فى البيان الذى أعلنه البيت الأبيض حول ما سمى بورشة عمل ستعقد فى البحرين حول الشق الاقتصادى من خطة الرئيس ترامب للسلام فى الشرق الأوسط، جاء أن الهدف من هذه الورشة هو إعلان الجانب الاقتصادى، الذى ستركز على بناء مستقبل مزدهر للشعب الفلسطينى، ولن تناقش الورشة الشق السياسى الذى سيؤجل الإعلان عنه إلى وقت لاحق. فلسطينيا أعلنت السلطة الوطنية أنها لم تُناقش فى طبيعة هذه الورشة ولا تعلم شيئا عن مضمونها وعن توقيتاتها، وأنها لن تشارك فى هذه الورشة. الأمر الذى يثير تساؤلات حول الجدوى من عقد ورشة عمل تخص الفلسطينيين بالدرجة الأولى دون أن يكونوا جزءا عضويا من التحضيرات الخاصة بها، فهم الأولى فى مثل هذه المناقشات. وليس جديدا القول إن الموقفين الأمريكى والفلسطينى متباعدان تماما، فالسلطة لا ترى فى المعلومات التى يتم تسريبها أو التى أطلعت عليها جزئيا أو كليا حول ما يوصف بصفقةالقرن، وكذلك الإجراءات التى اتخذتها الولاياتالمتحدة فى عهد ترامب كاعتبار القدس عاصمة لإسرائيل قبل أى تفاوض وإغلاق مقر منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن، ومنع التمويل عن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السورى المحتل، لا ترى فيها سوى الانحياز الكامل للرؤية الإسرائيلية، ما يلغى أى دور شبه حيادى للطرف الأمريكى يمكن القيام به فى أى عملية مستقبلية للسلام. فى المقابل تعتبر إدارة ترامب أن جميع المحاولات التى سبق القيام بها لحل القضيةالفلسطينية فشلت لأنها لم تكن واقعية، إذ انغمست فى التفاصيل السياسية التى تشهد تباينات وخلافات شديدة بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى وبالتالى فإن رؤية جديدة من حيث المنهج والمضمون يمكنها أن تُيسر السلام وتنهى الصراع. أو هكذا يعتقد ترامب فى رؤيته الجديدة. المعروف أن جميع التسريبات والمعلومات التى نسبت لهذه الصفقة المزعومة، اتفقت على أن التحرك الأمريكى سوف يسعى إلى إقامة ما يوصف بسلام اقتصادى إقليمى أولا، ثم بعد ذلك خطة تتضمن بعض الأمور السياسية المتعلقة بالصراع دون تحديد مآلات هذه الخطة خاصة بالنسبة لقيام دولة فلسطينية فى الضفة الغربية. والفكرة الرئيسية لرؤية ترامب كما أوضحها جاريد كوشنر تفترض أن تحسين حياة الفلسطينيين، لا سيما فى قطاع غزة، وإصلاح الحكم الفلسطينى سوف يدفعان الشعب الفلسطينى إلى قبول أى إجراء سياسى لاحقا، مع الأخذ فى الاعتبار أن المشروعات التى يمكن أن تحقق مثل هذه النقلة فى حياة الفلسطينيين سوف تتطلب وقتا لا يقل عن خمس إلى عشر سنوات، واستثمارات هائلة ومناخا سياسيا مستقرا. وفى كل الأحوال لن تستخدم الخطة مبدأ حل الدولتين، وهو ما أكد عليه صهر الرئيس ترامب جاريد كوشنر المكلف بوضع الخطة، مشيرا إلى أنه سيُترك للجانبين الفلسطينى والإسرائيلى تحديد صيغة العلاقة السياسية بينهما، هل كيانان منفصلان أم متحدانفيدراليا أو تربطهما علاقة كونفيدرالية يقومان بتحديد عناصرها. والثابت حتى الآن أن الشق السياسى المخفى يتضمن مد