إذا ما دأب أحدُنا على متابعة أخبار العالم فى الصحف ونشرات الأخبار المرئية و المسموعة، وتلك المنتشرة فى عالم الإنترنت، فسيدرك أن العالمَ كُله فى صراعٍ طاحن .. سيدرك أن العالم كله فى حروبٍ، بعضها معلن وبعضها غير معلن، ولكن كلها غير محدد زمنه.. هذه هى حال عالمنا اليوم. وهذه الصراعات المختلفة بين الدول تختلف أسبابُها ودوافعها، فبعضها من أجل السيطرة والهيمنة على مقدرات دولٍ أخرى و البعض الآخر من أجل فرض إيديولوجيات سياسية بعينها، وهناك من الصراعات ما تعود أسبابُه إلى جذورٍ دينية بحتة. وفى هذا الطقس الدولي المُلَبَّد بالغيوم، تبحث الدول عن الأدوات التي بها تستطيع خوض غمار تلك الصراعات، بغض النظر إن كانت على حقٍ أو كانت على باطل. وقد يتبادر إلى الأذهان بعضٌ من تلك الأدوات المهمة، كتسليح الجيوش بأحدث العتاد والسلاح والصواريخ بعيدة المدى والطائرات المقاتلة، وما إلى ذلك من مقومات العسكرية الحديثة. كما أننا لن نغفل أهمية الاقتصاد القوى والثروات الطبيعية التي تُسهم بلا أدنى شك فى قوة الدولة وقدرتها على مواجهة أي صراع. والسرد يطول فى شأن أدوات المواجهة من حنكة سياسية ودبلوماسية دولية وأجهزة مخابراتية، وهي تصب كلُّها فى قدرات الدولة و قوتها. ولكن هناك نوعا من الثروات قد تغفله العديد من الدول، وهي "ثروة العقول". وهي ثروة لا يراها ولا يدرك أهميتها إلا أصحاب العقول المتفتحة وأصحاب الرؤيا الواضحة والمُحنكين من الناس. و"ثروة العقول" ما هي إلا مجموع المواطنين المنتمين إلى دولة ما، ممن أصابوا من العلم الكثير وامتلكوا مقوماته وتمكنوا من أسراره، وأصبح لكلٍ منهم شأن فى تخصصه. فنحن نجد دولاً دون غيرها تتميز بعلماءٍ فى تخصصات شتى، بعضها فى علوم أساسية بحتة كالفيزياء والكيمياء والبعض فى علوم تطبيقية كالطب والهندسة والصناعات بأنواعها وعلوم الفلك وأبحاث الفضاء. و"ثروة العقول" لا تضم المشاهير من العلماء فقط، بل تضم أيضاً كل من هو متميز فى عمله ومُجيدٍ فى أدائه وإن كان عمله بسيطاً. فهناك من يتقلدون المناصب ويشغلون الوظائف، وهم أقرب ما يكون إلى الممثل الذي يؤدي دور الطبيب -مثلاً- و هو لا يمت للطب بصلة إلا بالبالطو الأبيض، والسماعة التى لف بها المخرج عنقه، وقد ألقمه مصطلحاتٍ طبية يحفظها ليلقيها أمام الكاميرا دون إدراك لمعناها. وهناك من الدول من تفتقر إلى تلك الثروة، ولكن بعضها لديه القدرة على استقدام واستيراد تلك الثروة من العقول واستغلالها بشكلٍ جيد، وبعضها لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً، فتظل فى معاناة وفشل مزمنين. والعديد من الدول المتقدمة أدركت أهمية "ثروة العقول" وتبنت هذا الفكر الراقي، واعتبرتها صناعة من ضمن الصناعات التي تهتم بها والتي يمكن تسميتها "صناعة البشر" ، فسخرت كل طاقاتها فى مجالي الصحة والتعليم لتنشيء ذلك الوسط الخصب لإنتاج عقول بشرية متميزة، تضيف إلى قوة الدولة وقدرتها على الاستمرار والمواجهة والنجاح، أي أنها استثمرت ثرواتها فى صناعة وتنمية "ثروة العقول" ، فمنها ينبع كل نجاح وتقدم. وعلى الجانب الآخر نرى دولاً قد أنعم الله عليها "بثروة العقول" لأسباب تاريخية وجينية، ولكنها أيضاً مُبتلاه ببعض ممن يعملون على تنفير تلك الثروة ودفعها إلى الهجرة والرحيل إلى دولٍ أخرى. فنرى الدول المستوردة للعقول وقد استمتعت بثرواتٍ من العقول لم تنفق في تكوينها مليماً واحداً واستلمتها هدية مجانية من تلك الدول المنفرة والمصدرة للعقول. والكثير من تلك العقول المهاجرة يذهب ولا يعود، مما يعتبر إهداراً لثروة قومية لا تقدر بثمن. وفى مصرنا لا أَجِد مثلاً للعقول المهاجرة أقرب إلى ذهني من الأطباء، فبينما تخصص القيادة السياسية فى هذه المرحلة الكثير من الجهد والمال والدعم فى مجالي الصحة والتعليم، إدراكاً منها لمقومات صناعة الإنسان وتنشئة العقول، نجد أن أوضاع الطبيب المصري تدفعه دفعاً إلى ترك العمل العام والانخراط فى العمل الخاص أو ترك الوطن كله و الهجرة بلا رجعة. وأسباب العزوف عن العمل الطبي العام عديدة، منها على سبيل المثال وليس حصراً، ذلك التقريع الإعلامي الثابت فى القنوات الفضائية التجارية والمُشوِّه للطبيب المصري الذي يحظى بكل التقدير أينما حل فى دول العالم، ومروراً بالأجور المتدنية و ظروف العمل الرديئة، خصوصا فى المناطق النائية وعدم وجود خطط واضحة للتدريب والدراسات العليا لصغار الأطباء، مما يجعل تطورهم العلمي أكثر صعوبة. ولا يفوتنا ذكر الحالة الدائمة للتعدي اللفظي والجسدي على مقدمي الخدمات الطبية دون حماية ودون تغليظ للعقوبات. ومن الأهمية بمكان أن نُذكِّر قيادات الصحة، بأن تحتضن أبناءها وترفع معنوياتهم واعتزازهم بذاتهم، خصوصا من الشباب الباحثين عن المثل الأعلى والقدوة التي يقتدون بها. فمع أهمية القطاع الصحي فى صناعة الإنسان و تنمية "ثروة العقول" نجد "عقول" القطاع الصحى فى حالة هرب وهجرة إلى الخارج، فى حالة من الإهدار لهذه الثروة القومية من العقول الطبية. وقياساً على هذا المنوال نجد نفس الحال فى قطاعات أخرى كثيرة. لذلك، من الواجب على قطاعات الدولة المختلفة، أن تتبع خطط القيادة السياسية فى الحفاظ على ثروة الوطن من العقول، وتوفير كل السبل لاستثمارها وتنمية قدراتها والدفع بها إلى الأمام، وليس بتنفيرها ودفعها إلى خارج الحدود. من الواجب علينا جميعاً أن ندرك ونستوعب فلسفة وأهمية "ثروة العقول" تحيا مصر ... بالإخلاص فى العمل تحيا مصر ... بالإيمان بالوطن تحيا مصر ... بثروتها من العقول