لم أكن يوماً ناقدا سينمائياً، ولا خبيراً بأمورها وإن كنت ذواقاً للإبداع السينمائى مثل معظم المصريين. ولكن عندما يتصدى فيلمٌ سينمائيٌ لقضيةٍ طبية، فواجبى أن أتصدى له أيضاً بالنقد والتحليل العلمى كَونه يَمَس مهنتى ومهنة الآلاف من الأطباء المصريين الحاملين فى قلوبهم رونق الحضارة الطبية المصرية العريقة، وكونه أيضاً يَمَس سُمعة هذا الوطن الذى نمتلكه جَميعا، وهو ليس حِكراً على صانعى الأفلام. وهذا ما سأفعله حَيال فيلم يُعرض حالياً على شاشات السينما بعنوان “122”. والفيلم يُحدثنا كلٌ من مؤلفِه (أ. صلاح الجهيني) ومخرجه (أ. ياسر الياسري) عن قصة شاب من الطبقة الشعبية، يدعى “نصر” (الفنان أحمد دَاوُد) وهو على علاقة بفتاة تدعى أمنية (الفنانة أمينة خليل)، التى تعانى من الصمم وصعوبة فى التخاطب. بينما هما ساعيان فى مهمةٍ تتعلق بالاتجار فى المخدرات، ليتمكنا من إتمام زواجهما، يصابان فى حادث سيارة ويتم نقلُهما بواسطة الإسعاف الحكومى إلى مستشفى فى منطقة نائية، ليقعا فى يد مدير المستشفى، دكتور نبيل (الفنان طارق لطفي)، الذى يقوم فيها بعمليات سرقة واتجار بالأعضاء البشرية من الموتى من بين ضحايا الحوادث. ويظهر فى الفيلم طبيبٌ شاب (الفنان أحمد الفيشاوي)، فى قبو المستشفى المليء بالقاذورات وهو يرتدى قفازات، بينما يتحدث فى التليفون ليتفق على توريد كبد وقرنيتين !! يقوم بتقطيع جثة أحد الضحايا ويستخرج أعضاءه فى دقائق!! ويضعها فى صحن مليء بقطع الثلج !!، ثم ينتقل إلى بطل الفيلم «نصر» الذى ظنوه ميتاً بينما كان فاقداً للوعى !!، وكأن تشخيص الوفاة من الصعوبة التى تجعلهم يضعون حياً وسط الأموات. ولولا ذلك الرمش الذى أصاب عين الطبيب وأجبره على أن يذهب باحثاً عن علاج له، لكان قد قضى على «نصر» ومزق أحشاءه!!! وهكذا يحاول المخرج عبثاً إقناعنا بأن جثث ضحايا الحوادث تتم سرقتها كاملةً فى غيبة من رجال الشرطة - والذين نراهم فى الواقع - موجودين دائماً فى كل حادث وعلى يد رجال الإسعاف والذين - فى الواقع أيضاً - تتم متابعتهم لاسلكياً من مركزهم الرئيسى خطوة بخطوة، حيث شهد الإسعاف المصرى تطوراً كبيراً فى السنوات الأخيرة، ثم يقوم الإسعاف بتسليم الجثث إلى عصابة الأطباء المزعومة، كما لو كان هؤلاء المرضى بدون أسر تسأل عن مصيرهم وتبحث عنهم. كل هذا «الأكشن» الجراحى المرعب، يتم فى جو خال تماماً من التعقيم والأصول الجراحية، الواجب اتباعها من قبل أى الطبيب حتى لو كان منحرفاً. فلا يمكن أن يتم انتزاع الأعضاء بسهولة وبهذه الطريقة الساذجة ودون أى تعقيم، وبغرض زرعها فى آخرين، كما أنه لا يجوز أخذها من الأموات إلا فى حالة القرنية، والتى تحتاج إلى تقنيات متقدمة وظروف تعقيم، ولا يمكن استئصال تلك الأعضاء فى ظروف بهذه القذارة، كما لا يمكن أن يقوم بها طبيب ناشيء، فلا يقدر على هذا الأمر إلا الجراحون من ذوى الخبرة، وهؤلاء لا يعملون فى المناطق النائية، بل فى المستشفيات الجامعية والمركزية الكبيرة. ألم يعلم المخرج وصاحبُه المؤلف أن العدو الأول لجراحات زرع الأعضاء هو الالتهابات والتلوث البكتيري. فمن هذا الطبيب -حتى لو كان منحرفاً - الذى سيقبل باستخدام أعضاء فاسدة وملوثة مأخوذة من موتى، ولن يكتب لها أبداً النجاح فى أجساد المرضى. ألم يدركا أن زراعة الكبد -مثلاً- تتم فى غرفتين متجاورتين، أحدهما للمتبرع الحى والأخرى للمريض المستقبل للعضو المنقول، وتستلزم الكثير من التحضير المعقد؟ ألم يخبرهم أحدُ أصدقائِهم من أطباء العيون أن مصر بها بنك للعيون وتتم عمليات زرع القرنية بسهولة ويسر دون الحاجة للطرق الملتوية خارج إطار القانون؟ ألم يُدرك المؤلف وصاحبه المخرج أيضاً أن الآلاف ممن يشاهدون هذا العمل، هم من قليلى أو منعدمى الثقافة، وأن هذا التصوير للطبيب المصرى وللطريقة العجيبة التى ابتدعوها لسرقة الأعضاء - والتى ليس لها مثيل فى الواقع المصرى ولا غير المصرى - سيوحى لهؤلاء، بأن هذا ما يحدث فى الواقع، وهذا سيزيد الطين بَلَّة فى علاقة المريض بمقدمى الخدمة الطبية والتى تم تدميرها من قبل الإعلام التجارى فى السنوات الأخيرة، مما أثر بالسلب على طريقة تفكير البسطاء من الناس. وأذكر هنا أحد الزملاء الذى حكى لى عن مريضة مصابة بالتهاب الزائدة الدودية، وكانت فى حاجة ماسة لجراحة عاجلة، وعندما أخبرها انتفضت هاربة وهى تقول: (مش ممكن أسيبكم تسرقوا أعضائي) وذهبت إلى غير رجعة حاملةً علتها القاتلة. وهكذا فإن من يقتل المرضى ليس بالضرورة أن يكونوا أطباء منحرفين، بل من الممكن أن يكونوا مؤلفين ومخرجين سينمائيين ضلوا طريقهم، بأن خاضوا فى أمور العلم بجهل وتفتقت أذهانهم عن قصص بعيدة تماماً عن الواقع، فألقوا بها إلينا على شاشات السينما أفلاماً ركيكة، تدمر عقول العامة ولا تستحق عناء الذهاب لمشاهدتها لمن يفقهون. لقد تناسى مؤلف القصة ومخرج الفيلم أنه من واجبهما أن يتحريا الدقة العلمية فى مثل هذه الأمور، ليس فقط من أجل إنجاح الفيلم، أسوةً بأفلام ومسلسلات اجنبية شاهدناها وأبهرتنا نحن معشر الأطباء لشدة الحبكة العلمية والطبية، والتى كانت سبباً لنجاح هذه الأعمال على مر سنوات طوال مثل مسلسلى (.E. R) و(Gray's Anatomy)، وليس فقط لأن الكثير من المشاهدين هم أطباء يملأون أنحاء الوطن العربى، وهؤلاء سيسقطون صرعى من الضحك المُبكى لهذه الكوميديا الطبية الهزلية، وغير المنطقية، والتى سيدرك عدم مصداقيتها طلاب السنة الأولى فى كليات الطب، لكن لأن كل مؤلف ومخرج وفنان يُفترض أنه يحمل أمانةً كبيرةً تجاه وطنه، وعليه واجب قومى، ويتوجب عليه أن يتقى الله فى وطنه، وأن يدرك دوره فى تطوير المجتمع إلى الأفضل. هل يستطيع المؤلف والمخرج أن يخبرانا عن واقعة واحدة فى سجل الشرطة والقضاء المصريين تشبه من قريب أو بعيد قصتهما الهزيلة تلك؟ كان من الممكن أن نقبل بما نَضحت به أفكارُهم إن هُم أوضحوا فى بداية الفيلم صراحةً أن (هذا العمل خيالى وغير واقعى ولا يمت للحقيقة بصلة). ساعتها كنا استمتعنا كأطباء بهذا العمل ورأته أعيننا كوميدياً بامتياز، ورآه غير الأطباء كفيلم إثارة وحركة ورعب ليس أكثر. و قد صدمتنى أيضاً محاولات المخرج لتقليد بعض الأفلام الهندية الرديئة، حيث نرى بطلة الفيلم أمنيّة وهى تعود للحياة مراراً وتكراراً، تارة بعد حادث السيارة الأول وتارة بعد ضربها على رأسها، وتارةً بعد أن صدمها مدير المستشفى بسيارة الإسعاف بعنف، وقد تعجبنا أيضاً، كيف أنها كانت فى كامل وعيها مباشرةً بعد أن تم حقنها بمخدر فى الوريد!! وفى كل مرة تعود إلينا بوجهها المشرق وعينيها اللامعتين وتركض مع صاحبها “نصر” كالحصان. وكذلك “د. نبيل”، مدير المستشفى الذى طعنه “نصر” فى وجهه بمسمارٍ وبعنف عدة مرات ثم عاد إلينا بعدها الدكتور نبيل بكامل عنفوانه. ولا ننسى أيضاً “نصر” بطل الفيلم الذى تقيأ دماً كثيفاً وهو يهرب بسيارة الطبيب وفقد وعيه وتركته صاحبته ظناً أنه قد مات، ولكنه -للعجب- عاد إلينا مرة أخرى وفاجأنا بقدراته البدنية الممتازة كأن شيئاً لم يكن. ولعل هذا يفسر ما سمعناه أخيراً عن دبلجة هذا الفيلم بلغة أهل الهند وعرضه فى باكستان !!! والرداءة التى طالت الحبكة الطبية لم تترك أيضاً الحبكة القصصية، فأين مصداقية العمل عندما يقول الطبيب المساعد (الفنان محمود حجازي) إن “هذا المستشفى حديث البناء” وإذا بكل اللقطات تُظهر المستشفى عتيقاً وقديماً. وعلى الجانب الآخر لا أستطيع أن أنكر المستوى الممتاز فى التصوير والصوت وكذلك الأداء التمثيلى الممتاز لأبطال الفيلم الذين لا بد من أن ألومهم بعض الشيء للمشاركة فى هذا الفيلم، حيث إننى افترض فيهم درجة عالية من الحب لمصر والخوف على سمعتها وكذلك درجة من الثقافة والإلمام ببعض الأساسيات الطبية، وأجدنى حزيناً أنهم كانوا -بأدائهم المتميز- جزءا من هذا العمل الردئ. ولكنى ألوم وبشدة كلاً من المؤلف والمخرج اللذين لم يبذُلا قيدَ أُنملةٍ من جَهد ليكتسب عملُهما هذا أيةَ درجةٍ من المصداقيةِ العلمية أو الارتباط بالواقع وكان فى مُجمله مِسخاً مُختلطاً ما بين أفلام الإثارة والرعب الغربية وبعض الأفلام الهندية المثيرة للسخرية. وإننى أتساءل هنا أين وزارة الصحة من هذا الأمر؟ ألن تثور لتدمير سمعة مستشفياتها وأطبائها بهذا الشكل المذرى؟ وأين هيئة الإسعاف من الأمر ذاته، وقد سَلَّمت إحدى سياراتها الباهظة التكاليف ليصوروا بها الفيلم وألبست (الفنان محمد ممدوح) زى رجال الإسعاف الرسمى، وظهر وهو يتفاوض مع مدير المستشفى ليكافئه بأن ينتزع أعضاء أمنية (الفنانة أمينة خليل) ليبيعها هو بنفسه !!! أما عنوان الفيلم وهو “122” وهو رقم شرطة النجدة فى مصر، والذى استخدمه المؤلف والمخرج ليعطيا لنا الإحساس بعجز الشرطة طوال الفيلم عن أداء دورها، فأحرى بى أن أترك هذا الأمر لوزارة الداخلية لتذود عن نفسها لما أصاب شرطة النجدة من إساءة. وهكذا فقد جاء إلينا هذا الفيلم ليستكمل مسلسل تدمير سمعة الطب المصرى وتشويه الطبيب المصرى، والإسعاف والشرطة، وأيضاً العبث بعقول الجهلاء وقليلى الثقافة، كما أنه أطلق رصاصة الرحمة الأخيرة على السياحة العلاجية. ولا عزاء لأبناء مهنة الطب الجليلة فى زمن تُقدم السينما فِيهِ أفلاماً لا تساوى إلا صفراً.