السيادة الإسرائيلية على الكتل الاستيطانية بالضفة الغربية. وهناك كثير من التسريبات الخاصة بالسكان الفلسطينيين فى القدسالشرقية، التى تطالب بها السلطة عاصمة للدولة الفلسطينية، تشير إلى أن هؤلاء الفلسطينيين معرضون للهجرة إلى خارج أراضيهم، كجزء من استكمال تهويد القدس تماما. التركيز على الشق الاقتصادى باعتباره المدخل الذى سيغير حياة الفلسطينيين، وسوف يقنعهم بقبول أى صيغة سياسية لاحقا بما فى ذلك كيان متقطع الأوصال جغرافيا وأقل من دولة وقريب من حكم ذاتى تحت سيادة إسرائيلية، يمثل رؤية أقل ما توصف بأنها ضبابية وغير عقلانية وتتصادم مع الحقائق الحاكمة للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، كحق عودة اللاجئين والدولة المستقلة ذات السيادة والقدس عاصمة لها. وإذا كان هناك من يرى فى الولاياتالمتحدة أو خارجها أن أولوية السلام الاقتصادى يمكن تحقيقها فلسطينيا، وبمشاركة عربية واقليمية ودولية تمثل منهجا جديدا ولا بأس من تجربته، فمثل هذا الطرح ليس جديدا فى حد ذاته. فمنذ مؤتمر مدريد للسلام 1991 عُقدت عدة مؤتمرات دولية بهدف جذب الاستثمارات إلى منطقة الصراع، لإقناع الشعوب بأن السلام سوف يغير حياتها وسوف يوفر فرص العمل للأجيال الجديدة، والأهم أنه سيخلق حقائق ومصالح متشابكة بين أطراف الإقليم العرب والإسرائيليين والأتراك بدعم أمريكى وأوروبى سخى، وفى المحصلة لذلك ستحدث عملية إعادة ترتيب العلاقات والتفاعلات لعموم دول المنطقة، وبذلك تحل الروابط الاقتصادية بديلا للصراع والحرب، كما ستُدمج إسرائيل فى الإقليم كبلد طبيعى مرتبط بمشروعات تعاون اقتصادى كبرى مع الدول العربية مما يديم السلام ويعمقه. وقد عقدت أربعة مؤتمرات لهذا الهدف فى الدار البيضاء (المغرب) 1994، وعمان (الأردن) 1995، والقاهرة (مصر) 1996، والدوحة (قطر) 1997، كانت جميعها بتشجيع من قبل الولاياتالمتحدة، وبتنظيم من المنتدى الاقتصادى العالمى ومقره مدينة دافوس بسويسرا. ويلاحظ على كل هذه المؤتمرات أنها شكلت البعد الاقتصادى لعملية سياسية كانت جارية، تمثلت فى اتفاقات أوسلو 1993، التى نتج عنها قيام السلطة الوطنية الفلسطينية وخضوع بعض أجزاء من الضفة الغربيةالمحتلة لسيادة هذه السلطة، التى اعتبر قيامها خطوة أولى نحو كيان فلسطينى مكتمل الأركان بعد حين. وهكذا تلاقى البعدان السياسى والاقتصادى ومع ذلك لم تحقق هذه المؤتمرات أهدافها الكبرى فى إنشاء أرضية اقتصادية إقليمية تدعم عملية سلام شاملة تحقق التطلعات الفلسطينية القومية المشروعة. وكان السلوك الإسرائيلى الفج فى العام 2002 وما بعدها، الذى دمر بعض المشروعات الاستثمارية فى القطاع وفى الضفة، والممولة أوروبيا ودوليا والخاصة بالبنية التحتية للدولة الفلسطينية المنتظرة، بمثابة إجهاض كامل لهذا الشق الاقتصادى الداعم لبناء سلام إقليمى شامل، وقد أثبت هذا السلوك الإسرائيلى غلبة الأبعاد الإيديولوجية والعقدية فى الرؤية الإسرائيلية لحل الصراع على أى أبعاد أخرى. الأمر الذى جعل أى حديث عن مشروعات