رجلان من تاريخ روما العظيم تركاها واتجها جنوبا عبر جدار بحر الملح المتوسطى، الأول هو انطونيو الذى ترك روما بحثا عن الحب والتميز والذكاء والمجد الذى وجده فى كليوبترا سليلة البطالمة المقدونيين أحفاد الاسكندر الأكبر، وقاده بحثه عما فقده فى روما وابتعاده عن الانتقام الى فقدان روما والموت فوق رمال مصر صانعة الحضارة، والرجل الثانى الذى ترك روما اختيارا فى العصر الحديث هو بتينو كراكسى مؤسس الحزب الاشتراكى الإيطالى الذى انطلق من بلدية باليرموا باتجاه روما وصنع مجدا ليس لحزبه فقط ، بل لروما كلها. فقد استطاع بحنكته السياسية وقدرته على الرؤية المستقبلية ان يصل الى رآسة الوزراء فى ايطاليا وأن ينهض بالصناعة والانتاج وان يبعث الروح فى روما، وقام بتجنيب روما أعباء المواجهات فى فترة الحرب الباردة بين المعسكر الشرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى وبين حلف الناتو بقيادة الولاياتالمتحدة ، فنجح الرجل فى السياسة كما فى الاقتصاد ، وبدلا من ان تحفظ له روما حق الريادة والتقدير هبت عليه رياح الانتقام والفساد ، فخنقته روما التى احبها والتى صنع لها بريق لا ينكره أحد، فقرر الرجل الاتجاه جنوبا الى ضفة المتوسط الجنوبيه وجعل من مدينة الحمامات التونسية مقرا له فى حياته ومماته ، وهو يرقد الآن فى أحد مدافنها شاهدا على قسوة روما وجموح ساستها وانتقامها المروع ، فكل الطرق لم تعد تقود الى روما كما قال سبارتاكوس ، بل إن الكثير من الطرق لا تتجه الى روما.
لقد كان السيد بتينو كراكسى رجلا عالميا ذا نظرة مستقبلية مهمة ، ومنذ أيام صدر فى روما كتاب بعنوان كراكسى : نظرة على العالم ، وتناول الكتاب كيف استبق الرجل عصره وتحدث عن سيرورة السياسة والاقتصاد ، وكيف تنبأ بالنهوض الصينى وعن مكانة الدول القادمة سواء فى آسيا أو أمريكا اللاتينية وضرورة مساعدة الدول وفهم خصوصيات الشعوب ، لقد ترك الرجل إرثا كبيرا من الافكار والمساهمات تساعد فى مواجهة مشاكل الحاضر والمستقبل ، لقد كان يتطلع إلى العالم بعيون الأمل الممتزج بجراءة الأبطال والفرسان وعقلية المبتكرين وحكمة العقلاء ، وكان ملتزما بقيم الديمقراطية والحرية والسلام والرفاه ، وهو ما انجز الكثير منه فى روما التى عاندته فتركها ورحل كعاشق اصيب بخيبة امل فى من أحب ، وبعيدا عن المعاندة وروح الانتقام قدم كراكسى قراءة غير عادية لديناميكية الاحداث الدولية بفكر معاصر حديث ورؤية واضحة محددة المعالم ، فكانت له افكار سابقة لعصرها واعطى براهين ودلائل على افكاره ، سواء فى السياسة او الدين او التاريخ ، وهو يعتقد ان روما التى صنعت القانون والدولة الحديثة لا ينبغى لها التفريط فى منجزاتها ، لقد تناول التناقضات الدولية وكان من دعاة الحوار والمناقشة بعيدا عن لغة القوة والتهديد ، وكان يحترم القيم العالمية وحقوق الانسان التى يجب ابعادها عن الاستغلال السياسى ، التى جعلت منها سكينا مسلطا على رقاب بعض الحكومات المعاندة ، وهكذا قدّم كراكسى للاجيال خيارات كثيرة ومتعددة فى الفكر والسياسة والاقتصاد من اجل الارتقاء والرخاء ، وحاول التأكيد على حق الاجيال فى المعرفة والعلم والعمل ، وكان يقف الى جانب الشعوب المضطهدة والمقهورة كقضية فلسطين ، وكان يدعو للتركيز على الاسباب وليس النتائج فى اى مشكل بين الدول ، كان عقلية متنوعة فى عالم منغلق على نفسه عقلية نفتقدها الآن فى عالم يتصارع ودول تريد فرض الأحادية والهيمنة والاستفراد والاستحواذ على كل شىء ، وهو ما كان يمقته كراكسى روما الذى كانت سنوات حكمه لايطاليا رئيسا للوزراء سنوات شهدت له بالتميز محليا ودوليا حتى ان مارجريت تاتشر أثنت على ذلك.
فلقد كان الرجل يطالب بسياسة مستقلة للدول تقوم على مبدأ الاحترام والمصالح المشتركة والتعاون وهو ما يفتقده عالم اليوم ، وكان يدعو لفهم اعمق لمشاكل الدول الصغيرة والهجرة والبطالة ويدعو لمساعدة شعوب العالم الثالث ويطالب بردم الهوة والفجوة المتزايدة بين دول الشمال والجنوب لصناعة الاستقرار العالمى ، وكانت له رؤية متوسطية استشرافية لمساعدة شعوب المتوسط فى الرقى والتقدم ، فكان يريد للمتوسط ان يكون خال من الاساطيل وان يكون بحر سلام وتعاون ، كما احب الرجل تونس ومصر ، وكان يكن تقديرا خاصا للحضارة المصرية ويعتبرها توأم بناء العالم ، وهكذا فكراكسى كان نوعا مميزا من الساسة الفلاسفة ممن يستحقون الدراسة والتأمل فى سيرتهم وما قدموه للاجيال ، ولعل العزاء فى فقدان هذه النوعيات المميزة من الساسة هو انه ترك وراءة من يحمل مشعله ويواصل السير قدما بأفكاره ، فابنته السنتوره ستيفانى كراكسى أثبتت انها خير من يصون إرثه وأفكاره لنشر السلام والتعاون بين الشعوب .