أعاد فيلم " الفيل الأزرق " وهج العلاقة المتينة والمتأصلة بين السينما والأدب التى انطفأت خلال الفترة الماضية ، حيث استطاعت رواية " الفيل الأزرق " للكاتب الشاب أحمد مراد - التى حققت أعلى المبيعات منذ صدورها فى عام 2012 ووصولها إلى القائمة القصيرة في جائزة بوكر العالمية- أن تهييء حالة من الشحذ والترقب للفيلم السينمائي الذى حمل نفس اسم الرواية ليحتل المركز الأول بعد طرحه بدور العرض فى موسم عيد الفطر الماضى محققاً أعلى الإيرادات والتى بلغت 30 مليون جنية . يتناول الفيلم " تيمة" مختلفة عن الخط السينمائى المعتاد طرحه فى موسم الأعياد، وقد أدى النجاح المبكر للفيلم إلى طرحه أيضاً في دور العرض بدول الخليج العربي، ليُعرض في الإمارات العربية المتحدة ، قطر، البحرين وسلطنة عُمان، كما حصل الفيلم على تقييم 8,6 من خلال قاعدة بيانات الأفلام العالميةIMDB بواسطة أكثر من 13 ألف مصوِّت، وهو ما يُعد رقماً كبيراً بالنسبة لفيلم عربى . ويرجع الفضل فى حشد مثل هذا الإقبال الجماهيرى على مشاهدة الفيلم الى الثقل الذى تمتعت به الرواية لدى شريحة عريضة من القراء ، خاصة وان الفيلم داعب خيال قراء الرواية نظراً للتوصيف الدقيق الذى رسمته سواء على مستوى الشخصيات الرئيسية والثانوية أو الأمكنة المتداخلة لمسرح الأحداث الى جانب هلاوس وجلبة أقراص الفيل الأزرق وما صنعته من "فانتازيا " ذهنية ومرئية دفعت القارىء الى تصور مسرح إفتراضى توَحَد معه نفسياً وجسدياً داخل النسيج الدرامى الغامض . وبذلك قدم فيلم " الفيل الأزرق" وثيقة إختبار حقيقية تتحدى خيال المشاهد وتقيس مدى تطابق خيال القارىء مع خيال المخرج والذى يربطهما جسر السيناريو ، كما توافرت للفيلم كافة عناصر النجاح من حيث الجاذبية والإثارة والغموض واللهث المستمر وراء الأحداث الى جانب استيعاب كمية ضخمة من التفاصيل بتتابع وتدفق ثَرى . (مروان حامد و أحمد مراد) ....مفاجأة الفيل الأزرق لعب المؤلف " أحمد مراد " دوراً محورياً فى اجتذاب المشاهد مثلما اجتذب القارىء بفضل حرفية لغة السيناريو الذى ألقى عليه عبئاً فى التنقل من اللغة الروائية للغة السيناريو السينمائي واختزال بعض التفصيلات التى لا تناسب الطبيعة السينمائية للعمل، كذلك كان موفقاً فى أختيار أسماء الشخصيات التى أوحت بعقدة كل منهم على حدا... " يحى " الذى كانت حياته راقدة بتابوت ماضيه وأعادته ملابسات الأحداث الى الحياة من جديد ، " شريف" صاحب أزمة الشرف المنتهك من روح شيطانية سجنته بداخلها ، "نائل " ذلك الشيطان الظافر الذى نال من زوجة شريف متجولاً بأركان ضعفه . كما استطاع "مروان حامد" مخرج الفيلم أن يوظف كثيراً مما فى جعبته السينمائية ليصل الى أعلى درجات إبهار الجمهور خاصة وأن اختيار أبطال الفيلم كان موحياً ومُشبِعاً لقناعة المشاهدين ، الى جانب قدرته على الإحتفاظ بكيان النص الروائى الأصلى ، حيث بدا