اقتصادية إقليمية مسألة وهمية وغير واقعية. الجديد فى رؤية الرئيس ترامب هو اعتمادها على البعد الاقتصادى كبعد مستقل فى ذاته، ثم بعد تحقيق تطور نوعى يُمكن التعامل مع الجوانب السياسية للصراع. ويلاحظ فى بيان البيت الأبيض بشأن ورشة المنامة المقرر عقدها فى 25 و26 يونيو المقبل، وفى تصريحات أحد مسئولى إدارة ترامب أن الهدف هو بحث وتشجيع الاستثمارات فى الضفة وغزة ودول المنطقة مع التركيز على البنية التحتية والصناعة، ثم بعد تحقيق السلام الاقتصادى الإقليمى يمكن المضى قدما فى الشق السياسي، ولكنه فى الآن ذاته يؤكد على أى استثمارات ستعتمد على وقف إطلاق نار مؤكد وقوى وتوافق سياسى يسيران يدا بيد. وهنا يظهر تناقض كبير، لأن وقف إطلاق النار المطلوب أولا لن يأتى إلا فى صلب عملية سياسية لها أول ولها آخر، ومعروف نتائجها، وفيها التزامات متبادلة بين الطرفين الرئيسيين الفلسطينى والإسرائيلى وقبول عربى لهذه الالتزامات. ومن غير المتصور أن يقبل الفلسطينيون سواء فى الضفة الغربية أو غزة وقفا لإطلاق النار ذى طابع نهائى بدون أن يعرفوا مصير الدولة الفلسطينية وموقع القدس فيها. وبافتراض أن الفلسطينيين قبلوا صيغة ترامب من أجل الحصول على استثمارات دولية لتحسين حياتهم، فمن هى الجهة التى ستتولى التنسيق لهذه الاستثمارات والإشراف على تنفيذها ووفق أى صيغة قانونية، ومن هم الممولون الذين سيقبلون ضخ مئات الملايين من الدولارات دون التوافق على وضع سياسى مستقر، ومدعوم دوليا وإقليميا. ونشير هنا إلى أن نيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى المكلف لم ينجح فى تشكيل حكومته برغم حصوله على مدة زمنية إضافية، والسبب فى ذلك أن بعض الأحزاب اليمينية المدعوة للمشاركة فى الحكومة الجديدة تضع شروطا لا علاقة لها بأى سلام أو تهدئة أو مفاوضات مع الجانب الفلسطينى. فليبرمان أفيغدور، رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” يشترط أن يحصل على منصب وزير الأمن وتعطى له صلاحيات واسعة فى شن حرب ضروس على قطاع غزة وإجهاض حكم حماس فيها. أما تحالف أحزاب اليمين فيطالب بأن يتضمن بيان الحكومة إعطاء صلاحيات واسعة للمستوطنين الإسرائيليين فى الضفة، تمهيدا لتطبيق السيادة الإسرائيلية علىالضفة الغربيةالمحتلة، وتمرير قانون يفرض هذه السيادة على الكتل الاستيطانية. ومثل هذه المواقف فى الداخل الإسرائيلى لا علاقة لها بأى حال بالحد الأدنى اللازم لجذب استثمارات دولية وعربية بمئات الملايين من الدولارات إلى قطاع غزة والضفة، إنما لها علاقة باستمرار التوتر والصراع المسلح، وهو ما يناقض تماما منهج ترامب الداعى إلى سلام اقتصادى أولا. ولا شك أن الغموض المتعمد فى خطة ترامب بشأن الحقوق القومية الفلسطينية والهوية الوطنية والكيان المستقر وصلاحيات السيادة المعروفة لا تؤهل الخطط الاقتصادية للنجاح. وما لم تتضح العلاقة بين المسار السياسى والمسار الاقتصادى، ويسيران يدا بيد، لن تنجح أى خطوة مهما قدُمت محاطة بالأحلام الوردية عديمة الأساس.