. وحتى عندما تساعد بعض القوى الكبرى الثوار من أجل تحقيق الانتصار فغالبا ما يسرقون منهم ثورتهم فى النهاية، إنهم لا يكترثون بالحرية للمضطهدين أو لمن سماهم فرانز فانون (المعذبون فى الأرض). الطريق الصعب للديمقراطية نادرا ما ينجح الثوريون فى محاولتهم الأولى لتحقيق أحلامهم بالحرية والكرامة والعمل والرفاهية، ونادرة هى الحالات التى يدرك فيها الثوار أن تغيير رأس السلطة لا يكفى بل يجب أن تصل الثورة إلى عقول الناس. الثورة تحتاج لعقود وقرون لتنشئ الديمقراطية الحقيقية وسيادة القانون وفصل السلطات واحترام حقوق الإنسان، وغالبا ما تحتاج لوقت أكثر لكى تنضج ثمار الثورة.
الثورات هى خطوات صغيرة فى الطريق الطويل نحو دولة ديمقراطية دستورية، فالديمقراطيون فى الغرب مازالوا لحد اليوم يبحثون عن الديمقراطية الحقيقية، وخلال مائتى عام عانت أوروبا من نكسات ودمار ودماء ودموع. إن الغربيين الذين، بعد أشهر فقط من الثورات العربية، يشيدون بنجاحاتها أو ينقمون عليها لا يعرفون شيئا عن تاريخ الثورات الطويل فى قارّتنا الأوروبية. العرب لن يصلوا فى أشهر إلى ما احتجنا أجيالا للوصول إليه، وتبقى الثورات العربية مهددة دائما بالانتكاس والتحول إلى الاستبداد إذا تراكمت الآثار البغيضة للثورات. ومثلما عملت الديمقراطيات فى الغرب يجب أن تتحول الديمقراطية فى البلدان العربية إلى واقع معاش وأن يجرى الدفاع عنها بشكل يومى دائم. الديكتاتوريات الشعبية هى أخطر عدو لجميع الديمقراطيات، وهى مرض يتربص بالديمقراطيات كظلها وبشكل أزلى وحتى ألمانيا لم تنفض، إلى اليوم، عن نفسها هذا الخطر بشكل نهائي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.