للمشاهد طوال ساعات العرض أن هناك حالة من التلاحم والتوحد على مستوى الفكرة وأساليب عرضها بين المخرج والمؤلف ليخرج الفيلم للجمهور بروح واحدة . كما يُحسَب للمخرج قدرته على الإمساك بتلابيب الفكرة الرئيسية للفيلم الذى لم يكن مجرد فيلم رعب بقدر ما كان رصداً لمأساه اجتماعية يمكن أن تحدث ، ولكنها تُدار من خلال أبطال غير تقليدين فى دائرة من الصراع غير التقليدى مابين الظاهر والخفى ..المعقول واللامعقول ..المادى والمعنوى..الروحى والشيطانى وكأنها ملحمة ضلال انسانى بحت تنتصر لفكرة مفادها "متى وكيف تستطيع النفس البشرية ضبط ايقاعها الخَرِب تحت ضغط المؤثرات الحياتية المختلفة ؟" وقد أختلفت نهاية الفيلم عن الرواية بما يُحاكى العرض السينمائى ولا يُخِل بالفكرة الأصلية للرواية وهذا تصرف أدبى ذكى من المؤلف الذى اختار نهاية أقل إلغازاً من التى صاغها فى الرواية مع الإحتفاظ بها مفتوحة لتحمل روح الفضول المتأصلة فى النفس البشرية مهما أجترت معها من مشاكل . شخصيات الفيلم هناك اختيار أكثر من موفق لأبطال الفيلم سواء على مستوى الشخصيات الرئيسية أو الثانوية وكأنك تبنى على ملامحهم الأحداث وليست الأحداث هى التى نسجت ملامحهم ... وكانت الشخصية الرئيسية للفيلم من نصيب الفنان " كريم عبد العزيز" الذى خرج ب " لوك " يطابق بطل الرواية د. يحى راشد الذى يمر بأزمة صراع مع ذاته بعد وفاة زوجته وابنته فى حادث سيارة كان يستقلها تحت تأثير الخمر ، مما جعله يعيش عقدة الذنب ويعتزل عمله كطبيب نفسى بمستشفى العباسية ما يقرب من خمس سنوات غرق خلالها فى عالم الخمر والمخدرات والرذيلة. وتحت تهديد انذار بالفصل يعود د.يحى الى عمله وتطىء قدمه من جديد ذلك العالم المختنق خلف أسوار المستشفى ويخترق عوالم غير سوية داخل " قسم 8 غرب " الذى يعج بأصحاب أبشع الجرائم والمشتبه فى صحتهم النفسية . قدم " كريم عبد العزيز" خلطة تمثيلية ثرية جداً خلال تجسيده لشخصيه دكتور يحى الذى خصص رسالة الدكتوراة لدراسة لغة الجسد، الأمر الذى اعطى أهمية خاصة للتفصيلات الجسدية والتعبيرية لكل شخصيات الفيلم وكانت ممراً كاشفاً لكثير من الأحداث . أما " خالد الصاوى " فهو صاحب الدور الأكثر تعقيداً والبناء الدرامى المركب لشخصية " د. شريف الكردى" صديق قديم لدكتور يحى ونزيل قسم " 8 غرب " والمتهم بقتل زوجته بعد اغتصابها بطريقة وحشية والقائها من الطابق السادس والعشرين والمشكوك فى مرضه النفسى . تحدى "خالد الصاوى " نفسه فى هذا الدور وكأنه يمتطى جواداً جامحاً محدثاً نقلات منطقية ومفاجأة للجمهور بين شخصية شريف ، ذلك الطبيب المحتل جسدياً، ونائل ، الروح الشريرة التى التبست جسده بفعل وشم ملعون إمتد من أسفل معصمه لأعلى رأسه فى تطويق لعين لا خلاص منه ، ذلك الوشم الذى استدعاه طلسم أسود قامت زوجته القتيلة برسمه باحدى صالونات " التاتو " طمعاً فى إصلاح حياتهما الزوجية .