لا زالت ليبيا تمثل شرخا في ضمير العالم العربي خصوصا والمجتمع الدولي برمته، نتيجة لتدهور الأوضاع الأمنية التي لا زالت مسيطرة على ذلك الجزء العزيز من العالم العربي، منذ الإطاحة بنظام الرئيس الراحل معمر القذافي، ضمن سلسلة أعمال الفوضى التي اصطلح على تسميتها زورا بالربيع العربي. فالأوضاع الأمنية المتردية في ذلك البلد تشير إلى أنه أصبح مرتعا للعصابات الإجرامية، ومحطة رئيسية لتنظيم داعش الإرهابي ومقرا للعديد من قياداته البارزة، ونقطة انطلاق لتهديد أمن الدول المجاورة، فما تشهده بعض المحافظات المصرية من أعمال عنف وتفجير وإرهاب يرتبط ارتباطا مباشرا بما يحدث في ليبيا، وليس ببعيد ما أعلنته السلطات المصرية من أن أعضاء الخلية الإرهابية التي نفذت الاعتداءات المروعة بحق أقباط المنيا تلقت تدريباتها في ليبيا، على أيدي عناصر تنظيم داعش، وكذلك ما يحدث في شبه جزيرة سيناء التي تشهد مواجهات متواصلة بين قوات الجيش والشرطة المصريين مع الإرهابيين، كذلك فإن اعتقال القيادي الإرهابي البارز هشام عشماوي في مدينة درنة الشهر الماضي يشير بوضوح إلى وجود قيادات إرهابية أخرى. كذلك فإن كثيرا من الأحداث الإرهابية التي وقعت في تونس والجزائر تؤكد أن مجاميع كبيرة من الخارجين على القانون استوطنوا في ليبيا واتخذوها منطلقا لعملياتهم الإرهابية، بل إن كثيرا من تلك الميليشيات المسلحة لجأت للاستعانة بمرتزقة. الخاسر الأكبر بالتأكيد مما يحدث في ليبيا هو الشعب الليبي الشقيق، الذي يدفع فاتورة باهظة، من دمائه واستقراره ومستقبل أبنائه، مع غياب أي بارقة أمل تلوح في الأفق للقضاء على حالة الانفلات الأمني التي تضرب كافة أنحاء البلاد، في ظل اتساع الخلافات بين الأطراف السياسية التي لم تجد للأسف حرجا في الاستعانة بالميليشيات الإرهابية لتمرير أجندتها، وضمان بقائها على هرم السلطة، ولو على جماجم المدنيين الأبرياء. كما أن تباين المصالح الأجنبية يمثل عامل اختلاف أساسي يعيق التوصل إلى حلول سلمية، فما تريده فرنسا يختلف عما تخطط له إيطاليا، وكلا الدولتين كما نعلم ذات مصالح خاصة، ولهما أجندات ذاتية، واستطاعت باريس وروما تجنيد أتباع لهما يعملان على تحقيق مصالحهما. المشكلة الأخطر التي تحدث في ليبيا الآن هو أنها تحولت إلى مركز أساسي للاتجار بالبشر فاللاجئون الذين تتقطع بهم السبل وتتلاشى أمامهم أحلام الهجرة إلى أوروبا يتحولون إلى سلع تباع في وضح النهار، ويقدم كثيرون منهم على التنازل عن بعض أعضائهم البشرية في سبيل تدبير ما يلزم لاستكمال رحلة المجهول في غياهب البحر، وقد أكدت الأممالمتحدة تلك المعلومات، دون أن تمتلك القدرة على إيجاد حلول لتلك المأساة الإنسانية المتفاقمة، وهذا للأسف هو نهج تلك المنظمة الدولية في الفترة الأخيرة، حيث أصبحت تكتفي بإصدار التقارير والبيانات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. المطلوب الآن بكل وضوح هو موقف عربي قوي، دون انتظار أو تعويل على دور الأممالمتحدة، وذلك لإنقاذ هذا البلد العربي، وإيقاف نزيف أبنائه، وصون وحدته ورتق نسيجه الاجتماعي الذي تضرر بشدة، ووقف السطو الذي يحدث باستمرار على النفط الليبي الذي صار يسرق ويباع بصورة علنية. لذلك فإن من الواجب على الجامعة العربية التحرك السريع، وقيادة جهود موسعة لعقد مؤتمر دولي يضع حدا لاستمرار المأساة، والتوصل إلى حلول ملزمة، وإرسال قوات حفظ سلام تحت مظلة الجامعة لحفظ الأمن، واستصدار قرارات دولية ملزمة بتلك الإجراءات، قبل هذا وذاك كف أيدي الجهات العابثة التي تشعل فتيل الخلافات بين الأشقاء، وتمد الخارجين على القانون بالمال والسلاح، فالمأساة باتت أكبر من أن يتم التستر عليها أو غض الطرف عنها.