إذا أردنا أن نفهم سيكولوجية الفقر فى العالم، خصوصا فى نهاية القرن العشرين، فلابد أن نتطرق لذكر الديكتاتوريات الحديثة، ولعل أبرزها وضوحاً وتأثيراً هى الشيوعية، ولعل الكثير من العامة يردد أو يسمع ذلك المصطلح دون الانتباه اللازم أو حصره فى الجانب الدينى كما هو شائع، وخصوصا فى دولنا العربية. فبمجرد ذكر اسم الفلسفة أو الشيوعية تنعت بالكفر والإلحاد، ولعل تحريم دراسة الفلسفة فى كثير من الدول العربية لهو خير مثال على ذلك! دعونا أولاً نتحدث عن الفلسفة ونفصلها عن التيارات الأخرى والنظريات مثل الشيوعية (الماركسية).
الفلسفة هى «أم العلوم»، فهى تحتضن دراسة كل المعارف العلمية القائمة على التفكير والاستدلال والتجربة والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعية) والوجود واللغة والقيم والأخلاق والجمال والثقافات البشرية منذ وجود الإنسان على الأرض وغايتها حب الحكمة والوصول والبحث عن الحقائق.. إذن نحن أمام معان متسعة ومتعددة لدراسة الكون والتعرف إليه، وعلى الرغم من أن الكثيرين قد يقعون فى فخ اعتبارها علماً نظرياً فإن تطبيقاتها العملية تظهر بوضوح فى مجالات عديدة مثل الأخلاق والتعليم والقوانين والسياسة، وأعتقد أنه من هنا قد ربطها البعض بفكرة الشيوعية.
وتيار الشيوعية أو تلك النظرية التى أطلقها الفيلسوف الألمانى «كارل ماركس» 1818 / 1883، وحدد دعائمها على أساس مجموعة أفكار تتحكم فى التنظيم السياسى والمجتمعى والاقتصادى للدولة باعتبار كل ملكية للأفراد هى ملكية مشتركة مع الدولة لإنهاء الطبقات المجتمعية المتحكمة فى رأس المال والاقتصاد، ومن منطلق نظريته تلك التى كان يعتبرها مرحلة من التطور التاريخى للخلاص الإنسانى وخلق حالة من الرخاء والمساواة بين الناس، بالسيطرة على المجتمع وثرواته ومقدراته بالتساوي، وهذا ما كان يأمله من نظريته تلك!!. إلا أن جاء “فلاديمير لينين” وهو الرئيس الأسبق للاتحاد السوڤيتى وقائد الحزب البلشفى الشيوعى السوڤيتى الذى كان مقتنعاً بتلك النظرية وقدم تطبيقات وفرضها.. وقامت الثورة البلشفية عام 1917 وهى من الثورات القليلة الأكثر دموية ووحشية التى يذكرها التاريخ، فأول تطبيق قام به لينين وحاشيته هو توليهم القيادة والسيطرة وفى سبيل تحقيق تلك السيطرة قتلوا كل من تخيلوا أنه قد يمثل تهديدا على سلطتهم حتى من الشيوعيين، وقامت حرب أهلية فقضت على ما تبقى من الفكرة اليوتوبية لكارل ماركس من عدل ومساواة!.
وسرعان ما تولى “ستالين” الحكم وقام بأبشع الجرائم والإبادة التى أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن أربعين مليون نسمة، وكانت عواقبها الاقتصادية والإنسانية قمة القاع الإنساني. تماماً كما حدث فى بلاد أخرى مثل الصين وكوريا الشمالية وكمبوديا فى السبعينيات تحت حكم “الخمير الحمر” “وهم الحزب الحاكم السياسى الشيوعي” وهم المسئولون عن إبادة 1.5 مليون شخص، وتحولت الأفكار التى حلمت بالعدل والمساواة وازدهار الإنسانية والأخلاق بين البشر إلى كابوس من المعاناة والمذابح، ورسخت شتى التطبيقات الاستحواذية للمؤسسات لنزع موارد الشعوب والملكية الفردية ونشروا الفقر بدلاً من الرخاء.
هذه القصص القديمة وحيثما كنت أقلب فى صفحات كتب قرأتها منذ زمن بعيد وأهملتها وكانت الذاكرة قد أسدلت ستاراً على عقلى فمحت ما محت من تفاصيل وحجبت مآسى أزحت عنها الغبار قليلاً لتعود فى مخيلتى وتوقظ نفس الأحاسيس والأثر.. سأسرد لكم بعضاً منها. فى جمهورية أوزبكستان حالياً، والتى كانت ضمن الاتحاد السوڤيتى سابقاً ولها شهرة عريقة فى تاريخ الإسلام، فمنها خرج علماء أثروا الحياة الإسلامية والتراث مثل الخوارزمى والبخارى والبيرونى والترمذى والزمخشرى وغيرهم العديد.
كان القطن يمثل نحو 45 % من صادراتها وكانت جميع الأراضى فى ظل الشيوعية السوڤيتية تحت سيطرة الدولة، ومن ثم نالت استقلالها وتم توزيع الأراضى بعد عام 1991م، ولكن الفكر ظل باقيا فى أذهان من حكموا بعد ذلك.. وتولى “إسماعيل كريموف” رئاسة الحكومة وأدخل لوائح تنظم الزراعة والبيع فكان المزارعون يأخذون جزءاً صغيراً وتقوم الحكومة بالاستحواذ على الباقي.. وأصدر قراراً كان مثيراً للدهشة فى ذلك الوقت لتفادى دفع أموال لمن يملكون آلات ومعدات الحصاد.. فأمر بأن يحصد القطن “الأطفال”. وألزم المدارس والمدرسين بتوريد عمالة الأطفال لحصاد القطن وأصبحت المدارس فارغة تماما.. ولنقرأ معاً شهادة والدة اثنين من هؤلاء الأطفال “جولنا” كالعادة فى بداية كل عام دراسى فى شهر سبتمبر تم تعليق الدراسة وإرسال الأطفال إلى جنى القطن لم يطلب أحد موافقة الوالدين ولم يحصل الطلبة على عطلة نهاية الأسبوع، وإذا غادر الأطفال لأى سبب من الأسباب إلى المنزل وترك العمل يقوم مدرسه بالقدوم إلى المنزل ونهر والديه ووصل بهم الأمر إلى تحديد وزن الطفل وما يقوم بجنيه من المحصول، وإذا لم يستطع يتم توبيخه أمام باقى الأطفال) وهنا انتهت شهادة الأم.
وعندما تذكرت تلك القصة التى تركت أثراً فى زمناً طويلاً ودائماً استوقفتنى وأثارت فى ذهنى العديد والعديد من الأسئلة، من المستفيد من قتل براءة وأحلام أطفال أبرياء لا يملكون القدرة الذهنية أو الجسمية على الاعتراض لاغتيالهم؟!! أدركت منذ ذلك الوقت أن المستفيد الرئيسى من هدم الإنسانية بداخلنا هم النخب السياسية التى تريد حفر لوحة من الفسيفساء لمجد قائم على ظلم البشر !! تلك هى نهاية الأفكار التى وضعها إنسان كان يحلم مجرد حلم بإنصاف البشر.