والواقع أن "الصاوى " أضاف بآدائه الكثير للشخصية خاصة فى مشهد النهاية واحتراقه مع الأرقام الكائنة على الجدران والمكوِنة لفظ الجلالة " المانع " ،،، ظل مكابراً مستهزءاً أمام الأرقام وهى تحاصره إلى أن استشعر وهج "لفظ الجلالة " ، ظل يصيح بلغة غير مفهومة ثائراً فى عصيان أزلى بينه وبين الذات الألهية ليحترق تاركاً جسد " شريف الكردى " كالخرقة البالية. وعن " نيللى كريم " يمكن رصد إشكالية صعبة وهى كيف أن يلتزم الممثل مهما كانت قدراته الأدائية بحجم الدور درامياً ، وهذا ما قدمته " نيللى" ببراعة فى دور " لبنى " أخت " شريف الكردى" وصاحبة الحلم العشقى الذى استعصى منذ عشر سنوات على د.يحى .يأتى دور" لبنى" فى الرواية كنصل سكين ينبش عاطفة يحى ويحركها لإنقاذ صديقه وأخوها ، كانت عامل "الإيعاز" الذى يوسوس به " نائل " طوال الأحداث لغرائز "يحى" لكى ينزلق فى شهوة محرمة . بدت " لبنى" متحفظة ومتأخرة فى ردور أفعالها ولكن لغرض درامى كان فى الأساس أن قصتها مع يحى لم تكن لب الموضوع ، بل كانت قاسماً مشتركاً بين رغبتها فى انقاذ أخوها من الإعدام وبين سعى " نائل " لإستخدامها كورقة رابحة فى صراعه المستمر طيلة الأحداث مع يحى . وعلى مستوى الشخصيات الثانوية فى الفيلم .. نجد سامح " محمد ممدوح" وهو وجه جديد جسد ببراعة دور الطبيب الحاقد والكارهة ليحى والذى حاول اقتحام الصراع بينه وبين شريف بدافع الإنتقام ، كذلك ديجا " شيرين رضا" صاحبة الوشم اللعين الذى رسمته على جسد زوجة شريف واستدعى كل هذه اللعنة ، فكانت بصوتها الأجش ، نظراتها المريبة، ملابسها السوداء ومكياجها القاتم تتحرك بقوة داخل أبعاد الدور لتغذى غموض الأحداث .. كما كان للمشهد الوحيد الذى لعبته الوجه الجديد دارين حداد " مايا "- رفيقة يحى – علاقة وصل معبرة تشرح ما هو "الفيل الأزرق" الذى بدا كاسم محير للرواية والفيلم ، وهو أحدث ما عرفه عالم الكيمياء المخدِرة ، أقراص جلبتها لصديقها يحى ليدخل فى نشوى مثيرة ، فإذا بها تقلب حياته رأساً على عقب وتدخله فى أنفاق كشفية عجيبة تمكَن من خلالها أن يفك اللغز ويخترق عالم " نائل " ، وهنا تظهر فلسفية دور "عم سيد" ذلك الساعى الكهل الذى كان يعمل بمستشفى العباسية ، ظل عم سيد يقذف ليحى طوال الأحداث بمفاتيح ورسائل غامضة رغم كونه شخصية افتراضية غير واقعية ، كان مفتاحاً للغز و" روحاً طيبة " موازية لروح "نائل " الشريرة ، والتى ألهمت يحى أثناء رحلته مع أقراص الفيل الأزرق لإختراق هذا العالم السفلى وطرد "نائل" من جسد "شريف" . موسيقى الصوفية والجرافيك ... أبطال خفية فى الفيل الأزرق لابد من التوقف عند الموسيقى التصويرية ل " هشام نزيه" منذ أن تسللت لآذان المشاهدين فى تتر المقدمة وكانت أشبه بإيقاع داخلى غامض يحرك المتفرج نحو عالم غير مفهوم ، كأنها تجىء من تحت الأرض فى صورة وسوسة ملعونة تتخللها تواشيح " النقشبندى" فى أصداء بعيدة لتجسد حالة من التحدى والصراع القابع بداخل نفس بشرية ضعيفة تتأرجح ما بين إيمان مضعضع وإلتباس شيطانى عَصِىَ . وعلى مدار ما يقرب من ثلاث ساعات مدة عرض الفيلم تراقصت موسيقاه على أعصاب المشاهد ، فكانت المؤثرات الصوتية موظفة داخل الفيلم بتفرد شديد ، كما وظف "نزيه" الموسيقى الصوفية فى تجسيد جزء غير منطوق من مضمون النص المكتوب ، تلك الجزء الخاص بحوار الذات وإرتباك الأفكار وتتداخل العوالم المختلفة على مسرح الأحداث ما بين عالم الجريمة الغامضة والمرض النفسى المحير ، عالم السحر الأسود ولعنة المخدر وغيرها من الحالات المتناقضة العاصفة بمشاهد الفيلم . وعلى مستوى المؤثرات المرئية بلغ الإبهار البصرى منتهاه بعدسة المصور الرائع "أحمد المرسى " لتشعر وكأنك تشاهد الفيلم بتقنية ال "7D" ، كما اتبع تقنية "Slow Motion" فى بعض المشاهد لتسليط الضوء على فكرة بعينها ، وكذلك تكنيك "Short Shots" الذى اعطى إيحاء برؤية صور ذهنية متراكمة ذات ترتيب خاص تشبه ألبوماً اُخذت لقطاته بعناية لتصل بالمُشاهد لحالة من العصف الذهنى سعياً لربط الأحداث واستنتاج مدلولاتها ، كما كان هناك اتساقاً بين مضمون الفيلم واستخدام كل من الظل والإضاءة غير المباشرة والصور النصفية لإضفاء المزيد من الغموض والإثارة والركض خلف لغز القصة . واستطاع فيلم " الفيل الأزرق " أن يقدم تقنية " الجرافيك" بإتقان سلِس - رغم حداثة توظيفه فى الأعمال السينمائية المصرية- ليخدم تراكم الأحداث ويبسط أعقد مشاهد الفيلم من حيث التفاصيل بما لا يخل بروح التوصيف الدقيق المهيمن على نص الرواية . كما كان لديكور " محمد عطية " دوراً مذهلاً فى شد انتباه الجمهور بدءاً من منزل يحى الذى تتهاوى بداخله أحلامه وكل اشياءه ، مروراً بقسم 8 غرب المسرح الفعلى لذروة الأحداث ثم شقة شريف الكردى التى كانت سرداباً مظلماً تقبع بداخله تفاصيل مبهمة من أرقام على الجدان وكتاب تاريخى به مفاجأة هامة تكشف " سر قميص " يتمتم به " شريف ل " يحى " من آن لأخر مستجيراً من لعنة " نائل " وانتهاءاً بحجرة العزل التى احترق بها نائل مع الأرقام المشتعلة على الجدران . والواقع أن " الفيل الأزرق " قدم دراما سينمائية مختلفة بمذاق "رَيعانى" لم تتذوقه السينما المصرية من قبل ، ولم يتم تداول نفس المضمون الدرامى للفيلم بكل هذا الثراء وبمثل هذه الحبكة من قبل ، ولم يكن هناك من المؤثرات والتقنيات الحديثة ما يخدم إيضاح الفكرة بهذا المستوى من الإبهار ، كما عكس الفيلم روحاً متناغمة بين طاقم العمل ككل حتى يخرج للجمهور بهذا المستوى المرتفع من الحرفية والإبداع ، فهو لم يكن مجرد فيلم "ساسبنس " ولكنه سَابقة فى عدم تقليدية المعالجة والعرض مقدماً عِبرة هامة فى تناول رشيق حول "خلافية " الصراع الإنسانى وسبل إشعاله أو إطفاء جذوته وطرح التساؤل بِحُرية أمام المُشاهد ليصل بنفسه الى سر اللغز بأكمله